23 نوفمبر، 2024 7:11 ص
Search
Close this search box.

انا وصدام حسين

كان يوم جمعة من صيف عام 1975 حين أتفقت مجموعتنا المدرسية في الذهاب بسفرة قريبة من محل اقامتنا بأتجاه المطار الدولي للعاصمة بغداد ، كانت اعمارنا لا تتجاوز الثانية عشرة واغلبنا طلاب في الصف الخامس والسادس ابتدائي . بنات وبنين يزيد عددنا على الاربعين وبرفقة معلمين اثنين ، احدهم كان ينتمي باخلاص الى الحزب الشيوعي العراقي  والآخر كان ينتمي الى حزب البعث الحاكم وايضا بأخلاص ، وكانت الجبهة الوطنية التقدمية في تألق وزهو وينتظر الجميع ثمارها في بناء العراق ، إلا ان الانتظار باء بالفشل الذريع وادخلت البلاد بدوامات العنف والاعدامات التي نالت من الحزب الشيوعي بعد ان تفرد صدام حسين بالسلطة عام 1979 ! تجمعنا نحن الطلاب قرب باب المدرسة وكل واحد منا جلب امتعته من الطعام والشراب في كيس صغير وبدأنا المسير بأتجاه مطار بغداد من منطقتنا التي تقع بمحاذاة شارعه الجميل الذي تحيط به اشجار الكالبتوز بطريقة رائعة وكذلك تنتشر في وسطه الكثير من الحدائق المكتظة بالورد واشجار الزينة . ومنذ ستينات القرن الماضي يعتبر شارع المطار الدولي من أجمل شوارع العراق لا بل هو اجمل شارع يؤدي للمطار في كل الدول العربية وحتى الاوربية ومازال على جماله حتى هذه الايام ، كنا نسير في حديقة الشارع الوسطية التي لا يتجاوز عرضها المئة متر تقريبا ، مضت اكثر من ساعة ونحن نسير في خضار الحدائق حتى تجاوزنا مناطق كثيرة تطل على الشارع كان آخرها منطقة العامرية ، حتى شارفنا على الوصول الى نادي الصيد الذي نسمع به ولم نراه من قبل ، فعادة ما يرتاد هذا النادي كبار رجالات الدولة في ذلك الوقت ، ويقع النادي على مقربة من مطار بغداد وهو معزول تماماً عن المناطق السكنية . ونحن نهم بالسير فقد ادركنا التعب والجوع في ذات الوقت الامر الذي اقترح علينا معلمينا أن نجلس ونتناول فطورنا خاصة وان الساعة قد شارفت على الثانية عشر ظهراً وقد قطعنا اكثر من خمسة كيلومترات من المشي المتواصل .
كانت السيارات التي تذهب باتجاه المطار قليلة جداً وكذلك العائدة منه الى المدينة ، وما ان اكملنا طعامنا كنت واصدقائي نشاهد سرعة السيارات التي تمّر ذهاباً واياباً ، حتى شاهدنا اثنان الواحدة بعد الأخرى وبسرعة عالية جداً ، كانت عبارة عن سيارتين سوداويتين من نوع المارسيدس نوع 280 وعادة ما تكون مثل هكذا نوعية ، سيارة خاصة بالوزراء او الشخصيات الكبيرة داخل الدولة العراقية ، وقد تعرفنا على نوعياتها من خلال الوفود والرؤساء الذين كانوا يزورون العراق في تلك الفترة فنقف بالقرب من شارع المطار نحيي ونشاهد الرؤساء ، واتذكر كنت قد شاهد مرات عدة الرئيس احمد حسن البكر وهو يستقبل ( جيف كوف ) وانور السادات ورؤساء وياسر عرفات واخرون ، كانوا يخرجونا من مدارسنا لنحيّي الوفود بسبب قرب منطقتنا من شارع المطار . ذهبت السيارات السوداء باتجاه المطار وكان حديثنا يتركز حول الشخصية التي داخل السيارة السوداء الامامية ، استبعدنا ان يكون الرئيس فعادة ما يكون موكب الرئيس كبيرا وتتقدمه الماطورات العسكرية التابعة للتشريفات ، مضت قرابة الساعة تماماً حتى قال معلمنا الاكبر بعد نصف ساعة من الآن سنعود من هذه السفرة باتجاه بيوتنا فالساعة تقارب على الواحدة ظهراً ونحتاج اكثر من ساعتين من المشي حتى نصل ، في تلك الاثناء التفت يميناً بالاتجاه الثاني للشارع النازل الى المدينة وكانت الدهشة قد اصابتني ، بعد ان القى السلام علينا شخص طويل عريض كان قد نزل من سيارته من دون ان ندري ، انه صدام حسين نائب الرئيس احمد حسن البكر ، ومعه كان مرافقه صباح ميرزا واثنان اخرون ومعه كذلك اولاده كان اكبرهم عدي وقصي وبناته ايضا ، لم يتجاوز عدي آنذاك عمره العاشرة او اكثر بقليل فهو بنفس اعمارنا تقريبا ! في تلك السنوات كانت شخصية النائب صدام حسين اقوى بكثير من شخصية الرئيس ، كذلك كان كثير الزيارات الميدانية والتفقدية الامر الذي كانت العائلة العراقية عليها ان تستمع لساعة او اكثر يومياً عبر التلفزيون لزيارات النائب في العاصمة بغداد ومحافظات اخرى . وعلى ما يبدو كان يخطط السيد النائب آنذاك لتسلمه السلطة بعد ان اجبر الرئيس على التنحي عبر مسرحية كشفت للجميع بعد فترة قصيرة ، اعود للقائنا معه ، الرجل اتذكر جيدا كان يرتدي بدلته الرسمية بلونها النيلي الغامق وكذلك من معه من مرافقيه ميرزا واثنين آخرين فقط واولاده ، سلمنا عليه جميعاً بحرارة اللقاء وقام بتقبيلنا جميعا الامر الذي وصل به حد التعب من العناق والقبل التي اخذت مأخذها منه ، في تلك الاوقات كنت قد قرأت القليل عن الجبهة الوطنية وما اسمعه من اخي وخالي حول الحزب الشيوعي وحزب البعث وكيف قاد البعثيون انقلابهم عام 1963 ودمويتهم ، وبالمقابل كنت اعرف جيدا السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي آنذاك وهو (عزيز محمد) وكنت قد قرأت نص خطابه حول الجبهة الوطنية التقديمة واحفظ قسماً منه على ظهر قلب . جلس صدام حسين نائب الرئيس على تلة صغيرة جداً تستخدم للسقي داخل حدائق شارع المطار وجلسنا جميعا امامه ، كان من ضمننا من هم في الصف الثاني والثالث الابتدائي فهم صغار جداً ولم يلتزم بعضهم بالهدوء والجلوس خاصة وان واحدة من البنات الصغيرات كانت كثيرة الانتقال من جهة يمين النائب صدام الى جهته اليسرى لتتحدث مع صديقتها بعد ان تقوم برفع يديه وهو يضعهن على ركبتيه اثناء جلوسه ، كان قد تحملنا كثيراً بعد ان سألنا من اي منطقة نحن وماذا نفعل في حدائق شارع المطار ، استلطف فكرة السفرات المدرسية بهذه الطريقة المتعبة لكنها في نفس الوقت جميلة وممتعة الى حد ما ، انثالت على السيد النائب الاسئلة الكثيرة ، احدهم قال له لماذا ليس في منطقتنا مركز للشاب ، والاخر قال له لماذا ليس لدينا مسبح او نوادي ترفيهية ، حتى مارس علينا ديمقراطيته بحيث حدد لكل شخص سواء كان كبيرا او صغيرا سؤالا واحدا فقط وسيقوم بالاجابة عليه ، بينما كنت اصغي لحديثه كنت افكر بالسؤال الذي سوف اطرحه عليه ، وبعد ان اجاب على الاسئلة الكثيرة والتي غالبيتها عبارة عن طلبات ، قال بأن الثورة في بداياتها الاولى وعليكم ان تصبروا قليلا حتى يتحقق اكثر مما تطلبون . ليرفع الاستاذ الشيوعي يده ويقوم بسؤال صدام حسين ، حول الجبهة الوطنية التقدمية وما هو مستقبلها ؟ اتذكر جيدا ان صدام حسين قال علينا كأحزاب وقوى وطنية ان نتحد ونقوم بخدمة الشعب والوطن ، لم اكن حين ذلك اعرف ماذا تعني كلمة ( تعقيب ) لكني شاهدت المعلمون حين يتحدث صدام حسين كانوا يرفعون ايديهم وحين يسمح لهم بمقاطعته كانوا يقولون له ( تعقيب ) ! ويتداخلون في نفس ما كان يتحدث به ، الامر الذي قلت انها فرصتي وبينما هو يتحدث عن الجبهة رفعت يدي ، كان ذكياً جداً فأنتبه ليّ باعتباري صغير السن ثم قال تفضل ، قلت له لديّ تعقيب على كلامك ! اندهش النائب مني لكن دهشته كانت بفرح ، قال تفضل يا ابني ، قلت له : بالنص  ان مختصر كلامك ينص على ان السيد الرئيس احمد حسن البكر قال . ثم ضحك وقال لي ماذا قال ؟ والقول هو لعزيز محمد سكرتير الحزب في توقعيه على اتفاق الجبهة ، لكني غيرت الاسم ونسبته للبكر حتى لا يقول عني باني من عائلة شيوعية ! قلت قال ( اننا نريد جبهة راسخة ، جبهة ذات افق ستراتيجية ومهمات ستراتيجة بعيدة المدى ، وما ان ينتهي طموح المرء حتى ان نصبح ثوريين بمعنى الكلمة والجوهر ) ! كان الخوف قد اخذ مأخذه مني والعبرات سكنتني ، لكن صدام ضحك وصفق لي بقوة ، ثم طلب ان اتقرب منه ، اقتربت ووضع يده على كتفي وقال للجميع صفقوا لهذا الولد الذكي والشاطر صفقوا. ثم قال صفقوا مرة اخرى وثلاثة مرات كان التصفيق ، ثم انتبه الى المعلمين وقام بتوبيخهم بطريقة مؤدبة وهو يقول لهم أريدكم ان تتحدثوا كما هذا الشاب الصغير ، لا ان تسألوني عن مراكز الشباب وتبليط الشوارع واشياء هي في طريقها اليكم .
اكثر من ساعتين قضاها معنا نائب الرئيس صدام حسين وهو يجلس على الارض بكل تواضع وطيبة وتفهم ، لكنه كان يخبأ في حديثه الكثير ، والجميع كان يتوقع انه اذا ما اصبح رئيسا للعراق فسنكون واحدا من افضل بلدان العالم خاصة وان ارض العراق مملوءة بالنفط والثروات ، لكنه وبعد سنوات قليلة وبمجرد ان تسلم السلطة انقلب راساً على عقب الامر الذي ادخل البلاد والعباد في حروب لا اول لها ولا آخر ومارس دكتاتورية من نوع فريد ، ومازالت البلاد تئن من تلك الويلات التي افتعلها الرئيس الذي جاء عام 1979 ، قد يكون حب السلطة والجاه قد جعل من الرجل ان يرتكب تلك المجازر الدموية على طول سنوات حكمه التي تجاوزت ال24 سنة ، وعادة ما تصنع السلطة الطغاة في كل زمان ومكان ، لكن صدام حسين كان طاغية على ابناء شعبه للاسف الشديد وحاول ان يسحق الفقراء والمظلومين اكثر ما هم مسحوقون في حياتهم ، أتذكرك ايها الرئيس صدام في ذلك اللقاء الوحيد الذي التقيتك يوم كنت طفلا وقلبي يحن عليك ، لكني حين كبرت قليلا وذهب شبابي في ساحات حروبك وصعلكات في شوارع العاصمة عمّان في غربتنا التي مازالت تلاحقنا ولم تفارقنا حتى بعد رحيلك فقد جاءت معارضتك لترد صاعك بصاعين على نفس الشعب الذي طغيت عليه عقود من الزمان عشرة سنوات مرت والعراق يسير الى الوراء !، انت دمرتنا بدكتاتوريتك البغيضة وخلفائك دمروا شعبنا ووطننا بديمقراطيتهم العرجاء ، فلا الدكتاتورية نفعت معنا ولا الديمقراطية ! يفترض ثمة مخرج آخر ؟ !

أحدث المقالات

أحدث المقالات