اقدام عملاقة
عادوا من المحكمة الملغاة ومعهم حكايات عجيبة لم اشهدها بنفسي ولكنها كانت متواترة، الى حد انه يكاد لا يوجد سجين سياسي لم يمر بها الا القليل جدا ونحن كنا لحسن الحظ من هذه القلة. كانت المديرية العامة اكبر معتقل سياسي وتضم الشعبة الخامسة الرهيبة المتكفلة بالشأن السياسي وبالأحرى المختصة بتصفية المعارضة السياسية ولذا كان يحتجز فيها اكبر عدد من السياسيين تمهيدا لمحاكمتهم الصورية في محكمة الثورة. محكمة سأروي لكم وفي حينه تجربتي معها وهو على كل حال كان مشهدا زمنيا قصيرا جدا ولكنه ثقيل للغاية ينوء بعبء حمل خلاصة تمثل واقع حقبة امتدت لثلاث عقود، الا اني ساترك هذا لوقته اما الان فلنقفل عائدين الى رواية مشهد آخر وان كنت انقله لا عن عيان انما عن سماع من مئات الاشخاص ممن التقيتهم او عشت معهم وكان لفرط ما يروى ويسمع كأنه اغنية شعبية يحفظها كل الاطفال.
ما ان ولج رفاقنا في الزنزانة قادمين من رحلتهم الى جلسة المحاكمة الملغاة التي حدثتكم عنها انفا، واذ ابصارنا تشخص الى اقدامهم العارية وسيقانهم لأنها كانت قد انتفخت وصارت غليظة مثل ساق شجرة معمرة بلا اغصان. هل رأيتم جذع سنديانة كم هو ضخم انها كانت كذلك كما لو انها تحمل عملاقا لا اجسادا نحيفة شاحبة. كان تنافرا مقززا بين قاعدة عريضة وبناء رفيع مثل خيط اوشك على الانقطاع. لهذا اختلطت المشاعر بعشوائية عندما صاروا في مرمى ابصارنا وتوزعت بين فرحة برؤيتهم احياءً من جديد وبين تعجب لعودتهم واستفهام عن سببها لان من يغادر للمحكمة كان لا يعود وبين دهشة كبيرة من مظهر الارجل العملاقة وبين خوف من مسببها لأنها غالبا اعراض عقوبة جديدة لم نألفها وستطالنا عن قريب وتضيف هاجسا جديدا لسلة قلقنا التي تزداد ازدحاما بالهموم والمخاوف. ولربما اصح ما يمكن لي ان اعبر به عن حالنا في تلك اللحظات ان الامور قد اختلطت كثيرا وصار سمتها الغموض والابهام الكاملين وباتت ارواحنا لا تعرف اين تقف والى من تلجأ وتسكن. منحنا انفسنا جميعا فرصة لإيقاف ثورة الهلع هذه ولكبح الاسئلة التي امطر بها النزلاء الجدد القدامى وبعد ان انفرجت الاسارير بمجيء الضابط وهو يحمل بشرى ايقاف الاعدامات، بدأ اصحابنا برواية القصة العجائبية بروية وهدوء عن رحلتهم الى ارض العجائب.
– كنا في مديرية الامن العامة. هكذا استهلوا الحديث
وبدأ الوصف المسهب وبيان التفسير لعلة هذه الاقدام الضخمة في حديث طويل استمر اياما الا اني سوف اوجز كل ذلك كما افعل مع سائر ما حصل والا لو فصلت كل شيء فلن انتهي منها ابدا. المهم لنتوقف عن هذا الكلام الان ونكمل القصة، ان رفاقنا الأربعة قد احتجزوا هناك بعد الغاء المحاكمة في زنزانة طولها ثلاثة امتار وعرضها متران وفيها دورة مياه بدون باب مساحتها متر مربع واحد ولهذه المرحاض ثلاث جدر يصل علوها لأكثر من متر واحد بقليل وللزنزانة باب حديدي ضخم محصن موصد بأقفال كبيرة من الخارج ومغلق على الدوام فيه فتحة صغيرة في الاعلى يمرر منها الطعام الى القاطنين في الزنزانة. ولهذه الزنزانة فتحة واحدة للتهوية بحجم خمس وعشرين سنتمترا طولا وعرضا تقريبا توجد فيها مفرغة هواء صغيرة تناسب حجمها وخلف المفرغة وضعت صفيحة معدنية سميكة وبها ثقوب صغيرة كثيرة تسمح للهواء بالمرور منها وتحجب الرؤية كاملة عن اي مشهد في الخارج وحتى عن اي شعاع للشمس ويتدلى من السقف مصباح اصفر باهت فيما الارضية اسمنتية خشنة. الا ان كل هذا لم يكن امرا استثنائيا ولا حتى مثيرا للاشمئزاز بالنسبة لنا كما يبدو لكم الان و سوف يزعجكم هذا الوصف المقرف لهذه الزنازين وربما يسبب لكم بعض الآلام النفسية كما لابد ان يفعل بالعادة كما هو المتوقع لكل انسان ألف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها عندما يسمع قصصا كئيبة. قد رأيت بنفسي بعضا من اثار الحكايات التي كنت ارويها شفاها لبعض من اراد ان يسمع بعض الذي جرى وربما في المستقبل سوف اجد وقتا للحديث عن مخلفات هذه القصص في وجوه من حاولوا الاصغاء وحاول مخاطرا ان يتصور ما مررت به. وعندما اقول انها تسبب لكم آلاما نفسية فاني اعني ما اقول لأني اعرف طبيبا نفسيا فرنسيا حاول متطوعا مساعدتي بمعالجتي من اثار السجن الذهنية الا انه، ويا للمسكين اصيب بكأبة عندما سمع بهذه القصص وقرر ان يترك علاجي ليأخذ بعدها اجازة طويلة من العمل لمعالجة وضعه النفسي وحالة الكأبة الشديدة التي اصيب بها، بينما في الحقيقة انا لم احدثه الا بنزر يسير جدا وتأسفت كثيرا لما حصل به ، وهو ما جعلني لاحقا احترس بشدة عندما احدث غرباء عما حصل لي، لأني لم اعد اضمن ماذا سوف يحصل لهم من عواقب غير حسنة قد اكون مسؤولا عن حصولها وان لم اتعمد ذلك. اقول هذا احترازا للبعض فكما ينصحون الان قبل عرض بعض المقاطع في نشرات الاخبار التي تحوي عنفا لا ينصح به للكل متابعته، فاني انصحكم ان تكونوا ايضا متأكدين من قدراتكم قبل متابعة ما اكتب وتأخذوا الامر على محمل الجد. ما اكتبه لست حريصا على ان يقرأه الكل وليس هذا ما ابتغيه ابدا، انما هو قيح جاثم على صدري لا استطيع التنفس الا بإزاحته وتقيؤه وبين ان يكون مرامي منه بعث رسالة لمن يجب ان تصل اليه بان لا نقع في الخطأ ثانية ونستنسخ التاريخ لأني اؤمن بصلابة بان البشرية تسير دائما وابدا الى الامام والحمقى فقط هم من يدورون حول الساقية ويظنون ان الكون يدور معهم والتاريخ.
الامر الخارق للعادة كان العدد الذي يسكن في هذه الزنزانة فقد كان في احسن الاحوال سبعة وعشرون سجينا كما سمعت من عشرات الروايات ويبلغ في مناسبات كثيرة حتى الى ثمانية وثلاثين نفرا. امر لا يصدق فعلا فكيف يمكن ان يعيش كل هؤلاء في هذه الست امتار المربعة، ويجوز لي ان اقول انها خمسة فقط اذا اقتطعنا منها دورة المياه ولكن الحقيقة لا ينبغي ان اخفيها عليكم، فان افضل الاماكن كانت هي دورة المياه. طبعا ليس القصد عندما يختلي فيها السجين لأنه بالأصل لا توجد هكذا خلوة الا في الخيال، بل لأنها ارحب الاماكن للجلوس فيها وكان الوصول الى هذه البقعة الاثيرة يسير بالتناوب وفق نظام يشمل الجميع، وكم كان يسعد المرء حينما يصبح من نصيبه السكن في مربع دورة المياه. كانت فتحة المرحاض الشرقي تغطى بأي شيء متوفر يمكن ان يخفي الفتحة فقط لتصبح ارضا مستوية لا اكثر، وليس استنكافا من محتوياتها فإن هذه المحتويات تعاصر سكان الزنزانات ليل نهار في كل مكان زرناه لاحقا، ولم يعد اي سجين بحاجة الى الاستعلاء عن روائح اي من هذه الاماكن. كان كل المطلوب من هذا الغطاء للفتحة ان يصبح مترا مربعا حقيقيا بلا تجاويف تشوه المساحة الافقية ليغدو بعدها نزلا يتسع لأربع اشخاص محظوظين. قد تكونوا الان ادركتم سبب تضخم اقدام رفاقنا الذين عادوا الينا من تلك الزنازين واذا لم تدركوا ذلك لحد الان فسأحدثكم عنه لاحقا لأني لا اريد ان اتوقف عن تسبيب الاوجاع لكم اكثر مما فعلت حتى الان.