ودور الجامعات في التصدي والمواجهة على المستويين الفكري والأكاديمي
تـوطئــة
أصبح التطرّف Extreme ظاهرة متفشّية في العديد من المجتمعات، بما فيها بعض المجتمعات المتقدّمة، وإنْ كان قديماً قِدَم البشرية، إلاّ أنه وبفعل “العولمة”، والثورة العلمية – التقنية والتطوّر الهائل في تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية “الديجيتيل” والمعلوماتية، بات أكثر خطورة وتهديداً على المستوى العالمي بما لا يمكن قياسه قبل بضعة عقود من الزمان، سواء بعمق تأثيره أم بسرعة انتقاله أم مساحة تحرّكه، حتى غدا العالم كلّه “مجالاً حيوياً” لفيروساته، الأمر الذي لم يعد تهديده للسلم الأهلي والمجتمعي فحسب، بل أصبح عالمياً بتهديده للسلم والأمن الدوليين.
ويصبح التطرّف فعلاً مادياً حين ينتقل من التنظير إلى التنفيذ، ومن الفكر إلى الواقع، ومن النظرية إلى الممارسة، فما بالك إذا استخدم الدين ذريعة للإلغاء والإقصاء وفرض الرأي بالعنف والإرهاب خارج نطاق القانون والقضاء، لا سيّما من خلال التكفير Expiation للآخر بزعم امتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات.
التكفير حكم ليس بالضرورة أن يصدر عن محكمة، بل تصدره أحياناً جماعة سرّية خارج القانون والقضاء، بحق شخص أو مجموعة من الناس لا تتفق معها بزعم مخالفتها للدين أو العقيدة فتقوم بتأثيمها لفعل ما ومن ثم تحريمها وبالتالي تجريمها، والأمر يشمل الأفكار والأشخاص .
وكان من نتائج استشراء ظاهرة التطرّف انتشار ظاهرة العنف Violence والإرهاب Terrorism، وهو الأمر الذي تفشى في العديد البلدان العربية والإسلامية وأخذ يهدّد الدولة الوطنية بالتشظّي والتفتّت، إنْ لم يكن بالانقسام، الذي يتّخذ في بعض الأحيان طابعاً مجتمعياً، خصوصاً حين يجد بيئة صالحة لتفقيس بيضه، وتفريخ مجموعات متنوّعة ومختلفة من القوى الإرهابية، ابتداءً من تنظيم القاعدة وفروعها ووصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وأخواتها “جبهة النصرة” أو “فتح الشام” حسب التسمية الجديدة أو غيرها.
جدير بالذكر أن ظاهرة التطرّف استفحلت لدرجة مريعة، بعد موجة ما أطلق عليه “الربيع العربي” التي ابتدأت في مطلع العام 2011، والتي كان من أعراضها “الجانبية” تفشي الفوضى وانفلات الأمن واستشراء الفساد المالي والإداري وإضعاف الدولة الوطنية ومحاولة التغوّل عليها من جانب جماعات مسلّحة خارج حكم القانون والقضاء، وأخذت بعض تلك الجماعات على عاتقها تهديم مقوّمات الدولة، سواء بفعل “إرادي” أم عبر سلوك وتصرّف يؤدي من شأنه إلى النتيجة ذاتها.
وإذا كان من الوظائف الأساسية لأي دولة هي حفظ الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، فإن الجماعات المتطرّفة والإرهابية التي اعتمدت الإرهاب والعنف وسيلتين لفض النزاعات بينها وبين الدولة في الغالب، وبينها وبين المجتمع، قادت من الناحية الفعلية إلى “حروب أهلية”، الأمر الذي أدى إلى تدمير المؤسسات الحكومية والمرافق الاقتصادية والحيوية، وعطّل التنمية وعملية التراكم والتطوّر، ناهيك عن العبث والاستخفاف بالأرواح والممتلكات العامة والخاصة، سواء بشلّ أجهزة الدولة أم تعويمها وإفقادها القدرة على القيام بمهامها كلاًّ أو جزءًا، خصوصاً في ظل الفوضى وانعدام الأمن.
وإذا كان التغيير “فرض عين” مثلما هو “فرض كفاية” كما يُقال، أي أنه خيار واختيار، وفي الوقت نفسه “اضطرار”، لأن ذلك من طبيعة الأشياء، إذْ لا يمكن دوام الحال على ما هو عليه إلى ما لا نهاية، فذلك من المُحال، لكن الوصول إليه يحتاج هو الآخر إلى توفّر شروط موضوعية وأخرى ذاتية لإنجازه، وكسب للرأي العام، فحتى البلدان التي حصل فيها التغيير بإرادة شعبية، بانهيار أو تآكل “الشرعيات القديمة” لكن “الشرعيات الجديدة” لم تُبنَ بعد أو لم تستكمل، وواجهتها مشكلات جمّة وتحدّيات كبرى أمام عمليات الانتقال والتحوّل من طور إلى طور. وحسب أنطونيو غرامشي “فإن الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد”.
وقد أكّدت الغالبية الساحقة من التجارب العالمية أن التغيير الذي حصل بحكم القوة سرعان ما ارتدّ على أعقابه، وأحياناً تكون ردود الفعل أقوى وأقسى، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تأخير عملية التطوّر الطبيعي التدرّجي، لأن درجة تطوّر المجتمع والقوانين السائدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومستوى وعي الناس والثقافة عموماً لم ترتقِ لتحقيقه، والعكس صحيح، كلّما كان التطوّر منسجماً مع درجة تطوّر ووعي الناس، ناقلاً إيّاها من طور إلى آخر، ولكن دون قفز على المراحل أو حرق لها، كلّما كان أكثر رسوخاً وثباتاً ونجاحاً، لأنه تطوّر طبيعي وليس مفروضاً.
ثلاثية التعصّب والتطرّف والإرهاب
التطرّف ابن التعصّب Fanaticism ووليده العنف، وقد يقود هذا الأخير إلى الإرهاب. ويستهدف العنف في العادة ضحية أو ضحايا بعينهم، في حين أن الإرهاب هو استهداف مجموعة من السكان بهدف إحداث نوع من الرعب والفزع في المجتمع وإظهار الدولة بمظهر الضعيف والعاجز عن حماية الأمن، وإذا كان العنف يخضع للقانون الجنائي الوطني، فالإرهاب يخضع إليه أيضاً، إضافة إلى القوانين الدولية، خصوصاً إذا كان للأمر علاقة بجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب.
وقد بات هذا الثلاثي (التعصّب والتطرّف والإرهاب) قضية دولية مطروحة على طاولة البحث والتشريح في الأمم المتحدة وعلى صعيد المجتمع الدولي كله، فلم يعد كافياً منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة وهزّت العالم، وجود قرارات تعالج قطاعياً وجزئياً بعض مظاهر التعصّب والتطرّف والإرهاب في العلاقات الدولية، وإنما استجدّت الحاجة الملحّة والماسّة إلى بحث شامل لهذه الظواهر بأبعادها ودلالاتها المختلفة.
للتعصّب سبب والتطرّف ثمرة لهذا السبب، أما الإرهاب فهو نتيجة، الأمر الذي سيبقي الحاجة ضرورية لمعالجة أسباب التعصّب والتطرّف، وليس معالجة النتائج فحسب، وحتى النتائج فهناك من يريد تحميل تسديد فواتيرها للآخرين، وإنْ كان الجميع مشمولين بها، لكن القوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية تريد تعليقها على شماعة “البعض”، ولتلك الأسباب تتنصّل عن أي محاولة لوضع ضوابط ومعايير لإيجاد تعريف دولي جامع ومتفق عليه لظاهرة الإرهاب. وعلى الرغم من أن الحديث عن الإرهاب يرتفع بوتيرة متسارعة منذ ما يزيد على 5 عقود من الزمان، إلاّ أنه يتم الاتفاق على تعريفه، وبالتالي وضع الخطط والوسائل الكفيلة لمواجهته.
وقد كانت الأمم المتحدة قد أصدرت منذ العام 1963 ولغاية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، نحو 13 اتفاقية وإعلاناً دولياً حول الإرهاب، لكنها لم تتوصل إلى تعريف لماهيته بسبب التفسيرات والتأويلات الخاصة التي تريد القوى النافذة في العلاقات الدولية فرض مفهومها وإملاء استتباعها على الشعوب والأمم، خصوصاً حين تحاول دمغ المقاومة بالإرهاب وتغض النظر عن إرهاب الدولة والجماعات العنصرية الاستيطانية الاستعلائية، وخصوصاً في فلسطين المحتلّة، في حين تتحدّث أحياناً عن إرهاب فردي أو عمليات عنف محدودة ومعزولة.
وعلى الرغم من أن مجلس الأمن الدولي أصدر 3 قرارات بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وفي ما بعد 4 قرارات بعد احتلال “داعش” للموصل في العام 2014، لكن الأمر لم يتغيّر، وظلّ تعريف الإرهاب عائماً، بل ازداد التباساً بحكم التفسيرات المختلفة بشأنه، باختلاف مصالح القوى الدولية، لأن القوى المتنفّذة تحاول احتكار العدالة وفرض مفهومها الخاص للإرهاب، وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر بعد يوم واحد من أحداث 11 سبتمبر (أيلول) القرار 1368 في 12 (سبتمبر/أيلول) الذي اعتبر الحدث تهديداً للسلم والأمن الدوليين شأنه شأن أي عمل إرهابي وطالب الدول بعمل عاجل لتقديم المرتكبين ورعاتهم إلى العدالة.
ثم صدر القرار 1373 في 28 (سبتمبر/ أيلول) من الشهر ذاته والعام ذاته (2001)، وهو من أخطر القرارات بخصوص الإرهاب الدولي، لأنه أعطى المبرّرات للعودة إلى القانون الدولي التقليدي و”الحق في الغزو” و”شن الحرب”، أنّا شاءت الدولة تحت عنوان حماية مصالحها القومية، أو إذا شعرت أن ثمة خطر وشيك الوقوع يهدّدها أو من المحتمل تهديدها أو أن ذلك يلبي مصالحها القومية، وذلك حين رخّص القرار لما سمي بـ”الحرب الاستباقية”، أو “الحرب الوقائية”، الأمر الذي يثير إشكالات وتحفظّات فقهية وسياسية لتعارضاته مع ميثاق الأمم المتحدة.
والقرار يتجاوز أيضاً على مضمون المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز للدول “حق الدفاع عن النفس” (فرادى أو جماعات) إلى أن تتم دعوة مجلس الأمن للانعقاد، وذلك حين سمح، لمجرد الشبهات شن الحرب ضدّ دولة أو جهة ما، تصنّف باعتبارها “إرهابية” (دول محور الشر وقائمة المنظمات الإرهابية مثلاً)، كما أهمل القرار الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية والقانونية التي تكمن وراء ظاهرة الإرهاب الدولي، وكذلك وراء ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف، مثلما أغفل مبدأ حق تقرير المصير والحق في المقاومة.
وكان القرار الثالث هو القرار 1390 الذي صدر في 16 يناير (كانون الثاني) 2002 قد فرض التزامات ومسؤوليات على الدول بشأن مكافحة الإرهاب الدولي وتجفيف منابعه والقضاء على بؤر تمويله وغير ذلك، ودعا هذا القرار إلى تعاون الدول مع الأمم المتحدة وإلاّ اعتبرت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها للحملة الدولية لمكافحة الإرهاب. وقد صدر هذا القرار بالتوافق وليس بالتصويت، ويتلخص مضمونه وتفسيراته وتأويلاته في أنه أعطى للمرّة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة: الحق في اتخاذ عقوبات خارج نطاق حدود الدول وأدرجها ضمن الفصل السابع، حيث نص على تجميد الأموال وحظر توريد الأسلحة ووضع أسماء أشخاص مطلوبين للعدالة ومنظمات كذلك، إضافة إلى ضرورة تعاون الدول وإلّا اعتبرت متواطئة أو داعمة للإرهاب في حال عدم انضمامها للحملة الدولية لمكافحته
أما القرارات ما بعد احتلال داعش للموصل فهي أربعة:
الأول – رقم 2170 وصدر في 15 أغسطس (آب) 2014 بشأن التهديدات التي يتعرّض لها السلم والأمن الدوليين نتيجة الأعمال الإرهابية وفيه إدانة للفكر المتطرّف وتنديد بتجنيد المقاتلين الأجانب.
الثاني – رقم 2178 الصادر في 24 سبتمبر (أيلول) 2014 وفيه أيضاً إدانة للتطرّف والعنف والإرهاب، ويستعيد القرار 1373.
الثالث – رقم 2185 والذي صدر في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) والذي أكّد على دور الشرطة كجزء من عمليات الأمم المتحدة لرفع درجة المهنية لمحاربة التطرّف والإرهاب.
الرابع – رقم 2195 في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2014 حثّ الدول على العمل الجماعي والتصديق على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وشدّد على العلاقة بين مكافحة الإرهاب والتطرّف المقترن بالعنف ومنع تحويل الإرهاب
يمكن القول إن كل تطرّف ينجم عن تعصّب لفكرة أو رأي أو آيديولوجية أو دين أو طائفة أو قومية أو إثنية أو سلالية أو لغوية أو غيرها، ولكن مهما اختلفت الأسباب وتعدّدت الأهداف، فلا بدّ أن يكون التعصّب Fanaticism وراءها، وكلّ متطرّف في حبّه أو كرهه لا بدّ أن يكون متعصّباً، لا سيّما إزاء النظر للآخر وعدم تقبّله للاختلاف، وكل اختلاف حسب وجهة نظر المتعصّب يضع الآخر في خانة الارتياب، وسيكون غريباً، وكل غريب أجنبي، وبالتالي فهو مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرّف.
التطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، والتطرّف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً أو غيره، كما يمكن للتطرّف أن يكون علمانياً، حداثياً، مثلما يكون محافظاً وسلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، باعتباره مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.
أما الإرهاب فإنه يتجاوز التطرّف، أي أنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف هو إرهاب، خصوصاً إذا ما كان دفاعاً عن النفس ومقاومة العدوان وحسب نعوم تشومسكي، فالإرهاب هو كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما في طريق الاغتيال والخطف وأعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فردياً أو تقوم به مجموعات أو تمارسه دولة، وهذا الأخير هو الإرهاب الأكثر خطورة.
وإذا كان هذا التعريف البسيط والعميق الذي يقول به مفكر أمريكي، فإن صعوبات جمّة تعترض المجتمع الدولي للاتفاق على تعريف المقصود بالإرهاب في القانون الدولي بسبب خلفية الجهات والقوى والبلدان التي تنظر إليه كل من زاويتها ومصالحها. وغالباً ما يحدث التسييس والخلط المتعمّد والمقصود بين الأعمال الإرهابية وأعمال المقاومة المسلحة.
وتحاول “إسرائيل” ومعها الولايات المتحدة وقوى متنفّذة في العلاقات الدولية اعتبار كل عمل عنفي حتى وإن كان اضطراراً ودفاعاً عن النفس ومن أجل التحرّر الوطني، وهو ما تقرّه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، “إرهاباً”، علماً بأن القانون الدولي يعتبر اللجوء إلى الدفاع عن النفس واستخدام جميع الوسائل المشروعة بما فيها القوة، عملاً مشروعاً في حالات النضال من أجل الانعتاق وتحقيق الاستقلال وحق تقرير المصير.
وكلّ إرهاب تطرّف، وبالطبع كل متطرّف هو متعصّب ولا يصبح الشخص إرهابياً إلاّ إذا كان متطرّفاً، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابي، فالفعل سواء كان عنفياً أم إرهابياً تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً، لأن ثمة عمل إجرامي تعاقب عليه القوانين، أما التطرّف، ولا سيّما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، وخصوصاً في المجتمعات المتخلّفة، كما أن بعض التطرّف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرّض على الإرهاب، بما فيه عن طريق الإعلام بمختلف أوجهه.
وإذا كان التطرّف يمثّل نموذجاً قائماً على مرّ العصور والأزمان، فإن نقيضه الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوّعة، لأن الاجتماع الإنساني من طبيعة البشر، حيث التنوّع والتعدّدية والاختلاف وهذه صفات لصيقة بالإنسان، وكلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية توصلت إليها البشرية بعد عناء، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.
التطرّف يعني في ما يعنيه ادّعاء الأفضليات، فـ”الأنا” أفضل من “الأنت”، و”النحن” أفضل من “الأنتم”، وديني أفضل من الأديان الأخرى، وقومي فوق الأمم والقوميات الأخرى لدرجة الزعم بامتلاك الحقيقة، وتلك البذرة الأولى للتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.
في النقيض للتطرّف
لا يمكن القضاء على فكر التطرّف وجذوره، ما لم يتم القضاء على فكر التعصّب الذي يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وما سواه إلاّ بطلان ووهم على أقل تقدير. وقد أثبتت التجارب أن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتمّ القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح، كما لا يمكن القضاء على التطرّف بالتطرّف أو مواجهة الطائفية بالطائفية أو مجابهة الإرهاب بالإرهاب، وإنْ كان “آخر العلاج الكيّ” كما قالت العرب، لكن:
عنفان لا يولدان سلاماً،
وإرهابان لا يبنيان وطناً،
وظلمان لا ينتجان عدالة،
وطائفيتان لا تنتجان مواطنة،
الأمر الذي يحتاج إلى معالجة الظاهرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً ودينياً وقانونياً ونفسياً، وهو علاج قد يكون طويلاً ومتشعّباً، ولا يقع على الدولة وحدها إنجازه بقدر ما تحتاج إلى طاقات جميع القوى الحيّة والفاعلة في المجتمع التي يهمّها إنجاز التغيير بوسائل سلميّة تدرجية وإحداث التراكم المطلوب.
ولعلَّ القضاء على الفقر والأمية والتخلّف ضمن استراتيجية بعيدة المدى يساعد في خلق بيئة مناسبة لنشر قيم السلام والتسامح واللاّعنف وقبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية، وذلك في إطار المواطنة التي تقوم على أركان متوازية ومتكاملة، تبدأ بالحرية وتمرّ بالمساواة والعدالة، لا سيّما الاجتماعية لتصل إلى الشراكة والمشاركة، وبذلك يمكن تجفيف منابع ومصادر القوى المتطرّفة والإرهابية، بالقضاء على أسباب التعصّب.
التطرّف لا ينمو إلاّ إذا وجد بيئة صالحة لنموّه ومثل هذه البيئة بعضها ناجم عن أسباب داخلية وأخرى خارجية، وبهذا المعنى ثمّة دلالات لهذه الظاهرة:
1 – أنها ظاهرة راهنة وإنْ كانت تعود إلى الماضي، لكن خطورتها أصبحت شديدة العمق والتأثير، ولها تجاذبات داخلية وخارجية، عربية وإقليمية ودولية، لأن التطرّف أصبح كونياً، وهو موجود في مجتمعات متعدّدة ولا ينحصر في دين أو دولة أو أمّة أو شعب أو لغة أو ثقافة أو هويّة أو منطقة جغرافية أو غير ذلك، وإنْ اختلفت الأسباب باختلاف الظروف والأوضاع، لكنه في جميع الحالات لا يقـبل الآخر ولا يعتـرف بالتـنوّع، ويسعى إلى فرض الرأي بالقـوة والعنـف والتـسيّد إن تطلّب الأمر ذلك.
ومع أن منطقتنا وأممنا وشعوبنا الأكثر اتهاماً بالتطرّف، إلاّ أنها في واقع الحال الأكثر تضرّراً منه، حيث دفعت الثمن لعدّة مرّات ولعدّة أضعاف جرّاء تفشّي هذه الظاهرة، الأمر الذي لا ينبغي إلباس المنطقة ثوب التطرّف تعسفاً أو إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين بشكل خاص، باعتبار دينهم أو تاريخهم يحضّ على التطرّف والإرهاب، علماً بأن المنطقة تعايشت فيها الأديان والقوميات والسلالات المختلفة، وكان ذلك الغالب الشائع، وليس النادر الضائع كما يُقال.
وإذا كانت البلدان العربية والإسلامية تعاني اليوم من ظاهرتَي التطرّف والإرهاب، وتشهد نزاعات واحترابات دينية وطائفية وإثنية، فقد سبقتها أوروبا إلى ذلك وشهدت “حرب المئة عام” بين بريطانيا وفرنسا. مثلما شهدت “حرب الثلاثين عاماً” في العام 1618 – 1648 والتي انتهت بصلح وستفاليا. وهناك أشكال جديدة من حروب إبادة تعود لأسباب دينية أو طائفية أو عنصرية، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في البوسنة والهرسك 1992 – 1995، وحرب كوسوفو 1998 – 1999، واحتلال أفغانستان العام 2001، واحتلال العراق العام 2003 وغيرها، وإن كانت أسباب الحروب مختلفة أساسها المصالح الاقتصادية ومحاولات التسيّد وفرض الهيمنة، لكنها تلبس لبوساً مختلفة.
فخلال عقد من الزمان شنّت “إسرائيل” حرباً ضدّ لبنان العام 2006، وفرضت حصاراً على غزّة العام 2007، وقامت بثلاث حروب أوّلها – وأطلق عليها اسم “عمود السحاب” في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009، وثانيها – “عملية الرصاص المصبوب” في العام 2012، أما الثالثة – فهي “عملية الجرف الصامد” في العام 2014. وبهذا المعنى فالتطرّف والإرهاب موجودان في جميع المجتمعات والبلدان، وليسا محصورين في منطقة أو دين أو أمة أو غير ذلك.
2 – تثير ظاهرة التطرّف ومخرجاتها التباسات نظرية وعملية بعضها يعود إلى القوى الدولية الكبرى، والآخر إلى قوى التطرّف المحلية التي تستند إلى تفسيرات وتأويلات تنسبها إلى “الإسلام” لا سيّما بالعلاقة مع الآخر، بما يمكن تصنيفه بـ”الإسلاملوجيا” أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام، في حين يستخدم الغرب “الإسلامفوبيا” (الرهاب من الإسلام)، في محاولة لتعميم وربط بعض الأعمال الإرهابية والمتطرّفة، بالإسلام والمسلمين.
ولهذا فإن البحث في موضوع التطرّف والإرهاب ينبغي أن يفكّك الظاهرة على المستويين النظري والعملي، ولا بدّ وأن يتناول موقف الجماعات والتيارات الفكرية المختلفة، الجديد منها والقديم، والديني وغير الديني، على النطاقين المحلي والدولي، وقد لعبت المصالح الدولية والتوظيف السياسي الإغراضي ومحاولات الهيمنة والتسيّد دوراً مهمّاً في انتشار ظاهرة التطرّف.
3 – لم تعد الظاهرة تقتصر على جماعات محدّدة أو فئات محدودة كانت الدولة تغضّ الطرف عنها أحياناً، بل إن تهديدها وصل إلى أساسات الدولة والهويّة، وخصوصاً في مجتمعاتنا التي غالباً ما تلجأ إلى العنف في حل الخلافات، الأمر الذي يحتاج إلى حوار فكري وثقافي ومعرفي، ليس بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب فحسب، بل بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، داخل كل بلد وعلى مستوى إقليمي لتحديد ضوابط وأسس توافقية لمواجهة هذه الظاهرة، التي لا يمكن القضاء عليها أو محاصرتها إلاّ بنقيضها، ونعني بذلك أفكار التسامح واللاّعنف وقيم العدل والمساواة والتآخي والتضامن بين الأمم والشعوب، واحترام الهويّات الفرعية، وتلبية حقوقها.
وبالطبع لن يتم ذلك دون التوصّل إلى تفاهمات واتفاقات في إطار التكامل والتفاعل والتواصل وتعظيم المشتركات والجوامع وتقليص المختلفات والفوارق، وجعل الحوار السلمي الوسيلة المناسبة والفعّالة لحل الخلافات، وصولاً لتحقيق المشترك الإنساني.
وإذا كان الحوار مطلوباً على مستوى دول وأمم المنطقة التي هي بحاجة إلى حوار بينها وبين بعضها البعض، فإنها أيضاً بحاجة ماسة إلى حوار داخلي في إطار الدولة الوطنية، وهو الأساس الذي يمكن الانطلاق منه، ناهيك عن حوار مع المجتمع الدولي حول المشتركات الإنسانية.
الدين والإرهاب
أنطلقُ في هذه المقاربة التاريخية من تجربة عملية راهنة قامت بعد احتلال داعش لكل من مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية وتمدّدت لنحو ثلث الأراضي السورية والعراقية، لأطرح عدّة أسئلة تتعلّق بالفكر الديني الحاضن للإرهاب، ولعلّ هذه المسألة بقدر قِدَمها فهي جديدة أيضاً في شكلها ومضمونها وتنوّع أدواتها وأساليبها، فأيّ فكر هذا الذي يخرج فيه الإنسان عن سويّته الإنسانية ليُقدِمَ على قتل أبرياء بدم بارد وبجنون غير مألوف، ومثل هذا الأمر يتكرّر في أصقاع متباعدة من المعمورة، لدرجة أن المرء يتساءل بحيرة: ما الذي يربط إرهابياً في مانيلا وآخر في لندن وثالث في نيويورك ورابع في باريس أو بروكسل أو مدريد مع إرهابيين آخرين في بغداد أو دمشق أو القاهرة أو بيروت أو الرياض أو صنعاء أو مقاديشو أو طرابلس أو الرباط أو تونس أو تشاد أو النيجر أو فلسطين أو سيناء أو غيرها من المدن والمناطق والبلدان؟
وإذا كان الدين يُوظّف لخدمة الأهداف السياسية، فذلك لأنه يمثل فضاءً مقدساً يتعكّز عليه الإرهابيون لتمرير مشاريعهم السياسية واستغلال الآخرين تحت عناوين دينية أو طائفية، خصوصاً حين يتحكّم التعصّب بهم ويستبدّ التطرف بسلوكهم، فينخرطوا في العنف ويخوّضون بالإرهاب.
فهل ثمة علاقة للدين بمثل تلك الأعمال الإرهابية التي يقومون بها؟ ثم كيف نفرّق بين الدين والتديّن؟ وسؤالنا الآخر الذي سنخصص له حيّزاً في هذا البحث يتناول ظروف نشأة البيئة الحاضنة التي تساعد على انتشار الفكر الإرهابي باسم الدين، وسبل مواجهة الفكر الحاضن للإرهاب.
وإذا كان هناك عدم معرفة مباشرة وشخصية بين الإرهابيين، فمن المؤكّد ثمة روابط ومشتركات تتعلّق بالتعصّب والتطرّف التي تجمع هؤلاء جميعاً، وقد وفّرت وسائل التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية ” الديجيتل” سهولة الاتصال والتواصل فيما بينهم، مثلما أوجدت بيئات حاضنة مولّدة أو منتجة للإرهاب، كما ساعدت في الوقت نفسه على خلق وإنشاء بيئات مستعدة أو متقبّلة للتعاطي مع الإرهاب، وهي بيئات ضرورية يمكن للإرهابيين التنقّل فيها والانتقال إليها كلّما تضيق بهم السبل، وهكذا تنشأ علاقة بين البيئة المشغّلة والمصنّعة لفايروس الإرهاب والبيئة المتلقية والمستجيبة للفكر الإرهابي سلبياً أو إيجابياً، وذلك عبر ورش عمل وتهيئة ضرورية دينياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وتربوياً وبالطبع نفسياً .
وإذا كانت الحضانة الدولية للإرهاب الديني في العالمين العربي والإسلامي غير مباشرة في السابق، فإن تطوّراً مهماً حصل في نهاية عقد السبعينات، ولاسيّما بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان العام 1979 واستمرّ حتى بعد انهيار جدار برلين العام 1989 وتحلّل الكتلة الاشتراكية، حيث اشتغلت الآلة الآيديولوجية الغربية لاختراع عدو جديد لها وكان “الإسلام” هو هذا العدو، فالهدف هو فرض الاستتباع والهيمنة على المنطقة والاستحواذ على ثرواتها، ومن جهة ثانية عملت القوى الغربية على دعم الجماعات “الإسلامية”، ولاسيّما المتطرّفة، بوسائل مختلفة خدمة لسياستها الخارجية وأهدافها الاستراتيجية وتاكتيكاتها المتغيّرة .
وبالمقابل فإن القوى الإرهابية التي هاجر بعض قياداتها إلى الغرب عملت على استغلال أجواء التسامح وفضاء الحرّيات والديمقراطية، فقامت بتجنيد الشباب، وهو ما جاء دورهم بشكل خاص عقب احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003 ، وذلك بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة.
وإذا كانت الحضانة الفكرية الأساس الذي تتمحور حوله الحواضن الأخرى، لما يشكّله الدين من عقيدة قويّة ومتماسكة ومؤثرة، فإن التطور التكنولوجي سهّل نشر أفكار التعصّب والتطرّف والإرهاب، ووفّر أرضية مشتركة للإرهابيين ، ولاسيّما لدى الأجيال الشابة بحكم حماستها واندفاعها واستعدادها للتطرّف، سواء بحكم جهلها بصحيح الدين من جهة، فضلاً عن تقليدية العديد من رجال الدين وعدم مواكبتهم التطور العلمي، ناهيك عن عدم رغبتهم في تجديد أو إصلاح المنظومة الدينية التي تنتمي إلى عصور خلت، خصوصاً في ظل التفاوت الاجتماعي والفقر والتخلّف والأميّة والشعور بالاغتراب عن مجتمعاتها والاستلاب الروحي والنفسي.
وبعض هذه البيئات الحاضنة تطوّرت لتصبح منتجة للإرهاب ومصدّرة له، وكان لغياب قيم الحريّة والسلام والتسامح والعدل والمساواة في مجتمعاتنا عاملاً أساسياً في استنبات الإرهاب، لاسيّما في ارتفاع معدّلات البطالة واتّساع حجم الفئات المهمّشة وغياب الأفق المستقبلي لأجيال تشعر بالضياع.
وقد شجّعت جهات رسمية ودينية بعض أفكار التعصّب والتطرّف، سواء بسبب محافظتها وسلفيتها أم لأغراضها الأنانية ضد الحركة التقدمية العروبية واليسارية، وذلك عبر المبالغة في نشر مظاهر التديّن وفرض الحجاب على النساء ومنع الاختلاط بين الجنسين والدعوة لحملات إيمانية مصحوبة بالتكفير والتأثيم والتحريم والتجريم إضافة إلى تنمية بعض المشاعر الطائفية وسحبها على الصراع السياسي، لأنها مثيرة ومؤثرة ومستقطبة في الآن.
كان تشكيل تنظيم القاعدة الذي انطلق منه “الأفغان العرب” وصولاً إلى انبثاق تنظيم داعش، التعبير المتطوّر للفكر الإرهابي المستند إلى التعاليم الدينية، الذي يقوم على فكرة أساسية ملخّصها استبدال “حكم الدولة” بـ”حكم الله”، ولعلّ الفارق بين القاعدة وداعش أن الأخير بنى استراتيجياته على احتلال الأراضي والاحتفاظ بها وإقامة كيان فيها مثّل نواة دولة “الخلافة” ولهذا قام بتمزيق الحدود “الاستعمارية” التي تشكّلت وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو العام 1916 في أعقاب انحلال الدولة العثمانية، ولاسيّما بين العراق وسوريا، وذلك بعد احتلال الرقة والموصل.
وترتبط ظاهرة الإرهاب الديني الإسلاموي موضوعياً وذاتياً بصعود تيار الإسلام السياسي في السبعينيات، ولاسيّما الأثر الذي تركته الثورة الإيرانية العام 1979 على الصراع السنّي – الشيعي، إضافة إلى شحّ الحريات، ولاسيّما حرّية التعبير وشيوع مظاهر التسلّط والاستبداد في الحكم، وقد استغل التيار “الإسلامي” أو الإسلاموي صراعه مع السلطات الحاكمة، تحت منابر مختلفة ومتنوعة، بعضها علنية وأخرى شبه علنية أو حتى سرّية، ابتداءً من المساجد والجوامع ومروراً بالجمعيات الخيرية والاجتماعية والمناسبات الدينية إلى استخدام نصوص الدساتير والقوانين النافذة، مستفيداً من مهادنة السلطات ومداهمتها له بحجة عدم استفزازه وتجنّب التعرّض له، بل ومجاملته حدّ التزلف أحياناً ليرضى عنها.
وهكذا خاض هذا التيار حرباً ناعمة هي الأكثر مكراً، ولاسيّما التعارض بين الأقوال والأفعال لتصل إلى أشدّ الأساليب قوة وعنفاً، وقد استخدم الإرهابيون جزءًا من التاريخ الإسلامي لتبرير الإرهاب، باستخدام بعض النصوص الفقهية التي قيلت في سياقها التاريخي، ومحاولة استعادتها وتطبيقها على الحاضر، بل إسقاطها عليه، وحتى لو كانت تصلح للماضي، فإنها لا تصلح للحاضر، فهل يمكن استعادة بعض الأحكام بشأن الخوارج أو أحكام بن تيمية التي قيلت في القرن الثامن هجري على نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ وهل يمكن تكفير فرق بكاملها ومذاهب برمتها والزعم بامتلاك الحقيقة باعتبارهم وحدهم “الفرقة الناجية” وهو ما مثل أساساً في أطروحات داعش.
بعض المنطلقات النظرية للإرهاب الديني
لمعرفة منبع التكفير الديني الإرهابي يحتاج الباحث إلى الوقوف عند بعض منطلقاته النظرية، ليستطيع فهم تطوّره، لا سيّما بربط حلقاته التاريخية، إضافة إلى متابعة بعض شخصياته مثل أسامة بن لادن الذي تأثّر بمؤسس تنظيم القاعدة عبد الله عزّام والذي كان معلّمه الأول في أفغانستان، حيث التقيا في قاعدة بيشاور التي انطلقت منها تنظيمات القاعدة، والتي كان فيها أكبر معسكرات التدريب أيام الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وكانت قد حظيت بدعم أميركي.
فما أن تأسّس تنظيم القاعدة حتى أخذ يتربّع على عرش التنظيمات الإرهابية، لا سيّما بعد أن لمع اسم أسامة بن لادن، حيث عمل الأخير جاهداً لإيصال المساعدات إلى “المجاهدين” في أفغانستان، وحسبما يقول أيمن الظواهري في إحدى تسجيلاته الصوتية، إنه كان على صلة بجماعة “الإخوان المسلمين” في جزيرة العرب، كما يسمّونها، وكانت التوجيهات التي صدرت له هي الاتصال بالجماعة الإسلامية في لاهور، لكن بن لادن تجاوز ذلك ووجد الطريق إلى “المجاهدين” في أفغانستان، الأمر الذي أدّى إلى فصله، وهو ما يذكره الظواهري.
جدير بالذكر أن المرجعية الفكرية الأولى لأسامة بن لادن كان أبو علي المودودي وسيّد قطب بالدرجة الأساس، وهو ما يتّضح من لغته، فقد كان يستخدم مصطلح “جاهلية المجتمع” و”ردّة المجتمع”، التي كثيراً ما تردّدت في كتاباتهما، وهو الأمر الذي أدّى به إلى استباحة دماء المسلمين، وتبرير قتلهم بزعم إقامته “المجتمع المسلم”.
وإذا كان المودودي وسيد قطب مرجعين أساسيين لأسامة بن لادن، فإن شخصية مثيرة للجدل، ساهمت في تأطير الجانب النظري للفكر التكفيري ونعني بها سيد إمام الشريف المعروف باسم الدكتور فضل أو الدكتور عبد القادر عبد العزيز، وقد وضع “الشريف” كتابين مرجعيين لتنظيم القاعدة ولأي تنظيم إسلاموي إرهابي، يمكن أن يستقي منهما أفكاره، وجلّ أفكار هذين الكتابين يقوم على تحديد “أحكام الكفر” من جهة، و”الجهاد” من جهة أخرى، ولعلّ اسمَي الكتابين يدلّ عليهما، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، فالكتاب الأول كان اسمه “الجامع في طلب العلم الشريف”تأليف الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز ، 1994، أما الكتاب الثاني فهو الموسوم “العمدة في إعداد العدّة” تأليف الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز.
في الكتابين نعثر على أحكام مثيرة وخطرة في الآن، تمثّل اغتراب الجماعة الإرهابية عن الفكر السائد في مجتمعاتها، بل وعن مجتمعاتها، وخصوصاً عن التعامل الشعبي مع الإسلام من عموم المسلمين، وذلك بعيداً عن التأطير الآيديولوجي، حيث يحاول فيهما تأصيل التكفير، بجعل بلاد المسلمين “بلاد كفر” وجب الهجرة منها إلى حين يتم تطبيق “شرع الله”، ولعلّ ما قام به “داعش” من محاولة تأسيس “الدولة الإسلامية” بعد احتلال الموصل والتمدّد لنحو ثلث الأراضي العراقية، خصوصاً بربط ذلك باحتلال الرقة السورية، هي تطبيق عملي لفكر الشريف التدميري الإلغائي.
ويعتبر سيد إمام الشريف أن جميع البلدان الإسلامية كافرة وخارجة عن الملّة، ولذلك وجب الخروج عليها، واستوجب الأمر الجهاد ضدها، وهذا “فرض عين وليس فرض كفاية” كما يُقال، وهو واجب على المسلمين، لأن الحكم بغير ما أنزل الله من قوانين هو كفر، والمقصود بذلك جميع القوانين الوضعية.
وبهذا المعنى يضع الشريف والفكر التكفيري الجميع في خانة الخروج عن شرع الله، طالما ارتضوا بوجود قوانين تحكمهم هي من صنع البشر، لأن ذلك سيكون خروجاً على الإسلام، الأمر الذي يقتضي مواجهته وتحريمه وإبطال ما يتّخذ بخصوصه من أحكام، وصولاً إلى خلع الحكام وإقامة حكم الإسلام.
ووفقاً لذلك يضع الشريف وتنظيم القاعدة وربيبه “داعش” في خانة الكفر: حكام البلاد الإسلامية وقضاتها . كما يقدّم أسبقية “الجهاد” على الاستحقاقات الأخرى، ويضع محاربة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، أي أنه يستهدف المسلمين قبل المسيحيين والنصارى واليهود وغيرهم، وهكذا فإن مثال المرتدين هو الذي يحظى بالأفضلية من الكفار والوثنيين وأتباع الديانات الأخرى. ويعتبر الفكر التكفيري أن مجتمعاتنا تسبح في “جاهلية مطبقة” و”كفر سافر”، الأمر الذي اقتضى تقويمهما بالسيف.
أما كتاب “إدارة التوحش” فهو لمؤلفه أبو بكر الناجي يمثل مرجعية فكرية للإرهاب، ويقصد بالإدارة ” مرحلة ما بعد السلطة الحاكمة”،وقد حاول داعش بعد احتلاله للموصل والرقّة الحكم وفقها. وكان قد تدفق الآلاف من الإرهابيين المهاجرين الذين تم تجنيدهم بوسائل مختلفة في الغرب، وخصوصاً بتشجيع ما سمّي بالجهاد النكاحي، وقد ترك ذلك مشكلة اجتماعية خطيرة لأطفال الدواعش، فقسم كبير منهم لا يُعرف آباؤهم.
وكان الإرهاب المستند إلى نصوص فقهية والمتستّر وراء الدين هو الأخطر، ولاسيّما في العقود الأربعة الماضية، وأنتج هذا الإرهاب “مرجعية” من خلال منظومة فكرية يسّرت تجنيد الآلاف وزجّهم في عمليات قتل للأبرياء وبدم بارد مشفوعة بتفسيرات وتأويلات للدين وقراءات خاصة للنصوص الدينية، مثلما قامت هذه المرجعية عبر وسائل الاتصال الحديثة ببناء شبكة واسعة عبر وسائل الاتصال الحديثة ، علماً بأن التطرّف الديني ليس مقتصراً على دين واحد، بل ينطبق على أتباع الديانات المختلفة وأهل المذاهب المتنوعة داخل الدين الواحد، فلدى الشيعة متطرّفون ولدى السنّة كذلك، وفي المسيحية متطرفون أيضاً من مختلف المذاهب، وكذلك بالنسبة لمعتنقي اليهودية، سواء اليهود المقيمين على أرض فلسطين أم حيث يعيشون في بلدان أخرى، يوجد متطرفون ويبرّرون اغتصاب الأرض وانتهاك حقوق الإنسان.
وبتقديري إن الإرهاب الفكري يعتبر من أخطر أنواع الإرهاب، لماذا؟ لأن الإنسان إذا اقتنع بفكرة ما وتغلغلت في تلافيق دماغه تحوّلت هذه الأخيرة إلى قوة مادية يصعب اقتلاعها وهو ما تدفعه للتضحية بالنفس في سبيلها، ولذلك يعتبر الإرهاب الفكري المنبع الحقيقي لجميع أنواع الإرهاب، حيث يتأسس عليه الإرهاب السياسي والديني وإرهاب السلطات والمعارضات وتنشأ وفقا له البيئات الفكرية والاجتماعية والثقافية والتربوية والنفسية الحاضنة له.
لقد سمّمت الأفكار التكفيرية عقول بعض الشباب، خصوصاً وقد أخضعوا في الكثير من الأحيان لعمليات غسل أدمغة، الأمر الذي قاد إلى تعكير حياة العديد من البلدان والشعوب، وجعلت الواقع على ما فيه من تحديات وآلام ومصاعب، أشد قسوة وعسفاً، وذلك بإشاعة الرعب والهلع بين الناس، من خلال المفخخات والتفجيرات والأحزمة الناسفة والمقابر الجماعية، وأعمال الانتقام وإشاعة روح الكراهية، والغريب أن شعار “الله أكبر” ظلّ يتصدّر أطروحات الإرهابيين وأعمالهم وأعلامهم وشعاراتهم، حتى إن الذبح وقطع الرؤوس بالسيف كان باسم ” الله”.
وإذا كانت “غزوة” 11 سبتمبر /أيلول العام 2001 كما يسمونها وقبلها تفجيرات نيروبي ودار السلام وبالي وتفجيرات أوروبا، ولا سيّما أنفاق إسبانيا ولندن وعدد من تفجيرات باريس وفرنسا عموماً وتفجيرات ألمانيا وغيرها، هي ضرب تكتيكي في الأطراف، فإن استراتيجية التنظيم، على الرغم من استخدامها الإرهاب الخارجي، فإن مهماتها الأساسية ظلّت داخلية عربية وإسلامية بامتياز، أي تقديم مواجهة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، مع الاستمرار بمشاغله البعيد، لتنفيذ استراتيجية التصدي للقريب.
لقد كان لأسامة بن لادن والظواهري وما بعدهما أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام “داعش”، وخصوصاً أبو بكر البغدادي دوراً كبيراً في ضخّ الفكر التكفيري، لا سيّما بالاستراتيجية العسكرية للسيطرة على مناطق شاسعة وإخضاعها لقوانينها، وهو ما جعلها تتمدّد لفتح جبهات قتالية من أفغانستان مروراً بالعراق، ووصولاً إلى سوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر وتونس والمملكة العربية السعودية، وغيرها.
الإرهاب بالأصل أو بالفرع، هو واحد،
ولا دين له
ولا جنسية له
ولا وطن
ولا لغة
ولا منطقة جغرافية،
إنه فكر التعصّب والتطرّف والإلغاء.
البيئة الحاضنة للإرهاب
إذا كان مصطلح ” البيئة الحاضنة” قد شاع استخدامه، وخصوصاً بعد احتلال داعش للرقة والموصل، إلّا أن مضامينه مختلفة ومتعدّدة. ولكن هزيمته العسكرية في كلتي المدينتين، في نهاية العام 2017 وربيع العام 2018، لا تعني انتهاء تأثيره، فما يزال الحديث عن “الخلايا النائمة” و”الذئاب المنفردة” قائماً، مما يعني أن هزيمته الفكرية لم تتحقّق، وهذه الأخيرة تحتاج إلى شروط معينة سنأتي على ذكرها خاتمة لهذا البحث.
ومن الناحية القانونية فالبيئة الحاضنة تعني سهولة تحرّك التنظيمات الإرهابية في بعض المناطق، التي توفّر حيّزاً يمنحها شروطاً وأسباباً ملائمة تسمح لها بالتحرك، يضاف إلى ذلك قدرتها على التغلغل فيها، فإمّا لعدم وجود ردّ فعل قوي إزاءها أو لعوامل مشجّعة لها على الاستمرار بما يعني وجود مشتركات بين الإرهاب القادم والإرهاب الكامن، أي بين الإرهاب المتحرّك والإرهاب الساكن، والأمر يتعلّق بالفكر والسلوك.
وتأسيساً على ما تقدّم يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من البيئة الفكرية الحاضنة للإرهاب، وهي التي تمثّل الحيّز الجيوبولتيكي:
النوع الأول- البيئة المصنّعة للإرهاب،
وهي البيئة المنتجة له وليست حاملة لفايروسه فحسب، وهذه البيئة تعتمد على نخب فكرية وسياسية وثقافية تعمل على بلورة المنطلقات الفكرية للإرهاب الديني، وذلك باستخدامها الدين كمرجعية لخطابها السياسي، وبالطبع وفقاً لتفسيراتها وتأويلاتها للنصوص الدينية. وتسعى هذه المجموعة حتى وإن كانت صغيرة لإنضاج العوامل الذاتية للقيام بالإرهاب: توفير أموال، حلقات نقاش، كتب ودراسة، مساعدات، تسهيلات وذلك بالاستفادة من إنضاج العوامل الموضوعية: اضطهاد طائفي، شعور الإقصاء أو التهميش أو التمييز، ضعف التنمية، عدم تلبية احتياجات المناطق المعنيّة، أحزمة الفقر ، العشوائيات.. الخ .
وتستفيد هذه البيئة من عوامل سياسية ثقافية مجتمعية مثل: مجاملة السلطات لرجال الدين ومحاولة التملّق لهم والسكوت على الخطاب الديني الصادم أحياناً لقيم العصر والتقدم والمبني على فكر ماضوي، وبقدر ما يرخّص لخطباء المساجد والجوامع، بل يتم تمويلهم وغضّ النظر عن أصحاب الفتاوى المجانية الذين يقولون ما يشاءون في التحريض الطائفي والاستعداء للأديان الأخرى، فإنه يتم التحريض على أصحاب الخطابات المضادة أو المغايرة ومنعهم أحياناً وملاحقتهم في أحيان أخرى، وذلك بوضع الديني – المقدس مقابل العلماني- الإلحادي.
كما أن أحد أسباب ظهور مثل هذه الخطابات هو ضعف الهويّات الوطنية أو نقص الوعي بأهميتها وتدنّي خطابها، والتباس مفهوم الدولة وتغوّل السلطة عليها وتغليب الهوّية الدينية والطائفية والفرعية على الهويّة الوطنية العامة.
النوع الثاني- البيئة المولّدة للإرهاب
تلك التي تتّسم بحضور مؤثر للتطرّف الديني وتغليبه على حساب مرجعية الدولة ومؤسساتها، ويلعب الفقر والجهل وضعف التنمية، ولاسيّما في المناطق البعيدة والنائية والريفية بشكل عام دوراً على هذا الصعيد، مثلما تكون المدن والأحياء الفقيرة المكتظّة بالسكان مرتعاً خصباً للجماعات التكفيرية والإرهابية التي تقوم بالتغلغل في أوساط السكان، ولاسيّما الفقراء منهم، مستغلة معاناتهم واحتياجاتهم وقهرهم لتحوّلهم على طريق الفكر وغسل الأدمغة إلى قنابل موقوتة.
النوع الثالث – البيئة المستعدّة لقبوله
وقد يتحوّل الاستعداد إلى تعاطف تدريجي وربما لاحقاً إلى انقياد. وعلى أقل تقدير فالموقف غير السلبي من وجود التنظيمات الإرهابية يخلق مجالاً حيوياً لها للعمل، ويبني في هذه البيئات مرتكزات يمكن أن تشكل عناصر جذب مؤثرة في الحاضر أو في المستقبل، خصوصاً إذا كانت هذه البيئات تشعر بالهشاشة والضعف وعدم التماسك والوحدة، فما بالك إذا كان بعضها يشعر بالتهميش والتمييز وعدم المساواة والحيف والغبن.
وبالطبع فهناك فروق بين هذه الحواضن، فبعضها يحتضن الإرهاب ويسهم في توليده وإنتاجه، والبعض الآخر يضطر للتعامل معه كأمر واقع، لا يمكن ردّه أو الوقوف بوجهه، لاسيّما الخشية من إرهابه، والقسم الثالث انقاد له أو استسلم له، لأنه لا مجال للبقاء في مدينته أو قريته أو منزله دون التعامل معه، فما بالك حين لا يكون لديه بديلاً مناسباً، إضافة إلى ما يسمعه عن ظروف النزوح السيئة والمعاناة الإنسانية الباهرة التي عاشها النازحون، وهكذا ظلّ الكثيرون “أسرى” للإرهاب الديني التكفيري بل إن الإرهابيين أخذوا المدنيين دروعاً بشرية وفرضوا على أبنائهم الانخراط في صفوفهم .
ويبقى قسم قليل من الموالين له أو المتعاطفين معه أو الذين اضطروا وتحت التهديد للتعاطي معه، فهؤلاء يختلف التعامل معهم عن غيرهم، مع ضرورة أخذ الأمور بسياقها وظروفها باستثناء بعض العناصر القليلة التي ظلّت “خلايا نائمة” حاولت وتحاول الثأر والانتقام من هزيمة داعش.
خطاب جديد وفكر جديد
لكي يتم تطويق ظاهرة التطرّف والقضاء عليها ، لا بدّ من خطاب جديد، وقبل ذلك لا بدّ من تجديد الفكر، لكي يتم تجديد الخطاب، والأمر يحتاج إلى وضع معالجات طويلة الأمد تقوم على عدد من الدوائر والجبهات:
الأولى – الجبهة الفكرية والحقوقية،
باعتماد مبادىء المواطنة والمساواة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية التي يفترض فيها أن تكون “دولة الحق والقانون” وتستند إلى قواعد العدل والشراكة والمشاركة، إذْ لا يمكن القضاء على التطرّف والإرهاب بوسائل عسكرية أو أمنية فقط، بل لا بدّ من مجابهة فكرية راهنة مثلما هي متوسطة وطويلة المدى، فالنّصر الحقيقي على التطرّف هو في الجبهة الفكرية أولاً، خصوصاً حين يدير الشباب والناشئة ظهورهم للتطرّف ويبنون علاقات وجسور من الثقة والاحترام بينهم وبين الآخر، وفقاً للمشتركات الإنسانية، مع احترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، بما ينسجم مع جوهر الحريّات العامة والخاصة وقيم حقوق الإنسان.
والثانية – الجبهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
وتلك التي تستوجب توفير ظروف مناسبة للعيش الكريم، وفرص عمل متكافئة، ودون تمييز لأي سبب كان وتهيئة فرص تعليم وضمان صحي واجتماعي، الأمر الذي سيقطع الطريق على الفكر التعصّبي المتطرّف والإرهابي.
الثالثة – الجبهة التربوية والدينية،
والأمر يتطلّب تنقية المناهج الدراسية والتربوية عن كل ما من شأنه ازدراء الآخر أو تحقيره، لأن ذلك سيؤدي إلى إشاعة مناخ من الكراهية والأحقاد والكيدية، فالجميع بشر ومتساوون في الكرامة الإنسانية، وحسب قول الفاروق عمر: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” أو قول الإمام علي لعامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي: “لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون مرجعية الدولة فوق جميع المرجعيات التي لا بدّ أن تخضع لها، سواء كانت سياسية أو حزبية أو دينية أو تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو مناطقية أو غير ذلك.
ويحتاج الأمر إلى عمل طويل الأمد، ودون هوادة لإصلاح المجال الديني بما ينسجم مع سمة العصر والتطوّر وإدماج المناهج والمدارس الدينية مع المناهج والمدارس التي تعتمدها الدولة بهدف توحيدها وإشاعة الثقافة المدنية فيها، وجعل الدين في خدمة المجتمع مُيسّراً، وذلك بالعيش المشترك لأتباع الأديان في إطار دولة تقوم على المساواة وتحترم الجميع وتأخذ بمبادىء الكفاءة والإخلاص للوطن، في تولّي الوظائف العامة.
الرابعة – الجبهة القانونية والقضائية،
ولا بدّ من تأكيد مبادىء احترام القانون وعدم التجاوز عليه لأي سبب كان، وحسب مونتسكيو فـ”القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً”، أي أنه ينطبق على الجميع، وبتأكيد استقلال القضاء ونزاهته وتنقية النصوص الدستورية والقانونية عن كل ما يتعلّق بالتطرف والتعصّب والتمييز.
الخامسة – الجبهة الإعلامية والمدنية،
وهنا ينبغي أن يلعب الإعلام دوراً مهماً ومعه المجتمع المدني في نشر ثقافة التسامح واللاّعنف والسلام المجتمعي واحترام الهويّات والخصوصيات التي هي جزء من تاريخنا بكل ما فيه من مشتركات، لا سيّما بتأكيد احترام الآخر.
السادسة – الجبهة الأمنية والاستخبارية،
وهي جبهة مهمّة وأساسية، وبقدر ما هي جبهة وقائية فهي جبهة حمائية ولا بد أن تكون جبهة رعائية، وإذا كان تحقيق الأمن مسألة جوهرية وأساسية لأي تقدم وتنمية، وهو الذي اعتبره سيجموند فرويد عالم النفس النمساوي، موازياً للكرامة، بل يتفوق عليها أحياناً، خصوصاً في ظل الحروب والنزاعات الأهلية وانفلات الفوضى، إذ لا كرامة مع غياب الأمن، مثلما لا أمن حقيقي دون كرامة. ومع استخدام الوسائل العسكرية والحربية ضد الجماعات الإرهابية، فينبغي في الوقت نفسه الحرص على حماية المدنيين وعدم تعريضهم للأذى واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على هذا الصعيد، ولاسيّما اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة ، والثاني – الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
ويمكن القول إن تحقيق الأمن وحماية الحقوق الإنسانية والكرامة الفردية والجماعية هي مسؤولية متكاملة للدول والحكومات والقوى الفاعلة والحية في المجتمع، من أحزاب ونقابات ومؤسسات رأي عام ومنظمات مجتمع مدني وإعلام، خصوصاً بالبحث عن المشتركات ومحاولة فكّ الاشتباك الذي يحصل أحياناً بالممارسة، وبتقديري، فإن ذلك أحد أركان الخطاب الجديد لمواجهة التطرّف والإرهاب، خصوصاً بتوسيع دائرة الحقوق والحريّات وتعزيز الهويّة الوطنية المشتركة.
ويعتمد نجاح الدول على قدرتها في الموازنة بين سبل المجابهة وسبل الحماية، إضافة إلى سبل الرعاية، ولا بدّ من اعتماد تشريعات وآليات جديدة أكثر قدرة على استقطاب الشباب وامتصاص طاقاتهم عبر نوادي أدبية وأنشطة ثقافية ورياضية وفنية من رسم وموسيقى وغناء ومسرح وغيرها.
وهذا يعني إشراك مؤسسات المجتمع المدني في عملية التنمية باعتبارها مكمّلة ومتمّمة لاتخاذ القرارات وتنفيذها، وهي بهذا المعنى يمكن أن تكون “قوة اقتراح”، وليس “قوة احتجاج” فحسب.
ويعتبر الحفاظ على الدولة الوطنية واحداً من المهمّات الجديدة، التي تواجه مجتمعاتنا، والتي تقع في صلب استراتيجيات مجابهة التطرّف، إذْ لا يمكن إحداث التنمية من دونها، فالدولة الوطنية وإن كانت هي نتاج اتفاقية سايكس بيكو (1916) أصبحت اليوم مهدّدة في ظلّ التطرّف ومحاولات التديين والتطييف والإثنية والتشظّي، والهدف هو تجزئة المجزّأ وتذرير المذرّر.
إن حزمة الاستراتيجيات تلك التي تواجه التطرّف على المستوى الداخلي، يمكنها وفي ظل تعاون وطني شامل وإدارات سليمة مواجهة التحدّيات الخارجية، سواءً بالسعي مع غيرنا من شعوب الأرض وأممه لإعادة صياغة نظام العلاقات الدولية، ليصبح أكثر عدالة وأشد قرباً إلى التعبير عن المصالح المشتركة بين الدول والأمم والجماعات الثقافية، الأمر الذي يحتاج إلى توازن قوى دولي من نوع جديد، لا بدّ من العمل عليه.
وإذا كان نظام القطبية الثنائية قد انتهى وبشكل خاص (1945 – 1989)، فإن نظام الأحادية القطبية بدأ يتفكّك ويتآكل، ولم تعد الولايات المتحدة المتحكّم الوحيد في نظام العلاقات الدولية، وهناك محاور إقليمية ودولية، وخصوصاً في ظل صعود روسيا وعودتها المؤثرة على النطاق العالمي والدور الجديد الذي تلعبه الصين بما لها من إمكانات، ناهيك عن دول البريكس الأخرى مثل: الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويمكن القول لا بدّ من إيجاد مواطن قدم للعرب فيها، خصوصاً حين يكون هناك حد أدنى من التنسيق والعمل المشترك، وبقدر ما للمسألة من أفق استراتيجي، فإن لها خطوات أولى تمهيدية يمكن الشروع بها والعمل في إطارها.
ولا شكّ أن ثمة مشتركات إنسانية تجمعنا مع شعوب الأرض، وخصوصاً قوى التحرّر والتقدم في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، لا بدّ من تعزيز التعاون والتنسيق معها سواء في المحافل الدولية أو على الصعيد الميداني، والهدف هو توثيق عرى الصداقة والتفاعل الثقافي والتواصل الحضاري، لأن التطرّف الذي ينجبه التعصّب سيلد العنف والإرهاب وهذه مسألة تشمل جميع وشعوب البلدان النامية الأكثر تضرراً منه، إضافة إلى شعوب العالم أجمع.
ولعلّ من المناسب أن نذكر هنا ما أورده كورت فالدهايم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في تقرير كتبه في أواسط السبعينات، عزا فيه أسباب الإرهاب إلى اختلال نظام العلاقات الدولية، خصوصاً بوجود “حق الفيتو وتهاون الدول الكبرى القيام بواجباتها واغتصاب حق الشعوب”، وقد قصد بذلك الأسباب العالمية.
أما على الصعيد الداخلي، ولا سيّما في البلدان النامية فيمكن إضافة: ضعف البناء الديمقراطي وشحّ الحريّات وعدم احترام حقوق الإنسان وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والقومية وهضم أو تهميش حقوق المجاميع الثقافية ونشوء ظاهرة الهجرة، واتساع العمالة الخارجية، وبخاصة من بلدان الجنوب إلى الشمال، ومشاكل اللاجئين كل ذلك يساعد في إيجاد أجواء خصبة لبذرة التطرّف.
الخاتمة- دور الجامعات في مكافحة الإرهاب
في خاتمة هذا البحث وبعد أن تناولنا قضايا التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والقرارات الدولية بخصوصها والإشكالات النظرية والعملية بشأنها، لاسيّما بعض الالتباسات التي تتعلّق بالدين واستخداماته ومحاولة الإرهابيين والتكفيريين التعكّز عليه، وبعد أن شخّصنا بعض المنطلقات النظرية للإرهاب الديني وحلّلنا البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودعونا إلى خطاب جديد وفكر جديد، بل واستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، نتوقّف عند دور الجامعات كخاتمة لهذا البحث مع بعض التوصيات :
تمثّل الجامعات فضاءً واسعاً ومهماً، خصوصاً وهي تمثّل أكبر التجمّعات البشرية من الفئات الشبابية المتعلّمة والمتطلّعة لأخذ مكانها في الحياة العامة. والشباب بطبيعته يمتاز بالحيوية والجرأة والإقدام والاندفاع، الأمر الذي يحتاج أن تولي الجامعات اهتماماً خاصاً واستثنائياً به لما له من تأثيرات كبرى بالإيجاب أو السلب على عموم المجتمع، خصوصاً وإن الشباب هم الفئة الأكثر استهدافاً وتعرّضاً للخطر، سواء محاولة تجنيدهم أو التلاعب بعقولهم، سيّما وإن بعضهم يعاني من اليأس والقنوط والانعزال.
وفي الحالة الأخيرة فإن بعض قطاعات من الشباب إذا ما تُركت عرضة للتيارات المتشدّدة والمتزمّتة فإن الجماعات التكفيرية والإرهابية ستجد الطريق إليها سالكاً، خصوصاً وإن الشباب حساس بطبعه ويتأثّر بما حوله سريعاً، لاعتبارات موضوعية وذاتية، مثل سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور مستوى المعيشة والاضطهاد والتمييز والاستلاب الخارجي ومحاولات فرض الهيمنة والاستتباع وغير ذلك، علماً بأن شعوره مضاعف إزاء عدم المساواة وشحّ الحريات ونقص فرص العدالة والمشاركة ، لذلك على الجامعات تقع مسؤوليات كبيرة للاضطلاع بمهمة مركّبة أساسها تحصين الشباب ووقايته من التأثر بالجماعات الإرهابية من جهة، ومن جهة ثانية دفعه بالاتجاه الإيجابي للوقوف ضد التطرّف والإرهاب بجميع صوره وأشكاله وضد جميع مبرّراته وحججه.
وحسب تقرير منظمة اليونسكو فلا بدّ من النظر في الجهود الرامية إلى منع التطرّف العنيف ضمن إطار أعم وأشمل من مجرد المواجهات الأمنية والعسكرية، فلا شك في أن الاستجابات الأمنية مهمة، إلّا أنها غير كافية ولن تعالج الظروف العديدة الكامنة التي تولد التطرف العنيف وتدفع الشباب إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرفة العنيفة.
ويمضي تقرير اليونسكو لتأكيد الحاجة إلى: قوة إقناع (كالتعليم)، وهذا الأخير ينبغي أن يكون جيداً ومجدياً، ويتطلب ذلك دعمه وتطوير المهارات وإيجاد فرص للتوظيف واحترام التنوّع وتحضير الشباب لدخول سوق العمل، إضافة إلى الاستثمار في البرامج التي تروّج للمواطنة وتوفير تعليم شامل من الابتدائية وحتى التعليم العالي
وهذا يتطلّب :
1- تنمية الوعي الفكري والثقافي وتطويرهما للقدرات الشبابية داخل الجامعات والتركيز على الأمن الفكري للطالب الجامعي، كأمن ذاتي وجزء من الأمن العام للبلد ككل، أي تقوية مناعة الشباب الجامعي ضد فايروسات التطرّف والعنف والإرهاب.
2- إمداد المجتمع بالكفاءات المؤهلة من الخريجين والتخصصات الملائمة لواقعه ومستقبله، خصوصاً تلك التي تكون مسلّحة بالعلم والمعرفة وبقيم السلام والتعايش والمشترك الإنساني، وذلك نقيضاً للتطرّف والعنف والإرهاب، وكلّما استطاعت الجامعات تخريج الطلبة طبقاً لهذه المعايير والقيم، كلّما استطاعت أن تضخّ المضادات الحيوية في المجتمع ضد الإرهاب.
3- تطوير البحث العلمي، سواء داخل الجامعات بالنسبة للطلبة، أو عبر المؤسسات الخاصة بالبحث العلمي، والذي لا يمكن إحراز التقدم الحقيقي من دونه، خصوصاً بتخصيص الموارد الكافية له وتوفير السبل الناجعة للاستفادة منه والكفيلة بتسهيل مهمته. ولابدّ من مواكبة التطورات على هذا الصعيد بالاستفادة من التجارب العالمية، آخذين بنظر الاعتبار المستجدات والمتغيّرات في الساحة الدولية، سواء إزاء قضايا الإرهاب والإرهاب الدولي أو بيئاته الحاضنة فكرياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً واستغلال الأديان وتوظيفها لإضفاء نوع من القدسية والشرعية على استخداماته.
ويلاحظ إن جامعاتنا تعاني من أوجه قصور عديدة أهمها: ندرة البرامج المشتركة المعنية لمواجهة الجرائم الإرهابية الخشنة والناعمة منها بما فيها الحرب النفسية، وغالبيتها لا تزال تدور في الإطار التقليدي للأدوار المتعارف عليها دون تطوير، إضافة إلى عدم وجود خطط مستقبلية متوسطة وطويلة المدى، واقتصار الأنشطة والفاعليات الخاصة لجهود الجامعات على بعض الأنشطة الداخلية وعدم انفتاحها على البيئة المجتمعية خارج الجامعة، وعدم وجود آليات وتشريعات محددة لتقويم مجموعة الجهود المبذولة لمواجهة الجرائم.
ولعل نسبة كبيرة من الشباب ممن يتم تجنيدهم في المنظمات الإرهابية ويجري استغلالهم من جانب التكفيريين هم من العاطلين عن العمل، سواءً كانوا خريجين ومتعلمين، وفي أغلب الأحيان ممن لم يتموا تعليمهم، بل إن بعضهم من الأميين، وبسبب ظروفهم القاسية انساقوا وراء الأفكار المسمومة، لاسيّما لشعورهم بالاستلاب والتمييز وطغيان الكراهية والانتقام والثأر من المجتمع، خصوصاً بالتقصير الحاصل بإيجاد فرص عمل لهم وعيش كريم يوفّر الحد الأدنى، ناهيك عن الاستلاب الخارجي الواقع على مجتمعاتهم بسبب عدم عدالة العلاقات الدولية، واستمرار احتلال الأراضي ومحاولات التسيّد وغيرها.
وفي الجامعات والمراحل التي تسبقها فيلاحظ الخلل في المناهج الدراسية التي تفتقر إلى إعلاء شأن القيم الإنسانية ونبذ التمييز، خصوصاً وإن قيم الحرية والمساواة بين البشر بغض النظر عن دينهم ولونهم وجنسهم ولغتهم وعرقهم وأصلهم الاجتماعي، وقيم العدالة ، ولاسيّما العدالة الاجتماعية ، وقيم الشراكة والمشاركة التي تنمّي روح العمل الجماعي وتقرّ بالتعددية والتنوّع والاعتراف بالآخر، ما تزال ضعيفة، وأحياناً غائبة عن المناهج الدراسية.
تستطيع الجامعات أن تلعب دوراً مهماً في مواجهة الفكر الإرهابي التكفيري، بتشجيع قيم الحوار ورفض التعصّب ووليده التطرّف، وإعلاء شأن التسامح والسلام والمشترك الإنساني، الأمر الذي يضيّق الهوّة أمام التكفيريين، فالجامعة بهذا المعنى ليست مؤسسة لمنح الشهادات العلمية أو العليا فقط، بل هي مؤسسة للتواصل والتفاهم والتنمية والشراكة والمشاركة والمعرفة والتنوير لتعزيز القيم الوطنية والإنسانية وتحصين الطلبة ما يساعد على أن يكونوا سوراً أمام انتشار الفكر التكفيري وبهذا المعنى.
يمكنني القول إن ينتظر أن تقوم به الجامعات على هذا الصعيد هو:
1- الدور الوقائي والحمائي- أي العمل على تحصين الجامعة والشباب الجامعي ومن خلاله والمجتمع من الوقوع ضحية الأفكار التفكيرية الإرهابية، من خلال بث الوعي الثقافي والفكري ونشر القيم البديلة وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى توفير أرضية مناسبة وبيئة صالحة لبذر القيم الوطنية والإنسانية وتعاليم الأديان الصحيحة التي تدعو للخير والسلام والمحبة والإيثار والصدق وحب العمل والإخلاص والوفاء كقيم معتمدة وأساسية فالبشر أخوة.
وهناك وسائل متعددة لتحقيق ذلك، سواء عبر مؤتمرات أو ندوات أو حصص دراسية أو ورش عمل مع عرض التجارب العربية والعالمية والقوانين الدولية والإنسانية التي تجرّم الإرهاب وتحاسب على مرتكبيه.
وقد يحتاج الأمر إلى ندوات وحوارات بشأن الوسطية والاعتدال وفريضة الّلاعنف والتسامح وتنمية الجانب الإنساني التكاملي لدى الطلبة وخصوصاً باحترام الرأي المخالف وتأكيد حق الاختلاف، ولاسيّما الاختلاف في الرأي أو الاختلاف في العرق أو اللغة أو الدين أو الجنس، إذْ لا تطور حقيقي دون نزع فتيل التعصب والقضاء على التطرّف والعنف ووضع حد لظاهرة الإرهاب، ودون الاعتراف بالآخر وحقه في التعبير عن آرائه ومعتقداته وممارسة شعائره وطقوسه بحرية. وهذا يستوجب المساواة أساساً، والنظر إلى المختلفات كأمر طبيعي، فالوحدة في الثوابت التي تخصّ البشر والتباين في الفروع.
2- الدور العلاجي، ويتمثل بمعالجة بعض حالات الشباب الجامعي وغير الجامعي الذين انضموا إلى الجماعات التكفيرية الإرهابية، عن طريق احتضانهم لإعادة تأهيلهم، لاسيّما بإيجاد فرص عمل لهم وتحسين أوضاعهم المعيشية وتبصيرهم بحقيقة الأديان والقيم الإنسانية التي تنبثق عنها، وكلّما تسلّح الشباب بالعلم والعقلانية والمعرفة، وكلّما استطاعوا أن يكونوا سداً مانعاً وحامياً ضد الفكر الإرهابي التكفيري، فإنهم يستطيعون في الوقت نفسه احتواء بعض الحالات والتعامل معها بصورة إيجابية.
إن دور الجامعة يقتضي التصدّي للإرهاب: كفكر وفلسفة وثقافة ودين وسلوك وواقع مفروض، لأنه يشكل تهديداً أمنياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً ومجتمعياً ودينياً وتربوياً وقانونياً، الأمر الذي يحتاج إلى تضافر جميع الجهود وفي المقدمة منها الجامعات باعتبارها مؤسسات علمية وساحات فكرية للجدل والنقاش لدحض الأفكار الخاطئة ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، سواء كانت باسم داعش أو تنظيم القاعدة قبلها أو أخواتهما.
وتؤكد خطة اليونسكو العالمية بشأن التعليم كونه أداة لمنع التطرّف والعنف وتعزيز الائتلافات الإعلامية بما فيها شبكات الانترنت، ولاسيما التركيز على تمكين الشباب للمشاركة وتكريس التنوّع الثقافي وتطوير المناهج الدراسية وتدريب المعلمين ودعم وإصلاح بيئة المدرسة وتعزيز اختيار الطلبة لممثليهم بشكل حر وديمقراطي.
وبالعودة إلى ظروف العراق ودور الجامعات، ولاسيّما بعد 10 حزيران/يونيو 2014 حين احتلّ داعش مدينة الموصل وتمددّ إلى محافظة صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى ووصل إلى مشارف العاصمة بغداد، وكاد داعش أن يهدد إربيل عاصمة إقليم كردستان، وخلال وجوده الذي قارب ثلاث سنوات حاول تغيير الأنظمة القانونية والمناهج المدرسية وتدخل على نحو سافر في بعض المناهج الجامعية، كما فرض نظاماً شمولياً إسلاموياً مسيئاً لقيم الإسلام، ولاسيّما باستباحة الأديان الأخرى، وخصوصاً من المسيحيين والإيزيديين، وتعريض نسائهم للبيع في سوق النخاسة. وهكذا فإن المرأة والمجموعات الثقافية كانتا الأكثر استهدافاً وتضرراً من الحروب والنزاعات الدولية والأهلية.
وحاول داعش تغيير التراكيب السكانية والديموغرافية منطلقاً من نظرة متعصّبة إزاء الآخر، أي آخر مختلف، أو مغاير، وكل مختلف غريب وكل غريب مريب، وعمل على غسل عقول وأدمغة الشباب بشكل عام والأطفال منهم بشكل خاص بهدف خلق بيئة خصبة لنشر أفكاره ومعتقداته، مساهماً في إيجاد أوضاع نفسية واجتماعية مشجعة على ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى تعامل من نوع جديد مع هذه النتائج، لاسيّما بتفكيك الخلايا النائمة لإعادة بذر قيم السلام والتسامح والّلاعنف فيها.
ولن يتحقق هذا وإن كان بحدّه الأدنى إلا بتحسين الأوضاع الاجتماعية وإعادة بناء ما خربته الحرب وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتعويض السكان عمّا لحق بهم من غبن وأضرار. ولابدّ من إعادة تأهيل الأطفال دون سن الـ 18 وإعادة تأهيل الشباب، بمن فيهم الذين انتموا إلى داعش قناعة أو قسراً، بسبب ظروف الإرهاب والقمع والإكراه، ناهيك عن معالجة الآثار السايكولوجية لضحايا داعش، كي لا يندفعوا باتجاه الثأر والانتقام والعنف، ولا بدّ من إجراء حوار معرفي وثقافي ومجتمعي إزاء الظواهر العنفية والإرهابية بما فيها لبعض من تورطوا فيها.
إن العمل على تأمين الأمن الفكري والأمن المجتمعي يقتضي وضع برامج عمل للجامعات والتعاون فيما بينها ومع أجهزة الدولة الأخرى بهدف تحقيق التنمية دون نسيان دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ودور الإعلام والمثقفين بشكل خاص، ولا بدّ من تحديد الأولويات من الجانبين الفكري والثقافي إلى الجوانب القانونية والحقوقية، مع تأكيد الجوانب الإقتصادية والاجتماعية، وبالطبع الجوانب التعليمية والتربوية ، وتأكيد الجوانب الأمنية والاستخبارية والعسكرية التي ينبغي أن تكون آخر “العلاج الكي” مع ضرورة الحفاظ على الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان.
وعلينا تحديد تعريف علمي للإرهاب لكي لا يختلط مع مفاهيم أخرى، ولكي لا يتم التجاوز على الحريات وكرامات الناس بحجة مكافحة الإرهاب، ويمكن للجامعات أن تسهم في فتح قنوات للحوار وورش عمل بشأن ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب ، وهو الحوار الذي يمكن أن يبلور تعريفاً واضحاً للإرهاب لاعتماده من جانب الدولة في المحافل الدولية، سواء المنظمات المدنية العالمية أم الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ولا بدّ من العمل على تجفيف المنابع الفكرية والاقتصادية، لأن محاربة الإرهاب هي عملية متكاملة ومتداخلة ومركبة ومعقدة، ولا يمكن إهمال أي جانب منها، سواء كان الإرهاب على المستويات المحلية أم إرهاباً على مستوى الدول والحكومات.
وحسبي هنا أن أشير إلى أن الجامعات والبحث العلمي يمكن أن يسهما في مكافحة الإرهاب من خلال: 1- الاستثمار في التربية 2- محاربة الجهل 3- تأمين الحقوق الأساسية للإنسان 4- نشر ثقافة المواطنة، وقيم المساواة والسلام والحرية والعدالة والمشاركة. 5- الاستفادة من مخرجات التعليم والبحث العلمي في الخطط التنموية للدولة، خصوصاً تلك التي تشكل المرتكز الأساسي في مكافحة الإرهاب.
Summary
Towards a New Counter-Terrorism Strategy
Dr Hussain A. Shaban*
Extremism has become rampant in many societies, including some advanced societies, albeit in the old days of humanity. However, though “globalization,” the scientific revolution and tremendous development of information technology, communications, and digitalism, it is a global threat that could not have been measured a few decades ago, whether in the depth of its impact, its speed and vast outreach, until the whole world became a “space” for the virus of the terrorism. It is no longer just a danger to civil and community peace, but has become a global threat to international peace and security.
Extremism becomes material when it moves from theory to practice, from thought to reality, let alone if religion is used as an excuse to abolish, exclude and impose opinion by force, violence and terrorism outside the rule of law and the judiciary. This is especially by expiation of the latter, for the other claiming to posses the truth and declares preferences.
The phenomenon of extremism has spread the occurrence of violence and terrorism, which hit the Arab and Islamic countries at their core. It threatens fragmentation, if not division, which sometimes takes a social character, particularly when it finds a suitable environment for hatching eggs. Various groups of terrorist forces, from the organization of al-Qaeda and its branches to the Islamic state in Iraq and Syria, “Daesh” and its sister group the Front of Victory or “Fatah al-Sham” according to the new or other designation.
It is worth mentioning that the emergence of extremism has escalated to an alarming degree, after the wave of the “Arab Spring” which began in early 2011, whose “side” symptoms were the outbreak of chaos, insecurity and the spread of financial and administrative corruption that weakened the national state, and attempts by armed groups outside the rule of law and the judiciary. Some of these groups undertook to destroy the elements of the state’s components, either by “voluntary” action or through behavior and conduct leading to the same result.
If one of the essential functions of any State is the maintenance of public order and security and the protection of the lives and property of citizens, then extremist terrorist groups that have adopted violence as a means of resolving disputes between them and the State and have effectively led to a “civil war” dynamic, which contributed to the destruction of government institutions, economic and vital facilities, and the disruption of development. In addition, the process of accumulation and development, not to mention the absurdity and disregard of life, public and private property; whether paralyzing the organs of the State and lack of ability to carry out its tasks in part, most notably in chaos and insecurity.
If the change is “imposing an eye” as it is “imposition of kefiyeh,” for example, it is an option and a choice, yet at the same time “forced,” because this is the nature of things. However, access to it also needs to provide objective and subjective conditions to achieve it, as well as gaining public opinion. Even in countries where change has a popular will, the collapse of the old “Sharia” has not yet been completed and has faced great problems and challenges for transition and transformation.
Antonio Gramsci said, “The old is dying and the new cannot be born.” The vast majority of the world’s experiences have confirmed that the change in power has quickly receded, and sometimes the reactions are stronger and more severe, which will ultimately delay the process of gradual natural evolution.
This is because the degree of society’s development and the prevailing economic, social and cultural laws in addition to the level of awareness people and culture in general did not rise to achieve it, and vice versa. When development is consistent with the measure of public awareness, moving them from one stage to another, but without jumping on the stages or burning them, the more established, stable and successful they become, for the reason that it is a natural development and not imposed.
The research highlights a number of core topics, including:
Trilateral extremism, fanaticism and terrorism
Over 20 international resolutions and conventions:
13 of which were before the terrorist attacks of September 11, 2001, and 3 even more extreme after.
Most notable of these is from the UN Security Council: Resolution No. 1373 of September 28, 2001, which authorized a preemptive or preventive war, the right to war and invasion is in the interests of the nation-state.
International resolutions issued by the UN Security Council after the authoritative occupation of Mosul on June 10, 2014, and all seven of which were based on Chapter VII of the Charter of the United Nations.
In contrast to extremism, the spread of a culture of non-violence, tolerance, peace, rejection of hatred, recognition of diversity, pluralism and recognition of the other.
In advocating both new ideas and discourse, through approaches to dry out the ideological environment that incubates terrorism and confronts it intellectually, politically, legally, socially, educationally and religiously, in addition to the security and intelligence front without forgetting the media and civil front, especially the participation of civil society.
* Born in Al Najaf/Iraq in 21/3/1945 , has PhD(CSc) in International Law , he is an Intellectual, Academic Researcher, Thinker, Legal Consultant and Author of over 60 books within International Law, Constitution Law, Politics, Ideological conflict, In the Jurisprudence of Contemporary Religions, Nationalities and Ethnic Issues, Culture, Literature, Human Rights and Civil Society. A media expert within television, radio and current affairs.
Present, Vice President of The Non Violence University and Human rights, and Professor of Non- Violence and Human Rights subject, and The International Law and Humanitarian International Law.
Awarded the most prominent human rights activist in the Arab world (Cairo, 2003)
نشرت في مجلة الدراسات السياسية والأمنية – تصدر عن مركز الدراسات المستقبلية، العدد 2 ، كانون الأول (ديسمبر) 2018.