خاص: إعداد- سماح عادل
حين يختطف الموت شابا في عمر الزهور، يتحسس خطواته كشاعر في درب الثقافة الطويل والوعر، يحاول أن يجد لنفسه موطأ قدم، ويحفر لنفسه اسما وسط الخالدين، هكذا اختطف الموت الشاعر العراقي “أكرم الأمير” ورغم عمره القصير إلا أن له مكانا في قلوب الكثيرين من الكتاب والأصدقاء بخلقه الكريم وروحه العذبة.
“أكرم الأمير” شاعر ومسرحي عراقي، من مواليد ١٩٩٢، طالب في قسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة، جامعة البصرة، وحاصل على شهادة معهد الفنون الجميلة، من شعراء ما بعد ٢٠٠٣، الشعراء الذين أطلق عليهم مصطلح (جيل التغيير) كتب قصيدة النثر وهو من الشباب المحدثين فيها، له إلقاء ساحر ومجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (طيور تفضل المشي).
هو شاعر حاذق لا ينتمي لأحد وبرغم صغر سنه إلا إنه لم يقلد أحدا.. له مجموعة لم يسمح الموت بطباعتها تحت عنوان ملهم (الاسم الثلاثي لآدم)، وقد تنبأ بموته أكثر من مرة حيث قال في آخر صفحة في مجموعته الشعرية المطبوعة “لقد مت وانتهى الأمر”.
الرثاء..
وقد رثاه كثير من كتاب العراق:
قال عنه الشاعر “علاوي كاظم كشيش” ل(كتابات): ” أكرم الأمير صديقي وداعا، يا ما قلت لك توقّفْ عن العذوبة، حاول أن لا تكون أميرا ليوم واحد لكي ترتاح حمامات روحك من الطيران، استرح الآن من التحديق في الأشجار ومطاردة الكلمات وأرانب الطفولة، أنت الرابح الآن لأن طفولتك أخذتها كلها معك.. قتلتك عذوبتك.. ما كان عليك أن تكون عذبا أبدا يا صديقي.. وداعا صديقي الأمير”.
وقال الكاتب “أسامة غالي”: “(نحنُ نعيشُ في عالمٍ
كُلّما نامَ قليلاً، فزَ ليغسلَ وجهه
بالحربِ
وكأننا أحلامٌ سيئة!!)
هكذا يغادرُ الشاعرُ “أكرم الأمير” العالم تاركاً القصيدة تحرسُ الحُلم، الحُلم الذي لم يكتمل..
ثم ماذا بعدُ؟
تعرفتُ على “أكرم الأمير”، أول ما تعرفت عليه، في أحاديث الأصدقاء، كانَ على مقربة منهم جميعاً، صديقاً حميماً لشعراء العراق الشباب، يدنيهم منه خلقه الرفيع، وروحه الهادئة، مواقفه التي لازالت تمكث في الذاكرة، كانَ مرضه هذا جرحاً عميقاً في جسدِ الصداقة، كُلما التقيت شاعراً حدثني بمحبة عن “أكرم الأمير”، عن مكابداته مع المرض، عن اغترابه الموجع في زاوية من زوايا البصرة، ولم يبق الحديث في هذا الإطار، بل تأتي مواقفه معهم كذكرى بالغة الوفاء.. قبل موته بقليل كنتُ برفقه الصديقين الشاعرين “حمدان طاهر المالكي” و “حسين المخزومي”، ولم يمرّ اللقاء دونَ ذكره.. أخبرني “حسين المخزومي” عن سوء صحته، عن تمكن المرض من جسدِ الشاعر، حتى جاءَ نبأ رحيله، كانَ قاسياً لكلّ من عرفه، عن قربٍ، و عن بعدٍ أيضاً..
هكذا يغادرُ الشعراءُ العالم بحقائب مثقلة بالأسى..
أليسَ هو من يقول:
(القارب الخشبي يبدو أثقل حين يلامس اليابسة
يتمسك بالطين
كما لو أنه يريدُ أن يعودَ شجرة
هكذا هي الأجساد ثقيلة بعد الموت).
والشاعرة “منتهي عمران” قالت:
“بلا عدد
وزعتُ أيقونات الدمع بالأمس
حيث أقام الجميع عزاء للأمير
حزني كان أخرس ثقيل الدم
الشاعر لا يموت
هو فقط يخاصم الحياة ويرحل
يرحل خفيفا
يترك قصائده ثقيلة الوزن
تتربع على صدر الدواوين
تنفي غيابه وتهلهل باسمه إلى الأبد”.
وعلى حسابه على “الفيس بوك” قال الكاتب “إيهاب خليفة”: “وداعا أيها الشاعر البديع، اختطف الموت شبابك أيها الحبيب، روحي تعسة يا أكرم الأمير!
قصيدة البناء الضوئي للاسم
لأكرم الأمير
أسكن في بيتٍ صغير
بلا حديقة أو حتى مزهريات،
ولأن أبي فلاح بالأصل
ألصق داخلهُ صورة
لشجرة العائلة،
وكلما مرَّ بقربها
تفقد سلامة الأجداد.
أخي الكبير تزوج
وظل يسقي الشجرة
كل ليلة
حتى فاض المنزل بالأطفال،
وعندما كبروا ونمت أسنانُهم؛
تشاجروا من أجل قطعة كعك!
صار أحدهم يرمي الحجارة
على اسم الآخر
في الشجرة،
حينها أُصيب جدي وكُسر الغصن،
أنا الآن مقطوعٌ من شجرة.”
وقالت الكاتبة “ورود الموسوي”:
“كانَ نزفُك يا صاحبي نزفي
والجراحُ التي رافقتْنا سماء
رأسُكَ المُلقى على صدرِ النهايةِ
رأسي
كلانا لليلِ المَنِيَّةِ يرنو
فمَنْ فينا سيتلو سورة الفجر
مَن فينا سيُمسي حاملاً هذا العزاء!
الشاعر أكرم الأمير .. أو كما كنتُ اُناديه (الأكرم الأمير) كنتَ طيباً وبريئاً كابتسامةِ طفل، ونقيّاً كهواء الحقول، وكنت صامتاً كدعاء..
حزينة وحقِّ أدبكَ الجمّ وأخلاقك النبيّلة
حزينة على عمرك القصير وأحلامك الكثيرة.. حزينة كقلب امّكَ تماماً.. لك الله ولنا”.
وقال الشاعر ” كريم جخيور”:
“أكرم الأمير
بيننا
أكرم الأمير
حاضر بيننا
الأمير
الأمير
أكرم
لا ينتهي بيننا
حبك الأبدي”.
وقال الكاتب “شوقي عبد الأمير”:
” أكرم الأمير
الشاعر الجميل والصديق.. وداعاً
أكرم أمير
لا تقلْ انك اخترت التراب
لتكون رقيماً لوجه الأبد
ولا أنك رميت الوقت
كمسوّدةِ قصيدةٍ غير صالحة للنشر
ولا أن جسدك
سقط كورقة بيضاء
وأنت تعبر هاوية سحيقة
للجمال”..
وقال الكاتب “خالد خضير الصالحي”: ” كرم الأمير.. أمير الشعر التدويني
“حين أنهى الأخرس حديثه الطويل،
طقطق أصابع يديه!.
فبين حديث وآخر ترتجفُ أصابعه
كما لو أنها تجر نفَساً،
هذا الأخرسُ، صديقي
وهو أيضا لا يلفظ حرف “الراء”!،
ففي حربِ 2003 حينَ كُنا بِمتناول الشظايا،
خسر أحد أصابعه!.
هذا الكائنُ المهجور
يعيشُ الصمتَ وكأنه في عبورٍ مستمرٍ للشارع!.
ودائماً عندما أتحدث معه، لا يحرك يديهِ أبدا،
فلقد عرفتُ هذا الرجل مؤدباً ولا يقاطعُ كلامَ أحد!.
صديقي الأخرس هذا،
حاول مرة أن يقول كلمة “صواريخ”،
حينها شعرتُ بأن كفه يصفع وجه العالم!.
(أكرم الأمير)
كيف نرثي شاعرا كان الرثاء مهمته الأهم، فالشعر عندنا في العراق لم يبق إلا هدفا واحدا هو رثاء الحياة، وما آلت إليه أحوال العراقيين وكان أكرم الأمير أحد ضحاياها، يبدد الشعر العراقي الآن بقوة الألم تقسيمات أبي سلام الجمحي لأغراض الشعر في (طبقات فحول الشعراء)، ويجعل الرثاء غرضه الأوحد بدلا من المديح.
كيف نرثي فقيد الشعر بتحققاته الأكثر حداثية وتدوينية، أكرم الأمير الشاعر الذي ابتدأ مشواره من مقهى الأدباء، المكان المتواضع الذي ابتدأت منه مجموعة من محبي ومهووسي الشعر من الشباب في البصرة، كانت مجموعة من أجمل ما يكون عشاق الشعر، تضم عديدا من هواة الشعر، لا أتذكر أسماء الكثيرين منهم، إلا أن من بقي منهم مواظبا كانوا قلة منهم: أكرم الأمير و صفاء الصحاف، وحيدر كمّاد، وعلي إبراهيم الياسري، ثم التحق بهم مصطفى عبود. وآخرون، لا تحضرني أسماؤهم الآن، وتشتت آخرون ممن كنت أتوسم فيهم مستقبلا شعريا، أخذت الصحافة أحدهم واتجه آخر نحو الدراسة الدينية، وارتحل ثالث إلى أمريكا وضعفت صلتنا به، وبقي أكرم الأمير الأشد توقدا فيهم ولكن الموت قد اختاره.
كان أكرم الأمير شاعرا اقتنع، منذ البدء، بوجهة نظري بأن الشعر الرفيع، كما الكتابة الرفيعة، نتاج ثقافة شعرية عالية، فلكي تكتب الشعر عليك أن تقرأ عن الشعر لتعرف ما هو الشعر أولا، فكان قارئا نهما لما كنت اقترح عليه من الكتب التي تتحدث عن الشعر وتدرسه قبل أن يقرأ دواوين الشعراء. فقد اقتنع أن على الشاعر أن يجيد قراءة الشعر ليختار ما يقرأه ليبتعد عن اشنات الشعر وطفيلياته، وقد كان الهدف مما كنا نقترحه عليه من قراءات هو إنتاج نصوص (تدوينية) ترتكز إلى الثقافة في إنتاجها، فكانت أولى قراءاته كتب: الشعرية العربية للادونيس وبنية اللغة الشعرية واللغة العلياء لجان كوهين وغيرها من الكتب التي أسست فهمه لنمط من الشعر يفارق النمط (الشفاهي) المهيمن على منابر الشعر المهرجانية وعلى الذائقة العربية.
لقد أثمر بناؤه القوي نتاجا شعريا متميزا، منذ اول لقاء له مع جمهور الشعر في البصرة حينما قدمته مع مجموعة من الشعراء الشباب في التجمع الثقافي في مقهى الأدباء، وألقيت عنهم رأيا أعدت نشره في صحيفة (العالم)، فبقيت نصوصه التي قدمها للمتلقين وقتها عالقة في أذهانهم، وأيضا ما قدمه في المرابد الأخيرة مما رسخ اسمه كواحد من الشعراء الشباب المتميزين، وباعتقادي أن أكرم الأمير سيبقى عالقا في أذهان عشاق الشعر.
لقد وصفت شعر أكرم الأمير في هذه الجلسة:
بأن أكرم الأمير يؤكد قدرته على الإمساك بالشعرية (poetics) التي نقصد بها (السمات النصية) التي تمنح النص الشعري هويته، وتفارقه عن النص النثري، والقضية برأينا كانت (قضية اشتغال نصي جمالي منتج للدلالة)، بل أنني أعد نص أكرم الأمير نموذجا لما يتوفر عليه الشعر الحديث من خصيصة مهمة، قد لا نقدرها نحن العرب حق قدرها بسبب الإرث الشفاهي المهيمن على الشعر العربي عبر تاريخه الطويل، وهي ان شعره ليس تحويلا أو تغييرا لزي من النثر إلى الشعر، وان شعره يبدو لي وكأنه يولد شعرا وأن ما يجري بعد كتابته من تعديل إنما هو لاستئصال درنات النثر التي علقت به من الواقع النثري.. وهو الأمر ذاته الذي تحدث عنه بيكاسو عن التجريد الذي ينمو من المشخص (الواقعي) وتجرى عليه مراحل من التجريد والاختزال إلا أنه مهما جرت عليه من اختزالات فان روح الواقع تظل كامنة فيه لا تنمحي، فإن كما متعظما من الشعر العمودي بقي نثرا رغم شكله الموزون المقفى.
نص له:
(عن أبي أو الخشب بشكل عام)
القاربُ الخشبيُ يبدو أثقلَ حين يلامسُ اليابسةَ،
يتمسكُ بالطينِ كما لو انه يريد أن يعودَ شجرةً،
هكذا هي ألأجساد ثقيلة بعد الموت.
أرجو من اتحاد الأدباء المركز العام والبصرة والصديق المثقف الدكتور عبد الأمير الحمداني وزير الثقافة إلى انتداب لجنة لجمع النتاج الشعري لأكرم الأمير ويطبع في ديوان واحد يجمع ما كتب الشاعر الأمير.
نصوص لأكرم الأمير..
من قصائده:
وأنا على الأرض
رأيتُ امرأة بثوبٍ أسود
تُمسك ورقةً ممزقةً وقلماً،
فرسائل الجنود التي تدخل حقل الألغام،
تخرجُ منه ممزقة
مثل لعبة الكلمات المتقاطعة،
هكذا هُم الجنود أيضا
تخرجُ أجسادهم بأكثرِ من ظل!.
عدت وجلست ثانيةً على الكرسي
رأيتُ صديقاً قديماً
عادو به من الجبهةِ
كان بقدمين سليمتين،
أنا أتحدث عن النصفِ الممتلئِ من الكأس!.
الآن وبعد كل هذه الألغام،
كيف يمكنني أن أقنع الكرسي الذي أجلسُ عليه الآن
بأن لا تتحول أرجلهُ إلى عجلات!.
***
الرجل الثمرة ..
كي لا تنسى الأشجار أن تثمر
أبي كان فلاحًا يوزع عليها الروزنامات قبل كل موسم للحصاد،
فقد كان يؤمن دائمًا بأن الأشجار كلها يمكنها أن تثمر،
حتى تلك التي ماتت منذ سنين
ولكن على هيئة ابتسامة بشعة تنضج على وجه النجار!
البساتين تعرفك جيدًا يا أبي
حتى أنك حين كنت تعود إلى البيت،
كانت أبواب الغرف تتصرف على أنها أشجار،
لم تضحِّ بأشجارك الميتة يومًا
حتى الكراسي والطاولات التي كنت تشتريها لنا، كانت كلها من البلاستيك
أتذكر كيف أنك متّ ولم ترد السلام على نجار القرية
متّ يا أبي ومذ ذلك وأبواب الغرف أبوابٌ لا غير
لقد متّ يا أبي والأثاث الخشبي الذي يملأ البيت الآن
دليل قاطع على ذلك.
***
1
وطن غص بليله
الضوء
يفكر أن يضيء.
2
أينك يا موج
اكتبُ
على رمل الشاطئ.
3
حبر قلمي اسود
ورقي اسود
أكثر من حولي عميان.
4
شوارعنا البيضاء
بشر لم يخلقوا
تراب…
تراب.
5
لشدة السواد
صار الظل ضوءاً !
6
في عينيك
نظرت إلى وجهي
فوجئت
وعرفت
أن المرايا كلها تتعمد الإطراء.
7
أبشركم بـــ …؟؟
توقف دماغي
مجلجلاً بقدوم
وهم جديد
أسميته حباً.
8
(إلى علي بن أبي طالب)
في الكون
الكثير من الكائنات
،
،
وأنت !
9
لا تتوسلي
سوف…
اخبرُ
الله !!
10
شاعر تداس قصائدهُ بالأقدام
صانع الأحذية تدوس أحذيته الأقدام !
11
لأنهم عديمو الإرادة
الأرضيون
مدمنون على… الهواء !!
12
الببغاوات جادة دائماً
فالابتسامة تكسر مناقيرها !!
من مجموعة ” طيور تفضل المشي”
https://www.youtube.com/watch?v=DwsgbH5cLZU
https://www.youtube.com/watch?v=Of1FUxGAPs4