18 ديسمبر، 2024 10:06 م

نكبة الأحزاب المصرية

نكبة الأحزاب المصرية

المراقب للنتيجة التي وصل إليها حزب «الأحرار المصريين» لن يستغرب كثيرا، لأن الظروف التي نشأ في حضنها لم تقم على أسس وقواعد سليمة،
والبيئة السياسية التي يعمل من خلالها تفتقر إلى الحد الأدنى للعمل الحزبي، وبالتالي من الطبيعي أن تنفجر الخلافات وتصل إلى درجة أن أصبح كيان الحزب نفسه مهددا، وهو المصير الذي تلاقيه أحزاب عديدة، بينما أحزاب أخرى لا يزال أصحابها والمنتمون إليها يحاولون لملمة جراحها.

الحاصل، أن جميع الأحزاب المصرية دخلت المعترك ذاته الذي يعيشه حزب المصريين الأحرار، ولَم يفلح أحدها في النجاة من المقصلة التي قصمت ظهرها جميعا. وما نراه من ضجيج حزبي هنا أو هناك لا يتجاوز حدود إثبات أن هناك حزبا يحمل الاسم الفلاني أو شعارات تتردد توحي بأن هناك حياة حزبية في مصر، ومن يحاولون توظيف الصخب باعتباره دليلا على العافية السياسية تناسوا أن الأجواء العامة داخل غالبية الأحزاب سيئة والبيئة التي يمارس أي حزب عمله فيها ليست على يقين بأهمية العمل الحزبي وكل ما يهمهاالشكل الفولكلوري، وهناك أكثر من مائة حزب على الورق، لكن لا نملك الحزب الذي له وجود على الأرض فعليا.

الخلافات الحادة التي تحفل بها الأحزاب هي في الحقيقة انعكاس، إما للطريقة التعسفية التي خرجت بها تلك الأحزاب، أو جرّاء غياب الرؤية داخلها وخارجها، فالجميع لم يستوعب أن أي جماعة سياسية تريد ممارسة العمل العام لابد أن تحصل على شرعية في الشارع، وتجتهد في الانتشار والتغلغل وسط الطبقة أوالشريحة التي تمثلها، لكن أن تخرج كنبت شيطاني وتكتفي بما يحدثه القائمون عليها من مناكفات فهذا سيؤدي بها إلى الجحيم، وهو ما وصلت إليه الغالبية.

كما أن الجهات الرسمية التي سمحت للأحزاب بممارسة دورها على الورق أملا في الحصول على شكل يمنح انطباعات بالديمقراطية أخطأت مرتين، مرة لأنها تدرك مسبقا عجز القائمين عليها، وربما فسادهم المادي والمعنوي، ومع ذلك سمحت لهم بممارسة العمل السياسي، ومرة ثانية لأنها على يقين أن الطريقة التي يعمل بها هؤلاء تحمل طابع الهواة وليس المحترفين، وبالتالي لن تستقيم الأمور؛ وعاجلا أو آجلا سوف تدخل النفق المظلم، الذي تنطوي تفاصيله على مخاطر تتجاوز حدود جدران الحزب، وتمس سمعة الدولة ذاتها.فلن يصدق أحد أن ما يجري من خلافات هو نتيجة أطماع شخصية أو رغبة هذه القيادة أو تلك في الاستحواذ والسيطرة ونفي الآخر.

أعتقد أن أزمة حزب المصريين الأحرار كشفت عن أوجه كثيرة للخلل، الذي يمس أبجديات العمل السياسي، وأولها غياب الرؤية. فعندما خرج هذا الحزب للنور كان البعض يرى أنه انعكاس حقيقي للتوجهات الليبرالية في مصر، سواء لأن مؤسسه أحد ممثليها المهمين والمؤثرين، أو لأنه ضم نخبة سياسية وثقافية تعبر عن هذا التيار العريض، الذي يكاد ينقرض لأنه لم يجد من يعبر عنه فعلا أو من يحرص على استلهام إيجابيات الحقبة الليبرالية السابقة.

الصعود المفاجئ للحزب والذي مكّنه من الحصول على عدد من المقاعد في مجلس النواب جعلته أكبر حزب في البرلمان لم يأتِ نتيجة حضور في الشارع أو امتلاك أجندة واضحة مكّنته من الوجود في الشارع، لكن جاء ذلك بسبب إجادة لعبة الانتخابات، التي أجادتها من قبل الإخوان وكانت تمكنهم من الحصول على عدد من المقاعد. بمعنى أن ضخامة التمثيل البرلماني ليست دليلا على أن الحزب عملاق، أيّ حزب، لكن الضآلة حتما هي دليل على الضعف السياسي، فمن يكتسب شعبية في الشارع ويقترب من القواعد من الضروري أن يحصل على تمثيل نيابي جيد، حتى لو كانت أعتى السلطات لا ترغب في إفساح المجال السياسي أمامه، وتسعى بكل السبل لتضييق الخناق حول رقبته.

هذه النقطة تحيلنا إلى فكرة العمل السياسي النخبوي، والاقتصار على شعارات براقة تدغدغ عواطف الجمهور المستهدف، واستخدام أساليب وأدوات ملتوية لا تتناسب مع الحد الأدنى من أخلاقيات العمل الوطني. ومن يغلّبون هذه التوجهات سوف يواجهون في لحظة براكين وزلازل سياسية، يمكن أن تنسف ما تصوروا أنه إنجازات، وهي الحصيلة النهائية التي وصل إليها حزب المصريين الأحرار، والتي لن يتوقف عندها، بل يمكن أن تفتح له الباب لمزيد التشرذم السياسي. فالفريق الذي انتصر لن يستطيع مواصلة الزحف ليسيطر على مقاليد الأمور كلها، والمجموعة التي تلقت الضربة الأخيرة لن تستسلم لها أو ترضخ لطقوسها، فهي تحاول التفكير في رد الصاع صاعين، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الضربات والضربات المضادة.

هذا السيناريو ليس بجديد على الأحزاب في مصر، فقد دخله معظمها، وهو نتيجة معروفة ولا تخطئها عين المراقب السياسي وقد أفضت إلى انحسار دور عدد كبير من الأحزاب في لافتة مرفوعة في واجهة إحدى الشقق أو البنايات، مع وجود شخص يرث التركة ويستخدم زعامته الوهمية كنوع من أنواع الوجاهة الاجتماعية. لذلك من المبالغة الحديث عن حياة حزبية في مصر.

وتقديري أن ضعفها أو موتها يتحمّله أصحابها وعناصرها وليس لأي جهة أخرى، أمنية أو سياسية دور في تصعيد حدة الخلافات. وبافتراض أنها تدخلت من باب القيام بدورها بذريعة القيام بمهامها، فإن دورها لن يكون فاعلا ما لم يكن هناك خراب أو فساد جعل ممارسات هذه الجهات ذات تأثير.

المشكلة أن الوصول إلى هذه النتيجة خطورته سوف تكون مزدوجة، طبعا على الأحزاب ذاتها والتي تتضرر كثيرا وتفقد بريقها أو لمعانها السابق، وعلى الدولة ذاتها لأن فراغ الساحة من الأحزاب، سواء بموتها الإكلينيكي أو القضاء عليها وفقا لخطة ومنهج وتوجه، سوف يسمح بتفريخ آلاف وربما ملايين الأحزاب الصغيرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وكل شخص لديه حد أدنى من الوعي السياسي سيتصور أنه قائد وزعيم لمجرد أنه يستطيع الوصول إلى شريحة عريضة تعجب بأفكاره حتى لو كانت سطحية.

ووجه الخطورة الحقيقي هنا يكمن في صعوبة السيطرة والفوضى والانقلاب، لأنها أحزاب أو كيانات وهمية من المستحيل إحكام السيطرة عليها بأي وسيلة مهما بلغت دقّتها ومتانتها وقدرتها على الخداع. فهذه ساحة مفتوحة للجميع ليمارسوا فيها كل أنواع الدجل والخداع والتضليل، والذي يتزايد في ظل تردي الثقافة السياسية، لأن ما يقدّم ما يقدّم من قبيل النقد والاعتراض هو انتقام أكثر منه انتقاد، وشيوع هذه الحالة نكبة على الأحزاب ونكبة على الدولة أيضا.

بالتالي المطلوب إعادة النظر في العمل الحزبي والبيئة والأجواء التي يعمل فيها عموما وامتلاك رؤية شاملة لتفريخ سياسيين، لأن ترك الأمور على حالها سوف يؤدي إلى تفريخ المزيد من القنابل التي تنفجر في وجوهنا جميعا، ومن يعتقدون أن انفلات وتشرذم الأحزاب وانتشار الأمراض داخلها يحقق لهم مصالح ويمنحهم قدرة أكبر على التحكم واهمون، وقد يكونون أكثر المتضررين مستقبلا. ومصر التي تتطلع لأدوار كبيرة من الضروري أن تهيئ التربة لظهور قوى كبيرة، وتستوعب المعارضين عبر قنوات شرعية فوق الأرض، لأن اقتتالهم السياسي أو حتى اختفائهم يفتح المجال للنزول تحت الأرض، بما يصعب مهمة المراقبة والمحاسبة.

نقلا عن الأهرام