تحلق نوارس روحك على ضفاف الذكريات التي تحملك رغماً عنك الى سنوات مضت من حياتك ، ومنها طفولتك ومراهقتك بين حين وآخر ، بتحريض من أغانٍ كنت تستمعين اليها في ذلك الوقت الذي ربما تتمنى طفلة او مراهقة نقية لم تغادر أعماقك بعد ، لو تسمرت في صفائه حفاظا على القلب من جروح زمن لاحق .. لم يكن ثمة هواتف نقالة تصورين بها الأمكنة والناس والأشياء حفاظا عليها في حافظة صور ملموسة ، بدلا عن الاكتفاء بحافظة ذاكرتك القابلة للعطب .
الأمكنة علامات في الذاكرة
تحوم النوارس حول صور تتلألأ على تلك الضفاف لأمكنة وعلامات بغدادية عريقة مررتِ بها في عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت بحكم قرب مدارسك بمراحلها الابتدائية والمتوسطة والإعدادية منها ، حيث أصبحت لديك صديقات من مختلف القوميات والأديان ممن يسكن في تلك المناطق ، والجميع عبارة عن نسيج متجانس جميل وملتزم بالقيم الاخلاقية في الغالب إلاّ قلة لم تتمكن من تشويه المجتمع في حينه ، ومن تلك الأمكنة شارع الجمهورية والدهانة والشورجة وساحات الرصافي وزبيدة والوثبة وحافظ القاضي وسينما الفردوس ـ هذه السينما كانت تقع في شارع الكفاح قبل أن تختفي ، وقد جرى تصوير مشاهد من تمثيلية (سينما) فيها وكانت من بطولة محمد القيسي وأمل طه وظهر فيها الممثل الكوميدي عزيز كريم وهو يردد (نارك قلبي نارك) .. اشتهرت هذه الجملة في الشارع حيث أخذ الناس يرددونها على سبيل النكتة ، وأما الساحة التي احتضنت سينما الفردوس هناك فقد تعرضت لنكبة متمثلة بانفجار سيارة مفخخة حصد أرواح الكثيرين في سنة 2007 ـ وكذلك سرتِ منذ طفولتك في درابين المربعة التي كان يسكنها المسلمون والمسيحيون ، وشارع الرشيد وأورزدي باك المزدحم وستوديو موسيس الذي تتذكرين أنه كان يضع صور بعض الفنانات على واجهته ، ويتراءى لك خيال وكالة شركة الصناعات الدقيقة القريبة من الاستوديو ، وتتذكرين الكنيسة التي تقع في الشارع الذي يحتضن إعدادية النضال للبنين ، وشارع النهر الذي كان مقصد النساء والبنات لشراء لوازم أناقتهن حين كانت الملابس أجمل وأكثر أنوثة على الرغم من بساطتها (وصدى صوت الراحل صلاح عبد الغفور يتردد .. حلوة يالبغدادية يام خدود الوردية .. نظراتك من كَلبي تزيد دكَاته شويه شويه ) ، ولاشك في أن سوق المستنصر هناك كان الأشهر في بيع الأحذية النسائية .
الرشيد ومكتبات وذكريات الكتب والمجلات
وتأخذك النوارس الى شارع الرشيد حيث مكتبات بيع الكتب والمجلات ، تشترين منها القصص الموجهة لفئتك العمرية ، وتسحرك الرسوم التي تتخللها وترسمين مايشبهها على أوراقك وبين قصصك التي كنت تكتبينها ، وتتابعين سلسلة قصص بساط الريح المصورة وسوبرمان وميكي وسمير ومن ثم المجلات العراقية القديمة كـ (المتفرج) ، ومن ثم (ألف باء وفنون) والمجلات العربية الثقافية (العربي والدوحة) والنسائية والمنوعة كحواء وكواكب والشبكة واليقظة ، وجميعها كان محفوظا في مكتبة أهلك المنزلية ما أتاح لك فرصة الإطلاع عليها في مرحلة الطفولة ، كما كنت تقتنين بطاقات الإهداء في المناسبات مطبوعة عليها وجوه فتيات صغيرات مرسومات بأسلوب الرسامة مارغريت كين وهو أسلوب العيون الكبيرة ، وقد أنتج فيلم عن سيرتها في العام 2014 وجسدت الممثلة إيمي آدمز دور مارغريت التي اشتهرت في خمسينيات القرن العشرين .
كانت واجهات المحال التجارية تتجمل بصور الفنانين المصريين كميرفت أمين وحسين فهمي ، والمطربة الإيرانية كوكوش التي كنت ترين صورها معلقة على الجدران في الشوارع العامة القريبة من ساحة حافظ القاضي وهي تظهر بقصة شعر ولادية وقميص أبيض وبنطلون كاوبوي ، وكذلك تزينت واجهات المحال لاسيما محال الحلاقة بصور الممثل الإيطالي فرانكو غاسباريو ، وهو ممثل سينمائي وأحد أبطال قصص مجلة سمر المصورة المترجمة ومعبود المعجبات والذي توفي في العام 1999 بعمر 50 عاما بعد معاناة مع الشلل الذي أصيب به في تعرضه لحادث بدراجته النارية ، وكانت أعداد مجلة سمر اللبنانية تدور بين بعض البنات يقرأنها بشغف ، ويتبادلنها ، ويتناقشن حول قصصها الغرامية ، وهو امر طبيعي أن تهتم المراهقات بالحب وقصصه ، ولكن عبر تلك القصص او الأفلام العربية الرومانسية ، وإما في الواقع فكانت غالبية البنات ينتمين الى عائلات محافظة ولم يتورطن بعلاقات حب ، إلاّ القليلات منهن كن يتجرأن ويرتبطن .. كصديقة لك سألتك يوما : (هل أنا حلوة) ؟ أدركتِ حينذاك أنها وقعت في الحب .
البنات والأغاني والتلفزيون
وفي الطريق الى المدرسة اعتاد بعض الشباب أن يعاكسوا الطالبات ، ثمة واحدة من صديقاتك كانت تضع نظارة طبية تجعلها شبيهة بالمطربة ذائعة الصيت في ذلك الوقت عزيزة جلال ، وكان يعاكسها في الطريق مراهق يناديها باسم المطربة ، فقررت أن تخلع النظارة حتى تتخلص من معاكسته اليومية لها ، لكنه حين رآها بلانظارة قال (اليوم عزيزة جلال بلانظارة) .. ويتردد صوتها من احدى الضفاف البعيدة : (إلاّ أول ما تقابلنا أنا وأنت / عمري ما انسى كنا فين وازاي وامتى / عيني من ساعة ما شُفت عينيك / ما نزلت من عليك / ايدي من يومها وهي لسه بتسلم عليك / أنسى يومي وذكرياتي / واللي جاي لسه في حياتي / أنسى كلو إلاّ أول ما تقابلنا أنا وأنت) !!
كنت ترين عزيزة في التلفاز ، وتحبين أغنيتها تلك ، كما تحبين في طفولتك أغنية للخليجية ليلى عبد العزيز ( وش علامك بالاسمرانيه … لا اله إلا الله تسمح النيه ولو .. يا من عطيته من الصغر قلبي … قلبي صويب اليوم ارحم شوية ولو) ، ثمة قناتان تلفزيونيتان فقط : قناة تسعة وقناة سبعة ، لا(ستلايتات) ولاقنوات فضائية ، تتابعين برنامج سينما الأطفال لنسرين جورج كل يوم خميس ، تشاهدين أفلام الكارتون الروسية المدبلجة كزبابا بوتاتشنا وعقلة الإصبع والمهر الأحدب وفتاة الثلج التي تذوب في النار وتصعد لتكون غيمة وشتوشا كوتوشا وكذلك حوريك ياأرنب وتوم وجيري وسندريلا والأميرة النائمة ومن ثم أفلام الكارتون اليابانية المدبلجة كمغامرات الفضاء (كريندايزر) الى درجة عشق دايسكي ، وقبله ن سندباد ، وساسوكي الذي كان يتابعه الكبار والصغار ، والليدي اوسكار وحبيبها اندريه ، وساندي بيل ، كنتِ تتعلقين بأبطال أفلام الكارتون ، بينما صديقاتك أحببن لاعبي المنتخب الوطني (تشكيلة الثمانينيات) عن بُعد ، وكل واحدة منهن تدعي أن حبيبها أفضل من اللاعبين الآخرين .
تطل على شرفات ذاكرتك (فتاة في العشرين) لشذى سالم وعبد المطلب السنيد ، ومسلسلات رومانسية بطلاها الفنانان سناء عبد الرحمن وحسن حسني .. تستحضرين مشهداً يجمعهما في (التلفريك) الذي اختفى لاحقاً من متنزه الزوراء ، كما لم يغب عن بالك ( قبل رحيل المواسم ) لآمال ياسين وعبد الوهاب الدايني ، وتستذكرين شخصيات من ( الذئب وعيون المدينة ) و(النسر وعيون المدينة) كقادر بيك ( خليل شوقي) واسماعيل جلبي (بدري حسون فريد) وحسنية خاتون (مي جمال) ورحومي (طعمة التميمي) وأبي عطية (سامي عبد الحميد) ونظيرة خاتون (فوزية عارف) وأفراح (هند كامل) وعبد الله أفندي ( جعفر السعدي) وغفوري أفندي ( سليم البصري) وحمادي العربنجي (راسم الجميلي) وإبراهيم (محسن العلي) ورؤوف (مقداد عبد الرضا) وكَمرة (سناء عبد الرحمن) ورجب (قاسم الملاك) وأم عطية (فاطمة الربيعي) وآخرين . ومن المسرحيات التي بقيت ماثلة في ذهنك : المحطة : بطولة طالب الفراتي وعبد الجبار كاظم وليلى محمد وعماد بدن وعدنان الحداد ، والخيط والعصفور : بطولة خليل الرفاعي وامل طه ومحمد حسين عبد الرحيم .
ألن ديلون وصوفيا لورين وآخرون
استهوتك أفلام الثنائي خفيف الدم بود سبنسر وترانس هيل ، وأفلام جوليانو جيما ، وألن ديلون الذي تسبب بأزمة في شارع المعجبين حين انتهى أحد أفلامه نهاية مأساوية تمثلت بإعدام البطل .. كيف يُعدم ألن ديلون ؟! كيف سولت للمخرج نفسه أن يؤذينا بهذا النهاية البشعة ؟ وبقي في ذاكرتك فيلم (زهرة عباد الشمس) لصوفيا لورين وماستريو ماسترياني حيث تفرق الحرب بين الأحبة وتنمو على رفات الجنود أزهار عباد الشمس في مشهد يدمي القلب ويسحر العين ، وفيلم (رقصة واحدة تكفي) لجون ترافولتا ، ومن المسلسلات الشهيرة : حافات المياه والبيت الصغير والحسناء والوحش وملائكة شارلي والعودة الى عدن ، وعبر المجلات والصحف كنت تطلعين على أخبار بروك شيلدز وكاترين دينوف وصوفي مارسو ورومي شنايدر وناتالي وود وفرح فاوست وجوان كولينز وكلوديا كاردينالي واورنيلا مونتي وراكيل والش وايزابيل ادجاني نجمات تلك المرحلة .
أغانٍ عراقية وعربية
وتغيرت الأمكنة مثلما غابت صديقات ووجوه عنك في الحياة.. وكم تحبين التجديد إلاّ الشوارع والأمكنة العامة كم تتمنين لو بقيت كما كانت ، لأن فيها جزءًا من حياتك وتغيرها يشعرك بالغربة ، فقد افترقت عن صحبتك ومدرستيك المتوسطة والإعدادية وأما المدرسة الابتدائية فقد اختفى اسمها بعد إعلان مبناها آيلاً للسقوط ، حتى أن مابقي من تلك الأمكنة قد فارق جماله القديم .. إلاّ الأغاني التي سمعتها في تلك المرحلة مازالت كما هي جميلة ، تعيدك اليها ، فهذه ( يا أم العيون السود ماجوزن أنا ) يغنيها ناظم الغزالي في فيلم ( مرحبا أيها الحب) وهو يظهر مرتديا الزي العراقي الشعبي وبصحبته شقراء اسمها جاكلين وهي ترقص ، وكان الفيلم من بطولة نجاح سلام وسامية جمال ، ولاشك في أن جيلي يتذكر أغنيتهما في الفيلم ( جوز عيني جوز .. والله مابيجوز .. غيري بيتهنى ويجوز .. وأنا بلا جوز) ، وهنا ترتبط الذاكرة بـ ( جوزي اتجوز عليا وانا لسه الحنة بايديا ) لعبوسي (حمودي الحارثي) في المسلسل الأنجح والأشهر ( تحت موسى الحلاق) حين جعل من هذه الأغنية درساً لطلاب محو الأمية من رواد محل حجي راضي ( سليم البصري) ، وتتناهي الى سمعك من أعماق طفولتك أصوات كحسين نعمة (قوم انثر الهيل قوم انثر الهيل / بسكة وليفك لو خطر / يتلالى بعينه السهر / وينور الليل قوم انثر الهيل / غرق رموشك بالكحل / ياسمر يابو عيون الشهل / واشتل سواليفك شتل / قوم انثر الهيل/ بجفوف كل طارش يمر / بجروف موجات الفجر / قوم انثر الهيل / ارقص على متون الجرف / رقص البيادر ياترف / بلكن يمر بيك الولف / قوم انثر الهيل / قد هذا بدروبه القمر / بعيونه تذكار وصور/ من لمعة سهيل ) ، وسعدون جابر : (ياطيور الطايره مري بهلي / ياشمسنا الدايره ضوي لهلي/ سلميلي وغني بحجاياتنا / سلميلي ومري بولاياتنا / آه لوشوقي جزى تاه ويا نجمه / آه لو صيف العمر ماينطي نسمه / للهوى دواغي الحبايب / يبي يغفى ويا الغصايب / سلميلي ياطيور الطايره/ سلميلي ياشمسنا الدايره ) وامل خضير : (سلم سلم بعيونك الحلوة / تدري سلام العين قلب اليحب سلوى / سلم على الولهان يا زين بعيونك / يا وردة البستان الكل يحبونك / سلم وريحني وبعيونك اسحرني/ وبنظرتك اروى وبنظرتك اروى) ، وسيتا هاكوبيان : (سيّرلي بجناح الهوا طيفه وجاني / مشتاق انا وطيفه شمس وردة لقاني / شميته بحرورة قلب وأخفيت همه / مثل الطفل كلبي ابتشر من عاود امّه / شوكَي خذاني) ، ورضا الخياط : (بالله يا طير الحمام الي تسافر/ ودي لاحبابي السلام / وإحمل بجنحك رسايل من تهاجر …للي حرموني المنام ) ، وحميد منصور : (سلامات ابعث سلامات .. ويه الرايح .. ويه الجاي ابعث سلامات .. سلامات سلامات ريتك سلامات .. صبح ومسى يهواي ريتك سلامات) ، ومحمد الشامي في الأغنية البصمة : (يفر بيه هوى المحبوب يايمه / يفر بيه وانا ماتوب يايمه / ياعيني ويعني وعليه انشد / ياعيني ويعني ولون يبعد / وانا بليـاه عرفت الآه ) ، وسميرة توفيق : (بين العصر والمغرب / مرت لمه خياله / وعرفت فرس وليفي / لانها شقرا ومياله) ، وعبد الحليم حافظ : ( اهواك واتمنى لو أنساك ) ، وميادة الحناوي 🙁 الحب اللي كان ) ، ومن المؤكد لن تنسي عائلة بندلي : (رايح انت لبعيد ، ياقلبي ياصغير ، ياحبيبي تعال الحقني ، غزالة ، وردة حمرا ) ، وأغاني شيلان الكردي والأغاني الآشورية التي كانت ضمن الأشرطة الصوتية في منزلك ، وكذلك الصوت الصاعد في حينه محمود أنور وهو يغني (لو تحب لو ما تحب هي وحدة من اثنين .. تاركني وسط الدرب توعد إلك سنتين .. حتى بعذابك عذب بس الصبر لي وين) ، وصوت الصاعد أيضا أحمد نعمة (على العنوان اكتبلك على العنوان/ واظل مشتاك لعيونك واظل عطشان / الف موال اغنيلك والف مرسال اوديلك/ وعلى بالي ابد مايخطر النسيان / على العنوان اكتبلك على العنوان) ، وقبلهما (يابابا افز بليل أسمع صوتك ينادي) غناها مهند محسن في طفولته ، وكان هو وهيثم يوسف في فرقة أطفال غنائية في ثمانينيات القرن الفائت ، وسبقتهما بلقيس فالح وإلهام أحمد اللتان كانتا الأشهر في سبعينيات ذلك القرن في مجال الغناء للأطفال .
برامج ومذيعون مشهورون
وتستذكرين كذلك أشهر البرامج في ذلك العقدين من الزمن : الرياضة في أسبوع / تقديم مؤيد البدري ، العلم للجميع / تقديم كامل الدباغ ، سيرة وذكريات / تقديم ابتسام عبد الله ، عدسة الفن / تقديم خيرية حبيب ، استراحة الظهيرة وهو برنامج تمثيلي انتقادي كوميدي اشتركت به مجموعة من الفنانين كمحمد حسين عبد الرحيم وأمل طه وليث عبداللطيف وسعدي صالح ومحمد عطا سعيد وزهير محمد رشيد وآخرين ، وكنت تتابعين بشغف برنامج نادي الإذاعة / تقديم ناظم زاهي وإخراج فائز جواد . ومن مذيعات ومقدمات البرامج في تلك المرحلة كَلاديس يوسف وامل المدرس واعتقال الطائي وشميم رسام وسهام مصطفى وامل حسين وفريال حسين والراحلة خمائل محسن وسهاد حسن وزكية العطار وميسون عبد الرزاق وسعاد عزت وحنان عبد اللطيف وهناء الداغستاني وسهام مصطفى ونضال المهداوي ومديحة معارج وعهود مكي وإقبال حامد . ومن المذيعين رشدي عبد الصاحب وغازي فيصل ونهاد نجيب ومقداد مراد وشمعون متي وخيري صالح وصباح الربيعي وأحمد المظفر وأكرم محسن ، وكل هؤلاء تميزوا بإتقان اللغة العربية وحسن الإلقاء .
(ردح) العمارة في عكد الأكراد
تحملك النوارس الى عكد الأكراد في محلة سراج الدين حيث أعدّ الأطفال والفتيان الأكراد الفيلية والعرب في نهاية عقد سبعينيات القرن الفائت او مطلع الثمانينيات سهرة صيفية حتى وقت متأخر من الليل ضجت بها الأجواء ، رددوا فيها مع الرقص (الردح) : ( وأشلون دبجج ياعمارة .. هيج وهيج) وكنت أنت وأخواتك وبنات الجيران وأمهاتكن تقفن عند أبواب الدور تتفرجن بفرح بالغ وتضحكن ولاتدرين بماستحمله الأيام اللاحقة من أسى .. تلك السهرة المتكررة مرتين على مدى عامين لم تمحَ من ذاكرتك حتى اليوم وكنت تتمنين أن تتكرر كل عام .. يذكرك ذلك أيضا بمشهد رقص جارٍ مراهق في عرس حيث كانت تنطلق (زفة العرس) بالسيارات التي تدور في بغداد وصولا الى الفندق ، تتذكرين جاركم ذاك بحزن لأنه فقد في حرب الثمانينيات وهو في الثامنة عشرة من عمره وربما أقل وبقيت أمه العجوز تأمل عودته حتى أنها أعطت أمك صورته لتضعها تحت رأسك حين أصابتك الحمى ذات يوم عسى أن تري رؤيا تدلها عليه ، ويبدو أن ذلك السلوك (وضع صورة تحت وسادة مريض) معتقد شعبي قديم مثل وضع فئة نقدية تحت رأسه ليلة ومنحها لمحتاج كصدقة تذهب المرض . كانت ثمة أحداث حزينة في ذلك الوقت مرتبطة بالحرب وسواها ـ تستحق أن يكون لها مقالها أيضا ـ ، وقبلها كنتِ طفلة صغيرة جدا في السبعينيات ، أدى خوفك مما انتشر في الشارع من أخبار جرائم (أبو طبر) الى تصورك أنه مخلوق خارق قادر على اختراق الجدران ، لذا حين كنت تخلدين الى النوم تنظرين الى النافذة والجدران برعب وتتصورين أن (أبو طبر) قد يخترقها في ليلة من الليالي ليقضي عليك . وبمرور الأيام اختفى شبح ( أبو طبر) بإلقاء القبض عليه .
موجة أغاني الديسكو
أصبحت مراهقة في ثمانينيات القرن العشرين ، وحلق خيالك مع (Far Away) و(Forever and Ever) لديمس روسس ، وجذبتك أغاني الديسكو التي مازالت ترافقك وتعيدك الى تلك الأيام ، فتلك الأشرطة الصوتية (الكاسيتات) والحفلات البيتية الصغيرة العابرة بين أبناء وبنات العائلة الواحدة تشكل جزءًا من صدى حنينك الى المدينة القديمة المنفتحة على العالم أكثر من الآن والتي مابقي من مظاهر انفتاحها الحضاري غير الفوضوي وأماكنها التي تحبين سوى تلك الصور المحلقة على أجنحة النوارس فوق تلك الضفاف الضاجة في أعماقك .. فأنت إن مررت بتلك الامكنة الآن لن تجدي حتى محال التسجيلات الصوتية ، فتتراءى لك أشرطة الكاسيت .. تلك الخزانات الشريطية المتخمة بأغاني الحنين التي كنت تستمعين اليها لفرقة eruption (one way ticket ) ، وفرقة (ottawan) كـ (You Are Ok ـ D.I.S.C.O ـ Hands Up ـ Crazy Music ) ـ وهذه كريزي ميوزك حورها الشارع الى اللهجة العامية العراقية على سبيل الظرافة الى (وين بيت جويسم )؟! ـ وفرقة ( Boney M ) كـ (Rivers of Babylon ـ Sunny ـ Daddy Cool ـ Ma Baker ـ Rasputin) ، وأما فرقة (Modern Talking) فهذه حكايتها حكاية فقد كبر المغني توماس اندرس والملحن ديتر بولن ومازالت أغانيهما ذات الطاقة الإيجابية مثل شابة سعيدة تشبهك أيتها المراهقة البعيدة القريبة ، تصدح على ضفاف قلبك ، كـ (You’re My Heart, You’re My Soul ـ Cheri, Cheri Lady ـ Atlantis Is Calling S.O.S. For Love ـ Brother Louie ) وهذه الأخيرة Brother Louie هي الأشهر عالميا بين أغنياتهم في حينه . يتميز أندرس بفرط إحساسه لذا تشعرين بأنه يغني بعينيه ، ويبدو بولن ، لشغفه بالموسيقا ، الأسعد في أثناء تسجيل الأغاني وهذا ليس غريبا فهو ملحنها وقيل كاتبها أيضا ، وكلاهما المغني والملحن كان إخلاصهما للعمل الغنائي واضحا ، إذ إنّ الموسيقا تجري في عروقهما.
العالم ألطف بالأغاني
كانت الأغاني الشرقية والغربية أجمل في ما مضى ، وهي جزء من يومياتنا في ذلك الوقت ، ويومياتنا محفورة على الجدران الأثيرية لتلك الأمكنة وخطواتنا فيها وأحاديثنا وعلاقاتنا الاجتماعية وأحلامنا الطفولية والشبابية وخيالاتنا التي لاحدود لها ، وإذا كان للمكان لغته الخاصة به وفقاً لجغرافيته فإنّ لغة الفنون كالموسيقا والأغاني إنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا واللغة ولهذا لاتحتاج الى فهم بالضرورة وإنما احساس ، أو ليست هي التي تجعل العالم ـ ومنها تلك الأمكنة ـ ألطف ؟!