26 نوفمبر، 2024 4:29 م
Search
Close this search box.

بقعة حنا مينا المضيئة

بقعة حنا مينا المضيئة

لم اعرف بالضبط لماذا فعلوا ذلك اعني المسير بي في الممر البارد لوقت لم يكن قصيراً، ولكن يبدو انه كان جزءً من علاج طبيعي لإعادة الوعي او تحفيزا للجسد للعودة الى وضعه المألوف. ثم القوا بي الى جنب حائطٍ وانا مشلول اليدين تمام مع انهما كانتا طليقتان من القيود لأول مرة في تلك الليلة الدامية، معصوب العينين عار تماما من كل خرقة ملابس تغطيني ويحيط بي صمت بارد بعد أن تلاشت كل الأصوات التي كانت تتنافس على إصدار الصخب. ثم تناهى لسمعي بعد برهة وقع أقدام تتقدم بخفة وبسرعة تشبه الهمس وجلس صاحبها أمامي مباشرة وأغلق فمي برقة وطلب مني السكوت. ثم بدأ يحرك يداي المشلولتان بقوة اوجعتني. أردت الاحتجاج على الالم بتأوه ضعيف احتراما لطلبه الرقيق مني بالصمت لكنه أسكتني بحنان كنت اشعر بصدقه والمس الرحمة والشفقة تفيض عليه منه قائلا لي: إذا لم تتحمل ذلك الالم فسوف تفقد قابلية تحريك ذراعيك لكل ما بقي من عمرك، انا افعل ذلك لصالحك، اردف مضيفا.

استسلمت له فقد جاء متطوعا ليساعدني في تجاوز لحظة كانت ستغير وظيفة بعض أعضائي الى الابد. حينها لاح لي حنا مينا في احدى رواياته وهو يقص علينا كيف ان والده السكير الذي كان يظنه شر محض كيف تحول الى كتلة مشاعر انسانية صادقة تحمل حنا المريض وتركض به حافيا في البيداء وهو يبكي بحثا عن علاج يخلص ابنه من حمى شديدة اصابته. يقول حنا مينا معقبا على تلك الحادثة: في كل انسان بقعة مضيئة.

مثل وحي ظهر لي حنا مينا وقال لي هذه هي البقعة المضيئة التي حدثتك عنها تجلس رجلا قبالك. ومع اني لم أر وجه هذا الرجل ابدا، ولم اتعرف عليه بعدها رغم بعض الشكوك التي ساورتني في تشخيصه من صوته من بين اشخاص واجهتهم من رجال الامن الا اني لم استطيع ان احدده حتى الان. لكن هذا الجميل لم انسه يوما ولن انساه. حادثة اكدت لي ما اؤمن به دوما انه حتى عدوك يمكن ان يكون صديقك وفي كل انسان هناك منفذ للخير يمكن ان يضئ كل الظلام الذي زرعه الشر.

يوما ما سألقى هذا الرجل، اما على هذه الارض، ربما بعد ان يقرأ شهادتي هذه. او بعد أن نعبر حاجز الدنيا الى عالم الحقيقة والتجرد من الأشياء. وفي كلا الحالين سأشكره كثيرا واكثر بكثير من كل الكلمات التي اقولها الان. سوف أشهد له الان وبعدئذ انه علمني ان ما احفظه من قيم كنت اقرأها في الكتب لم تكن كذبة ابدا. علمني ان الانسان يمكن له ان يكون انسانا لو اراد. قد تكون هناك صعوبة في الامر ولكن لا استحالة فيها. علمني ان احب عدوي وتيقنت انها قيمة ليست مثالية ولا يتطلب ذلك ان تكون نبيا او قديسا لتفعل ذلك. ما عليك سوى ان تكون انسانا وحسب. أرجو واصلي له دوما أن تكون هذه البقعة المضيئة التي سطعت امامي يومئذ قد ملأت روحه الان وطردت كل الظلام، كما اتمناها لنفسي وأمل ان اطرد كل ظلام من كره وغل لأخي الانسان مهما كان موقفه مني.

بعد استراحة الحائط التي لا اذكر كم كان طولها فقد تشوش ذهني كثيرا ولم اعد بقادر ان اخمن الاوقات، أخذوني الى الضابط المحقق. كانت عيناي قد بدأت تتنفس بعض النور من خلال العصابة المتهدلة قليلا عنها ثم أزاحوا العصابة عن عيني بطلب منه، لأتلقى مفاجأة جديدة أخرى، النور الذي ينعكس من الأشياء كما يقول علماء الفيزياء لا يصل عيني. ما هذا هل مات الضوء وصار الكون ظلاما أم عيناي تحتضر؟

مشهد معتم لكن تدريجيا بدأ يستحيل الظلام قليلا الى أشباح هنا وهناك. وقفت هناك في وسط الغرفة لمدة ليست قصيرة ويقف الى جنبي رجل امن واحد على الاقل ولا اعرف كم كان عدد الموجودين بالغرفة كنت اسمع اصواتا لا ارى اصحابها الى ان قال الضابط موجها كلامه لي:

-اجلس

تلمست المكان ببصري المشوش ولمحت ما يشبه المقعد الدائري وتقدمت لأجلس عليه وما أن وطأته إليتي حتى صرخت اليتي من سخونة المقعد الذي لم يكن سوى مدفأة نفطية. وقمت فزعا متوجعا وسباب الضابط المحقق ينهمر علي:

– غبي، هل هناك احد يجلس على مدفأة!

امتلأ المكان برائحة ألم، غضب وسخرية وقليل من رائحة لحم لسعته نار. والاهم من ذلك كله ولدت قناعة راسخة عند المحقق باني اصبحت في وضع مثالي لعدم جدوى أي استجواب، وفعلا انتهى رسميا تلك اللحظة. وباشروا بإلقاء ما تبقى من ملابسي عليَّ، وقبل أن يدفعوني في غرفة المصعد في الطريق الى الزنزانة الانفرادية شعرت اكثر ببرودة الارض وتذكرت حذائي فطلبته، ثم طلبته ثانية بإلحاح استفز احدهم وقال لي بغضب:

-عجيب أنت تموت وتبحث عن حذائك!

في تلك اللحظة رجع التحدي الي بعد ان شعرت بنوع من الامان من انتهاء حفلة الليلة، حاولت السخرية منهم بسؤالي. كنت مصرا على ان لا اعيش شعور الهزيمة واظل متمسكا بيقيني بان الفجر سيطلع يوما ما وسوف ويطرد كل هذا الظلام المخيم عليَّ وعلى وطني ولا زلت افعل وسيطلع.

أحدث المقالات