تهدف مناهج الدراسات العليا في كل جامعات العالم الى خلق جيل من الباحثين المتميزين. وقد اوجدت لهذا الغرض مناهج دراسية على مستوى الماجستير واخرى على مستوى الدكتوراه يتخرج منها سنوياً العديد من يحمل احدى هاتين الشهادتين.
والسؤال الذي كثيراً ما يراودنا في هذا الامر يدور حول مدى نجاح جامعاتنا في تكوين وخلق تلك الفئة المتميزة والقادرة من الباحثين؟
ومع ان الاجابة على مثل هذا التساؤل قد تبدو صعبة للوهلة الاولى الا ان الجواب السريع قد ينم عن عجز جامعاتنا عن تحقيق هذا الهدف؟
صحيح، انه ليس كل من تدربه الدراسات العليا على اصول البحث العلمي سيصبح باحثاً علمياً متميزاً حتى في حالة ارقى الجامعات، ولكننا في الوقت ذاته نأمل من جامعاتنا العراقية ومن خلال النسب المتواضعة ممن تخرجهم… ان يقوموا بابحاث علمية رصينة وهادفة ومفيدة في مجال تخصصهم تخدم مجتمعنا وتعمل على تطويره وتساعد في حل مشكلاته. ولكن حتى هذه النسبة المتواضعة من الخريجين قد لا يكون لها وجود بيننا. فاين هي الاطروحات التي قام بها خريجوا الدراسات العليا في مجال الفكر والتربية والزراعة والطب والهندسة والاجتماع والصيدلة… وغيرها، مما كان له انعكاس مباشر على واقع مجتمعنا وعلى تطويره وحل مشكلاته، وهل يعود السبب في هذا العجز يا ترى الى نوعية الاعداد الذي تقوم به- دراساتنا العليا- ام الى نوعية الطلبة الذين تختارهم لهذا الغرض؟!
صحيح ان اهتمام مجتمعنا العراقي بامور البحث العلمي واعتماده عليها في حل مشكلاته ليس بالمستوى المطلوب، وصحيح ايضاً ان الاموال التي تخصصها الدولة للصرف على امور البحث العلمي محدودة- نوعاً ما- ولكن هذه العقبات تعطي الباحث العلمي الذي يؤمن برسالته ويثق بقدراته من القيام بابحاث متواضعة في البداية ليجذب من خلالها انظار الآخرين الى ما يقوم به ويجعلهم بالتالي يسارعون الى دعمه وتشجيعه؟
ان الامر لا يدفع مجتمعنا او من يعنيه الامر رسمياً ان يطمح الى ان يشارك باحثينا في ابحاث مكلفة او على درجة عالية من التطور، ولا في الوقت ذاته يطمح منهم ان يتصدوا لمشكلات المجتمع ويساعدوا في تطوير الحياة في هذا المجتمع والحد من المشكلات التي يعاني منها. فنحن في العراق- مثلاً- نعاني من ظاهرة اهمال تطوير قدرات الفهم والتفكير في مجال عمليات التدريس الصفي ومن ظاهرة عدم التخطيط في مجال توزيع القوى العاملة، ومن ظاهرة استخدام بعض المواصفات غير السليمة فيما يتصل بمواد البناء وشق الطرق وغيرها. أفليس من واجب الباحثين في هذه المجالات التصدي لتلك المشكلات وايجاد الحلول المناسبة لها؟
انني اعتقد ان احجام الباحثين الذين تعدهم الدراسات العليا عن القيام بالابحاث التي من شأنها ان تسهم في تطوير مجتمعنا والخروج بحلول ناجحة لمشكلات، قد تعود اما لنوعية مناهج الاعداد التي تستخدمها الدراسات العليا او الى نوعية الافراد الذين تختارهم.
فالباحث من المفروض ان يكون شخصاً يتصف بالمعرفة العلمية المتعمقة، اضافة الى تحليه بالصبر والعزيمة والمرونة الفكرية والمثابرة والقدرة على الاستبصار وما شابه… فهل تؤخذ هذه المواصفات بالاعتبار عند اختيار الدراسات العليا لطلبتها؟
لقد دأبت جامعاتنا على اعتبار المعدل العام في البكالوريوس، المعيار الوحيد للقبول في الدراسات العليا وتخلت عن كل المعايير الاخرى التي كان يؤخذ بها سابقاً والتي املتها الاعتبارات العلمية والمنطقية في اختيار طلبة الدراسات العليا. فهل مثل هذا الاجراء كان في صالح الدراسات العليا وطلبتها؟ وهل تم مثل ذلك الاجراء نتيجة دراسة علمية سليمة لواقع الحال ام انه كان قراراً فردياً؟
انني أؤمن ان المعدل في البكالوريوس شرط هام ولكنه وحده ليس كافياً لاغراض القبول في الدراسات العليا، فهل من رجعة شجاعة عن مثل هذا الاجراء غير السليم؟
اما بالنسبة لمناهج الدراسات العليا، فمع انني لا استطيع ان اعطي حكماً عاماً حول الطرق التي تستخدم في بنائها الا انني استطيع القول ببعض اليقين ان الهياكل العامة لعدد من هذه المناهج غير متكاملة وان طرق التوصيل الى مكوناتها قد لا تكون سليمة، فهل يتوفر في مواد هذه المناهج صفتا التكامل والتعمق؟ وبعبارة اخرى، هل باستطاعة المقدرات الخاصة بأي من هذه المناهج ان تكون متخصصاً متعمقاً، وهل فيها ما يكون من اللبنات الاولية في اعداد الباحث المتميز؟!
ان لدي انطباعاً عاماً متأتي من خلال تجربتي الدراسية ومن خلال استقصاء انطباعات زملاء لي في اقسام اخرى… بان المقررات التي تؤلف بعض مناهج الدراسات العليا في جامعاتنا لا تعدوا ان تكون مجموعات مفككة او غير مترابطة وبالتالي فهي لا تصلح لتكوين متخصص متعمق في ميادينها. فهل من الممكن اعادة النظر في مثل هذه البرامج بحيث تضمن لها التكامل من ناحية والتعمق من ناحية ثانية؟!
وثمة نقطة اخرى هامة تتصل بكيفية اختيار طلبة الدراسات العليا لموضوعات اطروحاتهم، فهل هذه الموضوعات يتم اختيارها وفق سياسة بحثية محددة يضعها اساتذة القسم المختص بحيث تغطي المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا في مجال الاختصاص ام انه الامر غير منظبط على هذه الصورة، وان الحرية متروكة للطالب لان يختار الموضوع الذي يراه مناسباً بغض النظر عن اهميته او صلته بمشكلات مجتمعنا العراقي؟
ان واقع الحال على ما يبدو ويشير الى ان الجزء الاخير هو المتبع وانه لا يوجد اي قسم اكاديمي في جامعاتنا قد كلف نفسه عناء حصر مشكلات المجتمع ومفاصل الدولة ووضع سياسة بحثية لطلبته واساتذته في ضوء ذلك ولا سيما الاختصاصات العلمية.
ومن هنا، فان البحوث التي يقوم بها اساتذتنا وطلبتهم تجيء على الاغلب متناثرة دون ان يكون بينها اي نوع من الترابط، وبذلك، فانها ليست اكثر من مجهودات علمية ضائعة او محدودة الفائدة.
وفي ضوء هذا الواقع، فهل ترى الاقسام الاكاديمية – العلمية بخاصة- في جامعاتنا، انه قد حان الاوان لمسح المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا وبالتالي وضع سياسات بحثية في حالة كل قسم منها ليسترشد بها الاستاذ وطالب الدراسات العليا، سواء بسواء وحتى تصبح تلك الابحاث هادفة ومفيدة.
اخيراً، لقد حاولت ان اشير الى بعض المشكلات التي تعيق جامعاتنا عن خلق الباحث العلمي المتميز، فانني اتوقع منها ان تقوم بتوجيه من ادارتها المختلفة بمحاولة البحث عن الاسباب التي تعيق ظهور باحثين متميزين من بين طلبتها وان تعمل على تذليل تلك الاسباب وازالتها، لاننا لا نستطيع في ابحاثنا ان نظل (نجتر) ما يقوم به غيرنا، كما اننا لا نستطيع ان نجاري حركات التطور في الحياة من حولنا اذا نحن ادرنا ظهرنا الى آليات البحث العلمي او اننا تعاملنا معها بصورة هامشية كما تفعل بعض اقسامنا العلمية في واقع الحال.
[email protected]