المؤلف: هشام شرابي المراجع: فادي كحلوس
المحتويات
المقدمة
سلوكنا الاجتماعي وبنية العائلة في المجتمع العربي
الاتكالية، العجز، التهرّب
الوعي والتغيير
الإنسان العربي والتحدي الحضاري
علاقتنا بأطفالنا
علاقتنا بالمرأة
علاقتنا بعضنا ببعض
المثقف العربي والمستقبل
أُنجِز الكتاب الذي بين أيدينا في عام 1974 من المفكر الفلسطيني “هشام شرابي” الذي يعد من المفكرين الأوائل الذين تأثروا بهزيمة حزيران/ يونيو 1967، ووقفوا مطولًا عند أسبابها ونتائجها، ولم يعدّوها على الإطلاق هزيمة عسكرية فحسب، بل هي نتاج واقع مهزوم كُثّف بالهزيمة العسكرية. وعلى غرار ما فعله المفكرون والكتاب والأدباء الذين تأثروا بالهزيمة؛ نحا هشام شرابي نحو مراجعة واقعنا العربي ببعده الاجتماعي، مستفيدًا من إعادته قراءة كل من كارل ماركس وسيغموند فرويد، تلك المراجعة مكنته النظر إلى واقعنا بعين ناقدة، مدركًا في الوقت ذاته أهمية تركيز هذا النقد على الجذر الرئيس للمجتمع، ألا وهو العائلة، مسلطًا الضوء على المواقف والأفعال والسلوكات التي تمارسها العائلة العربية يوميًا، وما ينتج منها في المآل، من مواقف وسلوكات وآليات تفكير جعلت واقعنا العربي على ما هو عليه من عجز وهزيمة.
على الرغم من مرور ما يزيد على أربعين عامًا على إنجاز هذا الكتاب، إلا أن المقدمات التي تناولها “شرابي” ما تزال قائمة وراسخة. الإشكالات المطروحة ضمن طيات كتابه هذا هي مسائل حيوية في يومنا هذا. لم يكتفِ “شرابي” بتوصيف جذور إشكالاتنا القابعة في جذر مجتمعنا “العائلة” وتشخيصها بل نبّه إلى خطرها وتداعياتها، وشدد على كارثية مفرزاتها. فمواقفنا وسلوكاتنا داخل الأسرة ستمسي تجسيدًا لسلطة المجتمع واستمرارًا له. وتناول الكاتب المؤسسات التربوية والدينية وكيف تقف موقفًا معززًا للثقافة المسيطرة، تلك الثقافة التي أسهمت إلى حد كبير في الهزيمة. انتقل الكاتب -ما بعد التوصيف والتشخيص- إلى طرح حلول تمثّل مقدمات لخروج مجتمعنا من صيغته الخانعة للسلطة الفوقية، والانتقال من العدمية الكامنة في ثناياه إلى دخول “التحدي الحضاري”. مؤكدًا دور المثقفين الرائد في هذا المضمار.
المقدمة
يقول هشام شرابي في مقدمة كتابه: كانت سنة 1967 بالنسبة إلي بدابة مرحلة جديدة من حياتي، أخذت فيها بإعادة النظر جذريًا في مواقفي الفكرية والسياسية السابقة جميعها، كان ذلك نتيجة التقاء سنواتي الأربعين بصدمة الخامس من حزيران/ يونيو، ويضيف: عندما نفيق من ذهولنا، ندرك أن الكوارث تؤدي أحيانًا إلى اليأس وأحيانًا إلى ترسيخ إرادة الصراع، والاستسلام لليأس يساوي الاستسلام للعدو.
ومن خلال قراءة “شرابي” ماركس ما بعد الهزيمة مباشرة “اكتشف مقدرة الثقافة المسيطرة على تكوين عقل الفرد، وإخضاعه لقيمها وتضليله في أعمق المستويات”. ويضيف: أدركت أن الخطوة الأولى إلى التحرير تكمن في التحرر الذاتي، وأن بداية التحرير الذاتي تكمن في التخلص من عبودية الفكر المسيطر. وهذا لا يجري بحسب “شرابي” إلا بإعادة النظر في ركائز الفكر الموروث كلها المستمدة من الثقافة المهيمنة، وإخضاعه لنقد مستمر وشامل.
عام 1967؛ أخذ الكاتب بالتساؤل حول تركيب مجتمعنا العربي وطبيعة السلوك الاجتماعي فيه، ومن جملة تساؤلاته: لماذا نعجز عن العمل لتحقيق أهدافنا الاجتماعية في حين تبدو المتغيرات الموضوعية مواتية لتحقيقها؟ لماذا نحن فرديون وسلبيون إلى حد يمنعنا من التعاون في حين إن التعاون من مصلحتنا جميعًا؟ لماذا نقبل في أعمالنا ما نرفضه في أقوالنا وتفكيرنا الخاص؟.
كانت هذه التساؤلات دافعًا له للبحث والدراسة وكان منطلقه الأساس في ذلك “سلوك الفرد الاجتماعي وعلاقته بالتربية العائلية والتثقيف الاجتماعي المعبرة عن هذا السلوك”، لا سيّما أن “السلوك الاجتماعي وتركيب المجتمع مترابطان ترابطًا وثيقًا وأن المنطلق الأساس لتفهم هذه العلاقة يكمن في تحليل العائلة والعلاقات التي تقوم عليها”، “وأن التربية والتثقيف في العائلة والمدرسة يهدفان إلى قولبة الفرد على النحو الذي يريده المجتمع وتقرّه الثقافة المسيطرة”، و”أن المجتمع بثقافته المسيطرة يُخضع كل فرد من أفراده لعملية تربية وتثقيف هدفها المحافظة على النظام وتأمين استمراره” و”يفرض على كل فرد أدوارًا اجتماعية لا يستطيع تبديلها أو الخروج منها”.
سلوكنا الاجتماعي وبنية العائلة في المجتمع العربي
يؤكد الكاتب في هذا الفصل أهمية “تحقيق المعرفة الذاتية” و”أن أي تغيير فعلي في مجتمع ما لا يمكن أن ينبثق إلا من صميم ذلك المجتمع، أي بتغيير الذات”. لذا؛ فالتحليل في هذا البحث بحسب تعبير “شرابي” يتركز على الارتباط الموجود بين العائلة والمجتمع وعلى أثر طرائق تربية الطفل.
أما القواعد التي يرتكز عليها الكاتب في هذا المنطلق، تتلخص بالآتي:
1- ذات الطفل تتكون تدريجيًا بتفاعلها مع ذوات أشخاص آخرين في سلوك تعلم يتكون قبل بلوغ الفرد وعيه الذاتي.
2- إن الذات مؤلفة من مستويات عدة يجري اكتسابها في سياق النمو والتجربة، المستوى الأول والأهم يتمثل في الأم، والمستويات الأخرى “التعلم في الطفولة والمراهقة، الوعي في سن البلوغ” فهي ذات أهمية بدرجات مختلفة.
3- الإنسان حصيلة عوامل وراثية وبيئية، ومن ثم فهو مجموعة العلاقات الشخصية المشتركة، والأنماط التي تتخذها هذه العلاقات في ما بعد، تتكون إلى حد كبير في السنوات الأولى من حياة الطفل.
4- طرائق تربية الطفل تمثل دورًا حاسمًا في تعيين نوع الشخصية.
5- التصرف والمواقف التي يتخذها الوالدان ضمن العائلة لها تأثير حاسم في نمو الشخصية.
6- التغيرات التي تطرأ على طرائق تربية الطفل، وعلى تجارب الطفولة، تنبع أولًا من موضع الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها العائلة.
يشير الكاتب في خضمّ تناوله “العائلة الممتدة” إلى أن “العائلة في خصائصها الأساسية صورة مصغرة عن المجتمع، فالقيم التي تسودها من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع، هي التي تسود العلاقات الاجتماعية بصورة عامة. كذلك فإن بنية العائلة القائمة على السلطة الفوقية، تقابلها بنية اجتماعية مماثلة. وهي تقوم بتجسيد النظام الاجتماعي الأكبر ودعمه. والمؤسسات “التربوية والدينية” التي تمثل دور الوسيط جميعها تقوم بتعزيز القيم والمواقف التي بوساطتها تُدرِج العائلة أعضاءها في الحياة الاجتماعية. فتغيير المجتمع يقتضي تغيير العائلة والعكس صحيح.
بعنوان فرعي باسم “السيطرة”، يقول “شرابي” إن الصبي يشعر بأن أباه يضطهده، وأمه تسحق شخصيته، أما البنت؛ فهي تلقى معاملة مختلفة ويجري تمييزها عن الذكر، فالذكر “كسب” للعائلة، والبنت “عبء” عليها، فتلقى اهتمامًا أقل من الذي يلقاه الصبي، وهو ما يتيح لها النمو بحرية أكبر، وأن تتعلم مواجهة المصاعب بنجاح، ولذلك فهي تنجح في مجابهة نظام اجتماعي يحاول سحقها باستمرار، ولذاك أيضًا يكون أثرها الخفي في العائلة وفي علاقاتها مع الرجل كزوجة أو أم أو شقيقة أو جدة، هو أثر عميق. فالأم تؤثر أبلغ تأثير في نمو الطفل في أثناء السنين الأولى من حياته، فالصبي هو حصيلة عمل أمه لا أبيه.
وفي ما يأتي بعض استنتاجات الكاتب التي تتمحور حول “السيطرة”:
العائلة لا تتيح للطفل سوى مجالًا ضيقًا لتحقيق استقلاله الذاتي، فسرعان ما يتعلم العزوف عن النشاط المستقل.
الإفراط في الاتكال يؤدي إلى الشعور بالعجز.
نظام التربية يقوم بتعليم الطفل أنه عاجز عن فعل أي شيء بنفسه وعاجز عن تحقيق الاحترام الذاتي.
نظام التربية ينمي عند الطفل الإذعان للسلطة.
عن الخجل والشعور بالذنب: يقول العالم النفسي “إيريك فروم” لا شيء أكثر تأثيرًا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من إقناعه بأنه تافه ورديء. ويرى “شرابي” بأنه الموضوع الأكثر إخجالًا، وهو محرّم في العائلة. وتجربة الجنس عند الطفل تتصف بالغموض والألم والفوضى. والطفل العربي يتلقى تربية تجعله يشعر بالخجل أكثر مما يشعر بالذنب. فالعيب الذي يشعر به الفرد العربي هو ما يقوله عنه الناس، بمعنى ألّا عيب في ما لا يراه الناس وما لا يسمعونه، ومن ثم فهو لا ينظر إلى الأمور المحرمة نظرة جدية.
التخجيل والاستهزاء كما يتحدث عنهما “شرابي”: نمو الأنا الأعلى نموًا كافيًا يفترض نوعًا من القدرة على الشعور بالمسؤولية، لكن الطفل الخاضع للتخجيل قد كوّن في نفسه شعورًا بأنه ليس مسؤولًا في كل حال، “الأم دفاعًا عن طفلها عندما يصفعه والده لأنه كسر قدحًا أو فشل في المدرسة تقول: ليس هو المذنب، هو لم يفعل ذلك” وهذا ما يكرّس عند الطفل فكرة “لا لوم علي” أو “أنا غير مسؤول والمسؤول شخص آخر”. وهذا يجعل الفرد ينظر إلى نفسه بوصفه مظلومًا أي ضحية. وبما أن الفرد يرفض بصورة لا شعورية السلطة التي تسحقه؛ فهو يعفي نفسه من المسؤولية، ما يؤدي إلى غياب النقد الذاتي وإرادة العمل والمبادرة في الفعل.
التعليم: ويميزه الكاتب بصفتين: يقلل من أهمية الإقناع والمكافأة، ويزيد من أهمية العقاب الجسدي والتلقين. والطاعة هي نتيجة الخوف لا الاحترام والحب، وفي ما بعد يصبح تحقير الآخرين طريقة عفوية في توكيد الذات. أما التلقين فهو شكل من أشكال فرض السلطة ويعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب، ويهدف التلقين إلى نقل قيم المجتمع وعاداته إلى صميم التركيب الذهني في الفرد، فالتلميذ الجيد هو من يعطي أجوبة صحيحة “مُلقنة” لا من يطرح أسئلة ملائمة. ونظام التعليم هذا يعزز السلطة، ويعطل طاقة الإبداع.
حب المعاشرة: يقول الكاتب إن العائلة العربية توجه الفرد منذ طفولته نحو الأشخاص لا الأشياء، وتدريبه على المعاشرة يجري بإشراكه في الحديث والحفلات، ويكبر تدريبه لتمثيل الأدوار الاجتماعية مع كبره. ويعتاد النظر إلى بقائه وحيدًا بوصفه أمرًا غريبًا أو شاذًا. التدريب على فن المعاشرة هو تدريب على المسايرة، وهي تعني حرفيًا أن يسير المرء مع الآخر ويرافقه ويتلاءم معه. وهي تفترض موقفًا ذهنيًا يتهرب من المواجهة المباشرة ومن معالجة المشكلات في جذورها. ويختم “شرابي” حديثه هذا عن المعاشرة بقوله: هناك تحالف بين المجتمع والعائلة، ويبدو هذا التحالف وسيلة تلجأ إليها الثقافة الاجتماعية المسيطرة لضبط التغيير.
الاتكالية، العجز، التهرّب
يلخص “شرابي” ما يراه مؤديًا إلى الاتكالية والخضوع بقوله: يتعلم الطفل درسين أساسيين من خلال تعامله مع ذوي السلطة كالأب والمعلم والخال والعم: كيف يقمع عدوانيته تجاه السلطة وكيف يتحاشى مواجهتها. وكثيرة هي الأمثلة التي يوردها الكاتب ويشرحها في هذا الشأن، ويوضح ما ينتج منها. مثال: الطفل الذي يضرب طفلًا آخر ينال العقاب في حين يُرثى للطفل المضروب وينال مكافأة. وهذا ما ينتج منه “خنق روح الاقتحام” عنده.
وتؤدي “استثارة العطف” دورًا في تعزيز اتكالية الطفل، “فالأم تكافئ الطفل الضعيف الذي يستدر عطفها”. ويأخذ استدرار العطف عند البالغ شكل الاستجداء، فكل طلب هو نوع من الاستجداء “يشدد الفرد حين طلبه المعونة في وصف حاجته بقدر ما يشدد على عجزه”. وحين تبلغ الاتكالية حدًا كهذا، تؤدي بصاحبها إلى التهرب.
هذه الثقافة تقدم وسائل تغطية العجز والتهرب من المسؤولية، ويجري التعبير عن ذلك بطرائق وأساليب مختلفة مثل: أن يتخذ المرء وضع المتنبئ بالكارثة “عندما يعبر عن شكه في نتيجة عمل ما فهو يؤكد في الواقع أنه لن يشارك في العمل، بمعنى أن إشارته إلى حتمية الفشل تزيل الحاجة إلى الاشتراك فيه ليبدو هذا الامتناع عملًا حكيمًا. وتسويغ التمنع عن العمل وتحمل المسؤولية يجري بتضخيم المصاعب، وهذا ما نراه حين نشاهد ما يشبه اللذة في وصف قوة العدو، لا من أجل محاربته بل من أجل تسويغ عدم محاربته.
نتيجة لمآلات “الاتكالية والعجز والتهرب” يقول “شرابي” إن المجتمع يقضي أن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام، وروح المكر محل روح الشجاعة، وروح التراجع محل روح المبادرة.
الوعي والتغيير
يقول “شرابي” إننا نحرم أولادنا من مواهبهم، ونحد من مقدرتهم، لأننا نسعى بغية جعلهم على صورتنا ومثالنا، كما فعل آباؤنا بنا، والتحالف الذي يجابه كل طفل هو تحالف العائلة والمجتمع. ويسأل: ما دام الأمر كذلك، فكيف لنا أن نحدث تغييرًا في المجتمع؟ فالمجتمع لا يمكن تغييره إلا بتغيير العائلة والعائلة لا يمكن تغييرها إلا بتغيير المجتمع. ويجيب: عن طريق الإدراك الذاتي، والمعرفة النقدية، والوعي الاجتماعي، فهمًا وإدراكًا وعملًا.
المعرفة الذاتية النقدية بحسب “شرابي” هي القادرة على اختراق الفكر السائد والنفاذ إلى قلب القاعدة الحضارية التي ينطلق منها سلوكنا الاجتماعي وينبع منها فكرنا وقيمنا وأهدافنا. والوعي الصحيح هو الوعي النقدي القادر على كشف الواقع وتعريته.ففي مجتمعنا ومنذ بداية عصر النهضة، غلبت المعرفة الدفاعية والفكر الدفاعي على المعرفة النقدية والفكر النقدي، وأصبح هدف المعرفة درء الخطر عن الذات بدلًا من معرفتها وتفهمها.
التمويه: هو حجب حقيقة شيء ما أو واقع ما، ويكمل “شرابي”، وفي مجتمعنا تبدأ عملية التمويه في البيت وتستمر في المدرسة، ثم يمارسها المجتمع في مؤسساته وعلاقاته كافة، والتمويه هو الذي يُخضع الوعي الخاطئ الذي يجعلنا نرى العالم من خلال نظارات تضعها ثقافتنا الاجتماعية والواقع المسيطر فيها. يبدأ انهيار التمويه عندما يحصل في المجتمع تحرك يؤدي ببعض أفراده إلى التساؤل حول المعطيات الأساسية المسلم بها في المجتمع.
المعرفة الذاتية: يؤكد “شرابي” أنه من الخطأ عدّ النموذج الغربي مثلًا يُحتذى في عملية التغيير الاجتماعي، ويشدد على قاعدة مفادها: أن ما يقود العلم ويسيره في المجتمع هو دافع ينبثق من ذلك المجتمع فيعطيه منطقه الخاص وطبيعته الخاصة، وليست القيم والأهداف المجردة التي يضعها المجتمع مرمى له ولجهده الجماعي.
الإنسان العربي والتحدي الحضاري
المقصود بالتحدي الحضاري عند “شرابي” هو تناول القضايا المطروحة من زاوية التحليل العلمي ليتوصل إلى فهم رصين يشكل بداية العمل في صلب الواقع من أجل تغييره وتجاوزه. وبهذا الأسلوب تابع الكاتب دراسته هذه، والإطار الذي اعتمده في تحليله يتألف من ثلاث علاقات تشكل في نظره القاعدة الأساسية التي يقوم عليها مجتمعنا، وعلى تغييرها يتوقف كل تغيير حقيقي فيه. وهي:
1- علاقتنا بأطفالنا.
2- علاقتنا بالمرأة.
3- علاقتنا بعضنا ببعض.
علاقتنا بأطفالنا
ينطلق الكاتب من حقيقتين؛ الأولى أن التجارب التي يحياها الطفل خلال السنوات الخمس أو الست الأولى من حياته، تُقرر تركيب شخصيته مدى الحياة، ولذلك فإن عملية تربيته وتثقيفه خلالها أمر حاسم بالنسبة إلى الفرد، ومن ثم إلى المجتمع. الحقيقة الثانية، أن عملية تربية الطفل وتثقيفه في إطار العائلة ليست عملية إرادية مخططة، بل هي انعكاس قيم ومعتقدات وأهداف تعبر عن تركيب اجتماعي محدد وتنبثق منه.
ينطلق الكاتب من هاتين الحقيقتين ليطرح أسئلة عدة: ما هي السمات الرئيسة للشخصية الاجتماعية التي تُغرس في الفرد وهو طفل في مجتمعنا؟ وما هي القيم والأهداف التي ينقلها المجتمع إلى الفرد بوساطة التربية العائلية؟. وفي معرض الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، يصل الكاتب إلى الخلاصات الآتية:
الشخصية التي يهدف إليها المجتمع وينتجها بوساطة العائلة هي شخصية تتميز برضوخها وبتهربها من المسؤولية وباتكاليتها.
مجتمعنا يرمي من خلال عملية التربية والتثقيف إلى إخضاع الفرد وكسر شوكته، وهذه العملية لا تتألف فقط من التعليم المباشر، فشخصية الطفل تنمو وتتكون بفعل ما يلاحظه ويسمعه ويراه من جانب والديه أكثر كثيرًا مما يتعلمه منهما مباشرةً.
الوسائل الرئيسة للإخضاع هي العقاب الجسدي والتخجيل والاستهزاء.
العقاب الجسدي لا يُعلّم إلا الرضوخ للأكبر والأقوى، والتخجيل يجعل الفرد أكثر امتثالًا لإرادة من هم أعلى منه. والاستهزاء يجمع بين العقاب والتخجيل.
الكبت الجنسي يقتل روح التمرد في الفرد ويضعف القدرة على التساؤل الحر والتفكير المستقل.
على الصعيد الفكري؛ عملية الإخضاع تأخذ شكل الإرهاب المباشر في التعليم وعن طريق التلقين.
علاقتنا بالمرأة
يصنّف “شرابي” الاضطهاد في مجتمعنا إلى: اضطهاد الفقير، والطفل، والمرأة. والأهمية التي يراها الكاتب ويوليها اهتمامه مستمدة من فكرة استحالة تغيير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الحالي، فهي التي تصنع الإنسان العربي. ويضيف: إذا كنا جادين في مجابهة التحدي الحضاري وبناء مجتمع جديد فعلينا أن نعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته كاملة، وهذا يعني شيئًا واحدًا: تحرير المرأة.
يكثّف “شرابي” معنى تحرير المرأة بـ: تغيير علاقتها بالرجل وتغيير دورها ومنزلتها في العائلة وفي المجتمع، بحيث تتساوى حقوقها وواجباتها مع الرجل.
علاقتنا بعضنا ببعض
ينطلق الكاتب من أن الواقع الاجتماعي لا الفكر المجرد هو الذي يقرر في النهاية تركيب المجتمع وطبائع أفراده، فالنزعة الفردية في مجتمعنا سلبية، وتستهدف خير الفرد لا الكيان الاجتماعي. فالفرد يتحرق لإبراز ذاته على حساب الآخرين ولتحقيق أهدافه على حساب مصلحة المجتمع، ومرد ذلك كما يقول “شرابي” رفع شأن ذاته والتعويض عن الكبت والاضطهاد اللذين عاناهما ضمن العائلة. ونزعة الانتماء إلى الجماعة لا تأخذ شكلًا اجتماعيًا بالمعنى الواسع، بل شكلًا عائليًا وعشائريًا وطائفيًا. والمنافسة الفردية تأخذ الشكل السلبي، فيصبح “نجاح أخي يعني فشلي”، وهذا نتيجة تنمية روح الغيرة من الوالدين في نفوس أطفالهما.
ينهي الكاتب حديثه عن التحدي الحضاري بقوله: الإطار الثقافي المجرد الذي لا يرى التحدي إلا بمنظور التجديد أو التقليد “الأخذ بنموذج الغرب أو بنموذج السلف” هو إطار خاطئ، وأن الشرط الأول لمجابهة التحدي الحضاري هو التغلب على شعورنا بالنقص تجاه الغرب والغربيين، ولا بد من خلع سيطرته علينا، وإن مقدرتنا على مجابهة التحدي الحضاري تتوقف على أمرين:
1- فهم صحيح لحقيقة الغرب ولما نريده منه.
2- القدرة على تجاوز نظرية التحديث ونظرية التقليد في مجابهتنا للغرب، والسير في طريق حضاري مستقل.
المثقف العربي والمستقبل
في الجزء الأخير من هذا الكتاب، يوضح “شرابي” عددًا من الموضوعات والمفهومات: فالمثقف ليس من أحسن الكتابة والقراءة أو حصل على شهادة علمية، وما يميز المثقف في أي مجتمع صفتان أساسيتان:
الوعي الاجتماعي الذي يمكّن الفرد رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة وتحليل هذه القضايا في مستوى نظري متماسك، والدور الاجتماعي الذي يمكّن وعيه الاجتماعي أن يؤديه.
يصنّف الكاتب المثقفين في أربع فئات، مقدمًا شرحًا عن ماهيتهم وأدوارهم:
1- المثقفون الملتزمون 2- أهل القلم 3- العاملون في حقل التثقيف والتعليم 4- المهنيون.
فاعلية المثقف ودوره يقرره عوامل موضوعية، كالنظام السياسي القائم وطبيعة العلاقات الاجتماعية المهيمنة والوعي الاجتماعي الراهن، إضافة إلى عوامل ذاتية كالوضع الشخصي ومستوى الوعي الذاتي وطبيعة الثقافة والتخصص العلمي. فمن خلال هذه العوامل واختلافها يجد المثقف نفسه أمام أحد أمرين: التكيف مع الوضع القائم او رفضه والعمل ضده.
وتبقى مهمة المثقفين بحسب “شرابي” تتمركز حول مستويات عدة؛ النقد والتقويم والتوعية، التعليم والتثقيف والبحث العلمي، التخطيط والتنظيم والتنفيذ. ويختتم “شرابي” كتابه بالقول: المجتمع العربي اليوم -موضوعيًا- على عتبة انتقال جذري، لكنه عاجز -ذاتيًا- عن تحقيق هذا الانتقال. والمثقفون عليهم أن يمثلوا القوة الذاتية في المجتمع المعاصر، وفي وعيهم يعبرون عن إرادة هذا المجتمع وأهدافه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم الكتاب: مقدمات لدراسة المجتمع العربي
اسم المؤلّف: هشام شرابي
مراجعة: فادي كحلوس
دار النشر: دار المتحدة للنشر
مكان النشر: بيروت/ لبنان
تاريخ النشر: الطبعة الثالثة 1984.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة