22 نوفمبر، 2024 10:21 م
Search
Close this search box.

الثقافة تنشيط ذاكرة الفكر

الثقافة تنشيط ذاكرة الفكر

تعد الثقافة تنشيط ذاكرة الفكر، على اعتبار انها ديمومة تغذي حقل المعرفة بمياه التطلع بشتى منابعه؛ فالثقافة لولاها لما استطاع الفكر أن يقوّي نشاط ذاكرته الآيلة للنسيان، خصوصاً إذا أبتعد الانسان عن حقل المعرفة الذي يشع بمختلف العلوم والثقافات المتنوعة. والثقافة هي فن توسيع مدارك العقل بغرض تعزيز هذه المدارك، فبدونها سيصبح العقل كالأرض البوار لا تنتج غير سفاسف القضايا الثانوية التي لا ترتقي ومتطلبات العصر الحاضر الذي يضيء بعلوم ومعرفة تجاوزت حدود الماضي بأميال طويلة، وهي تسابق ريح التقدم والتطور الحضاري والمعرفي بكل ابعاده وقضاياه نحو التطلع. ويبقى الفكر متعطش لشتى الثقافات والاطر المعرفية، طالما كون الفكر يحمل في طياته انف يتطلع لشم عبق ريح المعرفة بكل تجلياته، ويروم أن يسدّ مسامات الفراغ المعرفي الذي يشعر بين آونة واخرى بإفراغ محتواه، نتيجة للتطور الذي يحصل في مديات الحياة التي تسير خلف منابع المعرفة بكل نشاطها، كي لا ينتابها الظمأ المعرفي الدائم التوهج والانبثاق في هذا الزمن، وفي كل زمن، طالما أن الزمن يتحرك كما تتحرك الآلة أو العجلة في الطريق المعبّد الخال من المطبات. ولا تُنشط ذاكرة الفكر الا بمضغ خلاصة علوم العصر ومن ثم هضمها لتصل سائغة وهنيئة الى خلايا الذهن كي تمس شغاف الوعي، والذي يعتبر هو المرحلة الاخيرة من الادراك والنضوج، وبه تكتمل أدوات الثقافة الصحيحة في طريق الوصول إلى الحقيقية التي ينشدها كل فكر متطلع ويريد أن يمسها من شغافها وعن كثب، وما بعد الحقيقة الا الضلال والتيه في محطات الظلام وطمس الواقع الراهن بكل مغزاه.
ولا يحصل كل هذا الا بطموح وارادة كما يؤكد آرثر شوبنهاور في كتابه (العالم إرادة وتمثلا) وبهذا الكتاب يفسر شوبنهاور العالم بأنه قائم على إرادة ولا تتحقق هذه الارادة الا بإرادة الانسان نفسه، وأن الارادة هي متعددة الوجوه وليست إرادة واحدة تصب في اطار أو مغزى واحد ذي اتجاه محدود قد لا يعي غيرها من الارادات الاخرى، بمعنى آخر أنّ كل انسان (يريد) والذي يريد يشقى والذي لا يريد لا يشقى، فالحياة تريد والوجود يريد والموت يريد، وغريزة الجنس تريد وكل شيء بالوجود وفي العالم يريد، وبالتالي فكل شيء هو عبارة عن إرادة.
وإذن، إنّ ذاكرة الفكر تتنشط طالما تجد من ينشطها ويسعى دوماً الى تنشيطها عبر وسائل وبيانات متعددة ومتنوعة في آن معاً، ولا يحدث ذلك الا برشف معين القراءة العذب، المشبع بصنوف العلوم والمعارف المختلفة الاتجاهات لا اتجاه المحدد ذا الايديولوجية الواحدة، مأخذاً بعين الاعتبار: إن الثقافة المؤدلجة ضيقة الخناق ذات المساحة غير المستوفية لشروط المعرفة المتنوعة، فهذه تضر اكثر مما تنفع، والسبب كونها تجري في منطقة محددة وثابتة، دورانها كدوران الناعور الذي يسير الليل والنهار معتقداً أنه يقطع مسافات شاسعة بحركته هذه، لا يدري أنه يدور حول نفسه. هذه الثقافة يمجها جميع المجتمعات المتحضر ولا تستسيغها، كونها عسيرة الهضم.
فما أحرانا أنْ نوغل في أرض معرفة تستوعب ثقافات ذات اتجاهات متنوعة، جدية، ننشط بها ذاكرة فكرنا كي نرى الاشياء، جميع الاشياء كما هي، أي على حقيقتها وعلى صورتها من دون رتوش. إن تنشيط ذاكرة الفكر هي بأمس الحاجة الى ذلك، لئلا يغزوها النسيان بعقر دارها، خصوصا إذا مالت الى الشيخوخة، لأن كل شيء قابل للشيخوخة، حتى الفكر؛ بل حتى الثقافة نفسها.

أحدث المقالات