كل قصيدة من قصائد السياب تعبر عن تجربة، وحياته غنية جداً بالتجارب، وتجارب السياب في شعره مشبعة بالمرارة والالم. ومن ابرزها تجاربه في الحب، والثورة والحاجة، والحنين الى الماضي، والمرض الوبيل. وفي اختياره لنماذجه البشرية يضع السياب كثيراً من المعاني ويهدف من ورائها التواصل الى اغراض جمة دون ان يسيء الى حيويتها او ان يتدخل في حركتها. ففي شعره دراسات عميقة لعدد كبير من النماذج البشرية، وتصويراً رائعاً لمظاهر الطبيعة والبيئة العراقية، ومجموعة جيدة من الصور الوثائقية ذات القيمة التاريخية، وسلسلة من الافكار والمفاهيم الانسانية. ومن بين ابرز النماذج البشرية التي احتواها شعره هي (المرأة المومس)، احد النماذج الحية التي تظل تعيش في مخيلتنا مدة طويلة، لانها خلقت لتحيا. وان تطور مثل هذه الشخوص (الانثوية)، يكثف مشاعر السياب حيال المرأة ويوضح حقده عليها وتخليه عنها شيئاً فشيئاً. فانه لم يقترب من صورتها (اي المرأة) بوصفها بائعة جسد الا بعد ان سقط المثال وانهارت احلامه الرومانسية المتلاطمة. حيث كان محكوماً على حبه لوفيقة ابنة عمه بان يتحطم على صخور الواقع يوم تزوجت ويوم عرف ان حبيبته صاحبة الشباك قد ماتت وان جسدها كطائر لم يفر من رأسه قط، وكل ما فعله بعدها هو انه اقفل عليه في معبد احلامه وحنطه، ثم صار يستدعيه كلما ارتطم بقسوة الحاضر.
لوفقية
في ظلام العالم السفلي حقل
فيه مما يزرع الموتى حديقة
يلتقي في جوهرها صبح وليل
وخيال وحقيقة
(قصيدة حدائق وفيقة)
وتهاوت امام ناظريه، مع وفيقة ست حكايات هوى لا هب زفر فيها الشاعر نيران لواعجه:
وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا
ولكن.. كل من احببت قبلك ما احبوني
ولا عطفوا عليّ عشقت سبعاً كن احياناً
ترف شعورهن عليّ، تحملني الى الصين
سفائن من عطور نهودهن، اغوص في بحر من الاوهام والوجد
فالتقط المحار اظن فيه الدرّ، ثم تظلني وحدى
جدائل نخلة فرعاء.
(قصيدة احبيني)
ثمة ظاهرة يطلق عليها علم النفس تعبير (النكوص) وهي ان يرتد المرء الى ذاته الى ماضيه، تعويضاً عن احباطات معينة.
لقد سقط المثال عند الشاعر بعد وفيقة ولبيبة ولميعة. وساعد تبلور الحس السياسي السائد آنذاك على ان يجد الشاعر في النقمة الاجتماعية على ذوي النعمة بديلاً لتلك الاحباطات، ولكن للشاعر جسد مادي، بقدر ما هو عقل وروح، فانغمس في تجربة الجنس المؤجر الذي ما كان الا سراباً ثم ارتد اكثر عطشاً واكثر تجربة ومرارة من قبل.
وعندما كان بدر يشعر بالوحدة ولا يستطيع ان يتمالك نفسه، كان يذهب الى مبغى بغداد. ولا بد من انه كان يعاني من وخز الضمير بعد مثل هذه الزيارات. فقد رآه صديق له في ساعة متأخرة من الليل جالساً على حافة الرعيف قرب المبغى بعد زيارة لاحدى المومسات هناك. وكان قد اشترى بضعة ارغفة من حانوت قريب وجعل يقطع الخبز قطعاً صغيرة يطعمها للكلاب السائبة التي كانت تحوم حوله. فلما اقترب منه الصديق رآه يبكي ورائحة الخمر تفوح من فمه.. وهذه الحادثة ترمز الى الحالة العاطفية والعقلية التي كان عليها بدر في هذه المرحلة الحرجة من حياته.
لقد كان وضعه مأساوياً حقاً، لقد تهاوت احلامه المثالية واحداً بعد آخر. وفجع بموت وفيقة وهي لم تجتز الثلاثين من العمر. وخابت تجاربه الاخرى في الحب. وقاده كفاحه السياسي اكثر من مرة الى التشرد والعوز والشقاء.
ان شاعرنا السياب، لم يولد في بيت تبحث في جنباته عن كسرة خبز فلاتلقاها، لقد نشأ في بيت كبير ذي خمس عشرة غرفة، وكان ابوه مشرفاً على بعض (اجربة) النخيل التي كان يملكها واحد من اكبر الملاكين في منطقة ابي الخصيب. وكانت الاسرة تملك عدداً من العبيد. لم يكن السياب فقيراً بل كان محروماً. كما ان رحيل امه المفاجئ، وتكوينه الجسدي وخيباته في الحب، كانت عوامل ساعدت على بلورة الحس الثوري في روح الشاعر، وبذاك الوعي استطاع ان ينظم قصيدته الطويلة (المومس العمياء) التي قدم من خلالها نموذجاً شعبياً منسحقاً تحت (سنابك) الرجال.
بأي مقياس نظر الشاعر الى المرأة المومس واي مسار استخدم؟
ان شخصية المومس اثارت اهتمامه كضحية فقدت البصر. وقد ساعدته خبرته الشخصية وتجربته على ان يرسم صورة واقعية للعلاقات في المبغى، وساعده خياله كذلك على خلق قصة مؤثرة بطلتها مومس امتد بها العمر فاصبحت عمياء غير مرغوب فيها. لكن الشفقة لم تكن هدفه في هذه القصيدة، وان كانت عنصراً قوياً في القصيدة، انما كان هدفه ان يعرض للشقاء البشري الذي لا مبرر له، ويعري الظلم الواقع في الدنيا.
فلو كان العدل يسود المجتمع لزال كل شقاء بشري. لكن البناء الاجتماعي غير عادل، ولا سيما في توزيع الثروة والسلطة، لذلك فان الشقاء منتشر بين الناس.
لكن المومس ليست وحدها ضحية المجتمع الظالم. انما هي صورة مصغرة لهذا الظلم، اذ ان كل الاشخاص الاخرين في القصيدة ضحايا مثلها، بمن فيهم الشرطي الذي يحرس المبغى ليلاً بينما تمارس زوجته البغاء في وحدتها وفقرها، ولا يستثني منهم الرجال انفسهم الذين يقصدون المبغى.
الحارس المكدود، والبغايا متعبات،
النوم في احداقهن يرف كالطير السجين،
وعلى الشفاه او الجبين
تترنح البسمات والاصباغ ثكلى، باكيات،
متعثرات بالعيون بالخطى والقهقهات،
وكأن عارية الصدور
اوصال جندي قتيل كللوها بالزهور،
وكأنها درج الى الشهوات، تزحمه الثغور
حتى يهدم او يكاد. سوى بقايا من صخور
(قصيدة المومس العمياء)
ويردد في القصيدة نفسها:
هم مثلها- وهم الرجال- ومثل الاف البغايا
بالخبز والاخمار يؤتجرون، والجسد المهين
هو كل ما يمتلكون، هم الخطاة بلا خطايا
وهم السكارى بالشرور كهؤلاء العابرين
من السكارى، بالخمور.. كهؤلاء الفاجرين بلا فجور
الشاربين- كمن تضاجع نفسها- ثمن العشاء
الدافنين خروق بالية الجوارب في الحذاء،
يتسامون مع البغايا في العشيَ على الاجور
ليوفروا ثمن الفطور
(قصيدة المومس العمياء)
لقد صدرت قصيدة المومس العمياء في بغداد عام 1945 واعيد طبعها ضمن ديوان انشودة المطر عام 1960. وتحدثنا عن ابنة فلاح عراقي فقير قتل على بيدر حيث قيل انه كان يسرق. فغادرت الفتاة البريئة قريتها لتهرب من العار الذي انزله بها ابوها، لكنها وقعت في عار افظع منه عندما احتل العراق جنود اجانب استباحوا جسدها فاتخذت البغاء رزقاً مدة عشرين عاماً هرمت بعدها واصابها العمى ولم يعد يرغب فيها احد. لكنها كانت تنتظر الزبائن كل مساء في غرفتها بالمبغى على ضوء مصباح زيت تدفع اجرته. وهي لا شك سخرية مرة لا تستطيع المومس ان ترى نور مصباح الزيت في شقائها وعماها، بينما العراق يبدد ثروة زيته الذي يستغله الاجانب.
ويح العراق! أكان عدلاً فيه انكِ تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمناً لملئ يديك زيتاُ من منابعه الغزيرة؟
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟
(قصيدة المومس العمياء)
ولكن ما هي المعطيات والاخفاقات التي يمكن طرحها فيما يتعلق بفنية هذه القصيدة المطولة؟
اولاً- نلمس في كل القصيدة، ان مصير الانسان ليس مصيراً فردياً منعزلاً، انه جزء من المجتمع والتاريخ. وان في المجتمع قوى ظلم واضطهاد ودمار، ولكن فيه ايضاً قوى خير ومحبة. ففي المومس العمياء تتحرك الامور ضمن اطارها الموضوعي. الفرد هنا يعيش ضمن هذا الاطار، وفاجعته ليست خارجة عنه، انما هي جزء منه.
ما من شيء هنا يحدث اعتباطاً وصدفة. الموت ليس قدراً بلا علة، كموت الام، انه هنا نتيجة ظرف اجتماعي معين، والدعارة ليست نزوة انها ظاهرة اجتماعية. وقد استطاع السياب ان يحشد في قصيدته هذه مجموعة من المتناقضات التي تحفل بها الحياة العربية والتي تمثل الفساد والضعف والانحلال.
ثانياً- في قصائد السياب الطوال، هناك سمة اساسية تتمثل في ظاهرة الازدواج، ازدواجية في الشخوص، وازدواجية في العاطفة، وازدواجية في المبنى، وازدواجية في الموضوع الفني. ازدواجية الشخوص تعني كل شخصية في القصيدة تمثل فرديتها وتمثل نوعها. والازدواجية في العاطفة هي ان السياب في ظاهر قصائده يبدو عنيفاً قاسياً لا يرحم قارئه ولا يعطف عليه من ناحية اخرى يبرر هذه القسوة بانها من اجل الخير والحق والجمال والعدالة.
وازدواجية المبنى تعني انه يجمع في قصائده الطويلة بين الغنائية والاسلوب القصصي. وازدواجية الموضوع الفني تعني الجمع بين القبح الطبيعي وجمال الاخراج الشعري. فالمومس العمياء، موضوع قبيح اخرج اخراجا شعريا جذابا.
ثالثاً- قد يعود طول القصيدة الى تراكم في الصور التي ينبغي توظيفها للفكرة الجوهرية في النص، حيث لم يشأ السياب كبح جماح اندفاعه الشعري خاصة وانه كان ينتمي الى مدرسة غريبة عن الشعر العربي بشكله التقليدي (صدر، عجز، وقافية). انه شاعر التفعيلة الواحدة. ولعل السياب، رغم اشجان القصيدة، كان يشعر بلذة لم يعهدها من قبل، مصدرها التجربة العروضية الجديدة التي ادرجت تحت تسمية (الشعر الحر). ولما تمضي عليها بضع سنوات، أكان السياب سيلجأ الى ضغط القصيدة لو انه كان كتبها بالطريقة التقليدية ام انه استطعم جولة طويلة من نظم ذلك الشعر الذي هو رائده؟ الواقع ان الاطالة في القصيدة الحرة، هو واحد من اشد مزالق الشعر الحر خطورة.
رابعاً- بنى النص الشعري على اساس من القصة الواقعية وهي قصة مومس عمياء اقتطعها الشاعر كعينة من احدى شرائح المجتمع الاكثر والاشد انسحاقاً. بغض النظر عن التوجه الرومانسي لنظرة الشاعر وابراز صورة (المومس العمياء) بوصفها نموذج (حي- ميت) من الواقع. ايكون من قبيل المبالغة الافتراض انه اراد لشخصية المومس العمياء ان تكون رمزاً لارض في ظلام الجهل ؟
خامساً- بساطة لغة القصيدة الشعرية، حيث تعتمد على تنويع بسيط في استعمال التفاعل، ولكنها في الغالب تتكون من ابيات متساوية تتوافر قوافيها او تتوالى، وتعتمد اسلوب التعبير المباشر، وان كانت في مجموعها تقوم على الرمز.
الى اي مدى استطاع السياب توظيف الاسطورة في المومس العمياء؟
لعل المومس العمياء اكثر قصائد السياب تخمة بالاساطير، فهي مليئة باساطير الشرق والغرب.. ميدوزا، قابيل، اوديب، ابو الهول، افروديت، ياجوج وماجوج.. التي يشرحها عادة بدر في الهوامش. ثم هناك التضمين من الشعراء اسلافه.. ولكن القصيدة اصيلة في طابعها المحلي، انسانية في توجهها العام. فليس هناك شاعر عربي استخدم الاسطورة والرمز كما استخدمها السياب. ولقد اكثر منها حتى اصبح من النادر ان تخلو قصيدة من قصائده من رمز او اسطورة، وكانت الاسطورة احياناً تصبح جزءاً من القصيدة، بينما تظل في احيان اخرى مجرد كلمة من كلماتها، غريبة ومعزولة لا يبررها الا الهامش الذي يوضع لتفسيرها. ففي الحالة الاولى كانت الاسطورة تزيد القصيدة غنى، اما في الحالة الثانية فكانت تفقد القصيدة شعريتها او بعض شعريتها كما حدث في المومس العمياء.
ان الاسطورة بصورة عامة، والتي تعني الشعر هي الاسطورة التي تندمج بالتجربة الشعرية، لا التي تكون واجهة قصيدة. والاسطورة لكي تغني الشعر يجب ان تكون قادرة على اثارة المتلقي، بينما حشر السياب من اساطير الهند والصين واليونان واوروبا مالا يثير في القارئ العربي اي احساس. لكن دفق المومس العمياء الهائل بوصفه موضوع ذي بعد اجتماعي وغزارة السياب الشعرية حدا من استغراقه ذاك.
كعيون (ميدوزا) تحجر كل قلب بالضغينة،
وكأنها نذر تبشر اهل (بابل) بالحريق
(قصيدة المومس العمياء)
ويردد في القصيدة نفسها:
من هؤلاء العابرون؟
احفاد (اوديب) الضرير ووارثوه المبصرين.
(جوكست) ارملة كأمس، وباب (طيبة) ما يزال
يلقي (ابو الهول) الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال
باق كما كان السؤال، ومات معناه القديم
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه.
(قصيدة المومس العمياء)
ان السياب اراد من خلال المومس العمياء، ان يكون رومانسياً ثورياً يشي بذلك جو القصيدة العام، تعاطفه المباشر مع المومس، اخفاء الاسود والابيض على جوها العام.
فقد كان كثير الهواجس حول مسألة الشر والخير. حيث رفع المومس في الحقوق الى مصاف البشر العاديين الذين وقع عليهم ظلم ما، لكن هذه المساواة كانت تتطلب ان ينظر اليها بوصفها كائنا يوميا له افراح واحزان، تفاهات ودورة حياة. لكنه عاملها على انها نموذج لحالة اجتماعية لا كمخلوق من لحم ودم.
قد يكون للسياب بعض القدر بحكم التبعات الثقيلة التي انبثقت اثناء خلق القصيدة، فقد كان ما يزال مبهوراً بتجربة الشعر الحر حتى آخر لحظة من حياته. ثم لم يتخلص بعد من بصمات المرحلة السابقة يوم كان متأثرا بالشعراء الرومانسيين، عربا كانوا ام غربيين، ك الياس ابو شبكة، وجماعة ابولو، ورد زورث، كيتس، وشيلي.
كانت المومس العمياء، اسطورة بحد ذاتها في تكوينها القصصي، وفي دلالاتها وفي جيشان الشاعر بالمعنى الكبير، وبتقاطع المطلق بالواقع، والحب بالموت، وبحدة جرس القصيدة حيناً، وخفوقه حيناً آخر.
مات الضجيج. وانت، بعد، على انتظارك للزناة،
تتنصتين، فتسمعين
رنين اقفال الحديد يموت في سأم، صداه:
الباب اوصد
ذاك ليل مر..
فانتظري سواه
(قصيدة المومس العمياء)
* المراجع
1- ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بيروت، 1986.
2- عبد الجبار داود البصري- بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر، ط2، بغداد، 1986.
3- عيسى بلاطة- بدر شاكر السياب حياته وشعره، ط4، بغداد، 1987.
4- محمد سهيل احمد- ثلاثة اعاصير في حياة السياب، جريدة الرأي العام (الكويت)، عدد 8/ تموز/ 1987.