أوروبا الجنوبية
اندفعت أوروبا الجنوبية لفترة ما، إلى قلب الفكر (والتحرك) الانتقادي، ابتداءً من زعام 1968 الطويلس والسبعينيات في إيطاليا
. وكانت قوة الحركة كافية للتأثير على حكومة زيسار الوسطس لتلك المرحلة، رغم انطواء الحزب الشيوعي الإيطالي على ذاته، الأمر الذي كان سلبياً.
وقد طويت هذه الصفحة المجيدة من تاريخ إيطاليا، وهو يثير التساؤلات عن ضعف المجتمع الذي سمح بانطوائها. وعلى أقل تقدير، يدل هذا على غياب الشعور القومي بالمواطنة، وهو مايمكن تفسيره بالقول إن حكام الولايات الإيطالية، كانوا في أكثر الأوقات غرباء عن شعوبها، التي رأت أنهم خصوم يجب مقاومتهم بقدر الإمكان. ولم تتغلب الأمة الإيطاليةذ وهي موجودة بالفعلذ بما يكفي على هذا العائق، وهو ما أضعفها بما سمح بقيام هذا الانطواء الخطير الذي تمثله زعصبة لومباردياس. وتتمحور هذه النكبة حول ظهور نوع من الشعبوية تتغذى على صعود الفاشية من القاع للسطح مرة أخرى. ففي إيطاليا، مثل فرنسا، كان التحرر بعد الحرب العالمية الثانية، يكاد يكون حرباً أهلية. ومن هنا، اضطر الفاشست للاختباء طوال العقود التي تبعت عام 1945، ولكنهم لم يختفوا أبداً، في الحقيقة.
ومع ذلك يصعب فهم مثل هذا الانطواء، دون استدعاء السببين الآتيين: أولاً هشاشة تطور اقتصاد البلاد، رغماً عن زالمعجزةس التي حققتها حيث يعيش الإيطاليون اليوم في مستوى أعلى من البريطانيين. وهي هشاشة يتجاهلها الخطاب المدائحي عن زإيطاليا الثالثةس وسرأسمالها الاجتماعيس الاستثنائي. والثاني أن الاندماج في أوروبا كما تتصوره ماستريخت) قد شجع التدهور والأوهام المترتبة عليه. وفي رأيي أن الاختيار الأوروبي دون تحفظ، الذي ساد كل المجال السياسي الإيطالي، هو المسئول الأول عن الطريق المسدود الذي سارت فيه البلاد. ومرة أخرى، أعتقد أن بداية انتقادية في مكان آخر، ستجد صداها في إيطاليا، التي تبقى مستعدة للمشاركة في تصور التغير.
كذلك أدى الانضواء المتعجل دون تروٍ في المشروع الأوروبي بحالته الراهنة، بقوة لإجهاض إمكانات التوجهات الراديكالية للحركات الشعبية التي وضعت حداً للفاشية في إسبانيا، والبرتغال واليونان.
وقد كانت هذه الإمكانية، في الواقع، محدودة في إسبانيا حيث اختفت الفرانكوية بمجرد وفاة رئيسها، في حين أن المرحلة الانتقالية كانت قد أعدتها بعناية البرجوازية ذاتها التي كانت العمود الفقري للفاشية الإسبانية. وكانت المكونات الثلاثة للحركة العمالية، وهي الاشتراكيون، والشيوعيون، والفوضويون، قد اقتلعتها الدكتاتورية الدموية، التي استمرت على دمويتها حتى السبعينيات (وكان الإعدام قتلاً بالرصاص يجري حتى ذلك الوقت)، وهي الدكتاتورية التي ساندتها الولايات المتحدة في مقابل عدائها للشيوعية، ومنحها القواعد للقوات الأمريكية. وفي عام 1980، فرضت أوروبا على إسبانيا كشرط لانضمامها للجماعة الأوروبية، أن تنضم لحلف الأطلنطي، أي أن تخضع نهائياً، وبصفة رسمية للهيمنة الأمريكية!
ومع ذلك، فقد حاولت الحركة العمالية أن تلعب دوراً في المرحلة الانتقالية، عن طريق زاللجان العماليةس التي تكونت في ظل ظروف السرية خلال أعوام السبعينيات،.وكان من الواضح مع الأسف، أنه نظراً لعدم القدرة على تجميع بقية قطاعات الطبقات الشعبية، والمثقفين، فإن هذا الجناح الراديكالي من الحركة لم يستطع أن ينتزع من البرجوازية الرجعية، قيادة المرحلة الانتقالية. ومن المفهوم إذن، الارتباك، بل ربما التخبط، الذي أصاب الشيوعيين القدامى والراديكاليين الآخرين.
وفي المقابل، كانت الإمكانات الراديكالية للقوات التي هزمت بالفعل الفاشية في البرتغال، واليونان، أمراً لا يمكن تجاهله. وقد تبع هبة القوات المسلحة، التي أنهت المرحلة السالازارية في أبريل 1974، انفجار شعبي ضخم كان الشيوعيون عموده الفقري، سواء من الحزب الشيوعي الرسمي، أو الماويين، وكان الجو في لشبونة أكبر دليل على ذلك. وكان كارفاليو يحرك الاتجاه العالمي- الدولي للفريق القائد في البرتغال، وهو لم يكن يثقذ عن حقذ في زأوروباس بحالتها الراهنة. وقد أدت هزيمة هذا الاتجاه، واعتقال كارفاليو لتحول ساعد قوى اليمين. ونقل السيطرة من مدينة لشبونة والجنوب حيث اليسار هو الأقوى، إلى الفلاحين الكاثوليكيين التقليديين في الشمال الذين يخرج من بينهم أغلب المهاجرين البرتغاليين في أوروبا. وهكذا انتقلت قيادة اليسار إلى الاشتراكيين غير الشجعان. ومنذ تلك الفترة، غرقت البلاد سياسياً في سبات عميق، وما بقي من الحركات الثورية، يعيش في حنين لأعوام 1974/1975.
وفي اليونان كذلك، لم يكن اختيار الانضمام إلى أوروبا في حالتها الراهنة، أمراً مفروغاً منه غداة سقوط حكومة الكولونيلات. والشعب اليوناني لم ينسَ أن الولايات المتحدة وأوروبا قد دعمتا هذا النظام الفاشي، حتى وإن كانت فرنسا قد استقبلت عدداً كبيراً من المثقفين كلاجئين سياسيين.
وحتى إذا كان الحزبان الشيوعيان (في الداخل والخارج)، لهما تحفظات على شخصية باباندريوذ بسبب الطابع الأبوي لقيادتهذ وعلى عدم تجانس حزب الباسوك، فإنهم جميعًا كانوا يتقاسمون جميعاً إرث حركة زإيامس. وكان الحزب الشيوعي قد نجح في أثناء الحرب العالمية الثانية، مثله مثل الحزب اليوغسلافي، في حشد الجبهة الموحدة ضد الفاشية حوله. ومن هنا فقد كانت اليونان ويوغوسلافيا، البلدين الوحيدين في أوروبا اللذين لم يكتفيا زبمقاومةس الغزاة الألمان مثل بقية البلدان، وإنما قادا باستمرار حرباً حقيقية لعبت دوراً حاسماً في الانهيار الكامل للقوات الإيطالية في عام 1943، وفي حجز قوات ألمانية كبيرة على أراضيهما. ولكن المقاومة اليونانية، التي صارت ثورة في عام 1945، قد تعرضت للهزيمة على أيدي القوات الأمريكية والبريطانية. أما اليمين اليوناني الذي تولى السلطة بفضل هذا التدخل، فلا يمكنه ادعاء أنه قام بأي مقاومة، بل إنه الذي قام بإدماج البلاد في حلف الأطلنطي (إلى جانب تركيا!)، والذي يقوم في ظله المشروع الأوروبي بحالته الراهنة. بناءً عليه، لا يصعب فهم تشكك الطبقات الشعبية اليونانية، وقياداتها السياسية، في دعوات الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ابتداءً من عام 1980، وهو تشكك ذو أسس سليمة.
وللحديث بقية
نقلا عن الأهرام