18 ديسمبر، 2024 11:07 م

العوامل الحاملة للوجود السياسي – عن الدولة وشبة الدولة والكيان

العوامل الحاملة للوجود السياسي – عن الدولة وشبة الدولة والكيان

(فن إدارة الممكن في ظلّ المتغيرات ) ذلك هو التعريف المختصر لعلم السياسة أو فنّها كما تشير المقولة أعلاه، ذلك يعني في الواقع العملي، إلتقاط الزمن وغربلته بغربال المصلحة العليا للدولة بكلّ أركانها، لاتخاذ من ثم القرارات التي تتناسب والمعطيات المتوافرة أو التي يمكن توفيرها، كي يأتي المتغير وفقاً للرؤية السياسية أو متساوقاً معها، أو ان تكون السياسة قادرة على التعامل مع الانعكاسات المتوقعة للتغيير .
ذلك في القواعد العامّة للسياسة، لكن تلك القواعد غالباً ما ساهمت في إنشاء دول وكيانات لم تكن قائمة، بل وليس هناك من مرتكزات لقيامها، أو تسببت في انهيار إمبراطوريات قائمة وتمتلك كلّ الإمكانيات لاستمرارها، لكنها تجاهلت ماهو ممكن واستعانت بمنظار الآيديلوجيا فوقعت في الجمود أو طغيان العقائدي على حساب السياسي، ما حجب عنها سلامة الرؤية وحسن التقدير، لذا انهارت دولة عظمى كالاتحاد السوفييتي السابق بكلّ مافيه من مصادر القوة والجبروت، في وقت تعيش فيه كيانات هزيلة بل وتواصل الازدهار والتقدم نحو مواقع فاعلة .
في المنطقة الواقعة بين البحار الأربعة أو على شواطئها ( بحر العرب والخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ) هناك أمم وشعوب أقامت تكوينات سياسية يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع حسب مايلي :
1 :دول – وتشمل كلّ من: مصر، إيران، تركيا، العراق .
 2: شبه دول وهي: السعودية، سوريا، اليمن .
3: كيانات – وفيها: الكويت، البحرين، قطر، الإمارات، عُمان، الأردن، لبنان(1) .
المعايير التي تم الاستناد إليها في التصنيف أعلاه اعتمدت بصفة إجمالية على: الإمكانيات الذاتية للدولة من النواحي الاقتصادية والبشرية، موقعها الجغرافي والجيوبوليتكي، دورها التاريخي وقدرتها على التأثير الاستراتيجي، تنوع مصادر وجودها واستمرارها، امتلاكها لخصائص النواة الوطنية ومقدار القوّة في تلك النواة .
يلاحظ في دول الفئة الأولى، إنها جميعاً ذات تاريخ سياسي عريق وفاعل حيث نشأت فيها إمبراطوريات كبرى كان لها دور كبير في وضع أساسات المنطقة وقواعدها السياسية، فقد شهد العراق قيام أربع إمبراطوريات رسمت ملامح السياسة في البقعة الجغرافية الممتدة من شواطئ المتوسط شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً عبر قرون طويلة ممتدة في الزمن، فمن الإمبراطورية الأكدية / البابلية، إلى الإمبراطورية الآشورية وصولاً إلى دولة الخلافة العباسية التي دانت لها السيطرة على كامل المنطقة المذكورة بل وتجاوزتها الى مساحات أبعد من ذلك.
إن التشابه في بعض الظواهر التاريخية التي تحدث في مراحل زمنية مختلفة، أطلق عند بعض الباحثين مقولة من نوع ( التاريخ يحنّ إلى مناشئه الأولى) ذلك يعني إن المناطق التي شهدت نشوء حضارات مزدهرة تركت بصماتها على سيرورة البشرية، مازالت تمتلك من (الطاقة الكامنة) مايؤهلها لإعادة إنتاج منافذ للقوة قد تستعيد من خلالها بعض أدوار تراجعت أو اضمحلت بفعل تقلبات السياسة واختلاف الظروف، صحيح ان ذلك ليس شرطاً أو (حتمية) يمكن الركون إليها، فالطاقة الكامنة يمكن ان تموت وتتلاشى كما يموت الجسد العملاق، إن لم تجرِ معالجته وحقنه بمقومات الاستمرار، لكنها من العوامل التي يمكن حسابها في مقدار ما تمتلكه الدول من مقومات ذاتية للارتقاء والتطور، إلا أن التداخل في التصنيفات أعلاه يبقى قائماً كذلك، فشبه الدولة قد تكون في منطقة وسطى بين الدولة والكيان، لكنها قد تستثمر ما لديها من عوامل وتشحنها بفاعلية تتمكن من خلالها من الانتقال إلى مكانة الدولة، وفي المقابل، قد تبعثر مقوماتها لتهبط بالمحصّلة إلى مستوى الكيان، ذلك ينطبق على الدولة كذلك التي قد تهبط الى مستوى شبه الدولة، خاصة إذا لم ترتكز إلى نواة صلبة، لكنها في كلّ حال لن تتحول إلى مادون ذلك لتصبح كياناً، إذا كانت كلّ من مكوناتها تصنف ضمن شبه الدولة، لكنها قد تضمّ التصنيفات الثلاثة مجتمعة (دولة وشبه دولة وكيان ) كما سنرى لاحقاً .
وبالانتقال إلى الأمثلة الحسية بدءاً من مصر : تمتلك مصر مقومات الدولة، فهي ذات جذر تاريخي عميق يشكلّ مقوّماً وطنياً مهماً، وطاقة بشرية وعلمية كبيرة، وموقع جغرافي حيوي، لكنها في الوقت عينه تعاني من قلّة مواردها الاقتصادية والانقسامات الدينية التي قد تهدد وحدتها المجتمعية، وعلى الرغم من ذلك فإن مصر تبقى دولة بما تملكه أو تخزنه من مصادر قوتها وديمومتها، خاصة تلك المتمثلة في نواة وطنية تشكلها الأغلبية العربية، وبالتالي فهي ليست مرشحة للهبوط إلى (شبه دولة) حتى في ظروف بالغة الاستثنائية كأن تجزّء الى ثلاثة أقسام (شبه دولة قبطية مسيحية في الشمال، دولة عربية مسلمة في الوسط، وكيان نوبي في الجنوب) وهذا يقع في باب الاحتمال – البعيد أو المستبعد – خاصة مع عدم توفر عوامل دعم خارجية تدفع بهذا الاتجاه- أقلّه في المنظور- .
أما فيما خصّ تركيا، فإنها دولة مارست صنع التاريخ السياسي للمنطقة طوال أكثر من خمسة قرون في عهد الإمبراطورية العثمانية، وقد انحسر نفوذها بفعل عوامل داخلية وتدخل خارجي، لكنها بقيت في تركيا المعاصرة تحتفظ بالكثير من مقومات تسميتها بالدولة بل وبالكثير من مصادر الاستمرارية والثبات، وان حملت جينات الانقسام (شبه دولة كردية في الجنوب، ودولة طورانية في الوسط والشمال، وكيان علوي في الجنوب الغربي ) وهو احتمال قد يصبح ممكناً، خاصة إذا جرى العمل على تجسيده واقعاً من قبل القوى الكردية في تركيا كما بات معروفاً، انه سيف سيبقى مشهراً بوجه الاطمئنان التركي الى متانة وضعها كدولة موحدة، لكنها رغم ذلك ستبقى حاملة لمقومات الدولة بامتلاكها لنواة وطنية قوية (الطورانية) يحضر فيها تاريخ متباه ومكان متفاعل .
النواة الوطنية في إيران تتمحور حول الفارسية التي تتمسك بتاريخ إمبراطوري عريق باعتباره من أهم مقومات بنائها الوطني، وعلى الرغم ان القومية الفارسية لا تشكلّ الأكثرية السكّانية لتلك الدولة، إلا انها قوية بما يكفي لتضمن لإيران الاستمرار في موقع الدولة وان في أكثر الظروف إشكالية والتباساً، كأن ينشأ منها كيانان (عربي في الغرب، وكردي في الشمال الغربي) وهو احتمال قد يكون بعيداً، لكنه ليس مستبعداً نظراً لإمكانية توفر دعم خارجي (إقليمي / دولي) قد يحرّكه توتر العلاقات مع إيران الأخذ بالازدياد .
أما العراق، فمازال يملك نواة للدولة متمثلة بالأكثرية العربية، ولو جزئت إلى (شيعة وسنة) تتحول النواة إلى العربية الشيعية التي تحمل إمكانيات إبقاء العراق في مكانة الدولة، أما احتمالات انقسام العراق بشكل ثلاثي كما طرح في خطة (بايدن)، فسينشأ عن ذلك كيانان ودولة، كيان كردي في الشمال، وكيان عربي سني في الغرب والشمال الغربي، فيما تبقى الدولة قائمة في الوسط والجنوب، لكن الكيان السنّي سيكون في موقع الاستقطاب وبالتالي الذوبان في المحيط العربي وفقدان خصوصيته الوطنية، فيما تهتز الدولة العراقية (الشيعية) من قوة التدخلات الإيرانية التي قد تؤدي إلى فقدانها للخصوصية كذلك، خاصة مع حضور واقعة تاريخية بعينها، لتطغي على وقائع تاريخية رافدينية بكلّ مافيها من منجزات حضارية ممتدة عبر آلاف السنين كان يفترض ان تكون مرتكزاً للنواة الوطنية العراقية أسوة بالفارسية والطورانية .
أما الكيان الكردي، فسيكون أمام تحديات كبرى، فهو اما أن يتحول إلى شبه دولة بضمّ بقاع جغرافية ذات أكثرية كردية في تركيا وإيران وسوريا، وبالتالي يقف على تخوم امتلاك مقومات الدولة، بل قد يمتلكها فعلاً إن لم تقع انشقاقات بين مكوناته ذاتها لطبيعة الخصوصيات في كلّ منها، وأما أن يبقى في إطار كيان محاط بالمخاطر.
الحيثيات أعلاه، تدفع الى القول – وبالرغم مما يثار حول الانقسامات في العراق – إن الاحتمالات الأكثر معقولية وقابلية للحياة، هو بقاء العراق دولة موحدة بنواة عربية قوية دون انشطارات مذهبية قد تؤدي إلى انفصال، شرط الارتكاز إلى عقد سياسي اجتماعي جديد يأخذ بنظر الاعتبار مقدار التحولات الجارية، وبالتالي يتمكن من مواجهة التطورات حتى في حال تحوّل الكرد إلى كيان مستقل. 
السعودية بدورها تمتلك مساحات جغرافية واسعة وثروات طبيعية كبيرة وبالتالي ينبغي تصنيفها في موقع الدولة كما يفترض، لكنها في النظرة المدققة ليس أكثر من شبه دولة غير مرشحة لتجاوز ذلك التصنيف، انها حديثة العهد قامت بظروف استثنائية من دون عمق تاريخي، حيث استغلت عائلة آل السعود، التحولات التي سبقت أو رافقت أو تلت الحرب العالمية الأولى، ووثّقت من ثم علاقتها مع القادم الجديد (بريطانيا) لتقضي على كيانات كانت قائمة في منطقتي نجد والحجاز مع ضمّ مقاطعتي نجران وعسير لتنشأ على اثرها مملكة باسمها، كما ان نظام الحكم فيها – مع جموده وتشدده – غير قابل للتطور ولم يساهم في خلق نواة وطنية يمكنها من الثبات اذا تعرضت المملكة لاهتزازات اجتماعية سياسية، مثل أن تتحول مقاطعتا نجران وعسير في الجنوب – التي يعتنق سكانها المذهب الزيدي – إلى كيان مستقل، مع كيان شيعي في الشرق يشمل حائل والقطيف والإحساء، ذلك يعني ان الجزء الأهم من الثروات البترولية والطبيعية سيخرج عن سيطرة آل سعود، وبالتالي قد تتعرض بقية شبه الدولة إلى انقسامات تنشأ على إثرها كيانات متعددة، أما الحديث عن (الأرض المكرّمة) ولقب خادم الحرمين الشريفين، فهو مرتبط بشخص الملك كما ترتبط المملكة بالعائلة حصراً، وبالتالي لايلعب التاريخ الإسلامي هنا، دوراً فاعلاً في تكوين النواة الوطنية، حيث يبدو المكان وتاريخه، منفصلان بالجوهر عن المتملكين الذين يبدون في وضع المستولين عليهما لا المندمجين معهما أو الوراثين لهما .
أما سوريا، فهي شبه دولة نظراً لضعف إمكانياتها الاقتصادية وقلق وضعها السياسي، لكنها مرشحة لتكون دولة مع امتلاكها لنواة وطنية قوية وشعور بأهمية الدور والموقع والامتداد التاريخي الحاضر في التشكلّ الاجتماعي السوري، صحيح ان الجغرافيا السورية لم تكن في موقع الفعل سوى في مرحلة تاريخية لم تتجاوز بضع عقود أيام الدولة الأموية، لكنها كانت كافية للاستناد اليها في إمكانية انبعاث وطني إذا جرى شحنه بتواصل، خاصة مع ارتباط المكان السوري عضويا بمعظم الحضارات القديمة بل ومساهمتها فيها ضمن أطوار متعددة (مملكة تدمر – منجزات اوغاريت – الخ ) وبالتالي يبدو المكان منسجماً مع أهله .
اليمنيون بتاريخهم العريق، يعتبرون أنفسهم أجداد العرب ومصدر حضارتهم الأولى ودولتهم التي هاجروا منها نحو بلدان أخرى بنوا فيها دولاً ومدناً عامرة، لكن ضعف الإمكانيات الاقتصادية واضطراب الأوضاع السياسية منذ نشوء اليمن الحديث، ساهمت في تشتيت النواة الوطنية ما جعل اليمن يبقى في إطار شبه دولة كانت دائماً مهددة بنشوء كيانين على تخومها (كيان في جنوب اليمن – وكيان حوثي في الشمال) .
مايميز الكيانات عن غيرها، هي بداية التكوّن واستمرارية الوظيفة، فقد نشأت جميعها في ظروف استثنائية تبعاً لنتائج الحرب العالمية الأولى، فالأردن كان ضمن متطلبات السياج الأمني حول إسرائيل من جهة، وتعويضاً للأسرة الهاشمية عن خسارة الجزيرة من جهة أخرى، فيما أقيم لبنان كمنحة لمسيحيي لبنان بداية، ثم جزء من السياج الأمني لإسرائيل كذلك، أما إمارات الخليج، فظروف نشأتها باتت معروفة تاريخاً وحاضراً(2) .
الخلاصة :ان بقاء الكيانات مرتبط باستمرار أدائها للوظيفة، وبالتالي فهي قد لاتكون ثابتة في وجودها حينما تتضاءل أهمية وظيفتها أوتنتفي الحاجة إليها، أما الدول، فهي ذات دور قد يخضع للتبدل نسبياً، لكنه يبقى محتفظاً بالكثير من عوامل الثبات، مايؤمّن لها الاستمرارية والبقاء أيّاً كانت العوامل التي تعترضها في هذه المرحلة أو تلك، فيما تبقى شبه الدول ترواح بين أرجحية بقائها على حالها، وبين إمكانية ارتقائها الى دولة أو إحتمال انقسامها الى كيانات .
(1) استثنائية قيام إسرائيل وظروف استمرارها، ربما يجعلها خارج التصنيفات اعلاه، لكنها في التقييم العام، قد لاتخرج عن كونها (كيان).
(2) يلاحظ في الكيانات افتقادها إلى العمق التاريخي بمعنى الدولة، وان تباهى اللبنانيون بتاريخهم الفينيقي ومدنهم العريقة، لكنها في الواقع كانت كيانات تابعة وليست دولاً قائدة كما هو الحال في مصر والعراق وفارس وتركيا .