لابد من الاشارة الى ان الدراسات العليا في أقسام التاريخ في جامعات العراق شهدت في السنوات الأخيرة توجهاً لدراسة الشخصيات السياسية والفكرية . ولعل ذلك يرجع الى الرغبة في إيضاح دور الشخصية المدروسة في صنع الاحداث . والحق ان هذه الدراسات قدمت الشيء الكثير لتاريخ العراق الحديث والمعاصر ، لأنها ازاحت الستار عن بعض الجوانب الخفية في حياة هذه الشخصيات وربطت بين الاحداث السياسية وبين الخلفيات الفكرية والاجتماعية لها بحيث أصبحت صورة الاحداث قريبة من الوضوح .
لذلك تعد دراسة هذه الشخصيات من الدراسات التاريخية المهمة ، لما لها من دور فاعل وأثر كبير في كشف العديد من الخفايا والحقائق التاريخية ووضع الشخصية ومسارها في الإطار العلمي الصحيح .
وعليه فأنه ليس من قبيل المبالغة القول ان الكتابة عن الشخصيات أمر من الصعوبة بمكان وأن بدت عكس ذلك خاصة اذا تدخلت فيها الامزجة والاحكام المسبقة . وقد يصبح الامر أكثر صعوبة وربما حساساً اذا درسنا شخصية عراقية نافذة لعبت دوراً فاعلاً ومؤثراً في تاريخ العراق الحديث والمعاصر الذي شهد عدداً كبيراً من هذه الشخصيات البارزة التي كان لها دورها في صناعة أحداثه … وتأتي شخصية عبد الرحمن البزاز المفكر والسياسي المعروف ضمن الشخصيات العراقية النافذة موضوع الكتاب الذي نحن بصدد عرضه احدى هذه الدراسات ، لما له من دور فكري مميز بحكم كونه مفكراً عربياً قومياً مسلماً سخّر عصارة فكره لبناء جيل عربي قومي مؤمن بقدر امته ومصيرها ومدافعاً عن كيانها ومصالحها القومية . فان أول ما يلفت النظر في شخصية البزاز هو منهجه الفكري الواضح والذي لم يحد عنه طوال حياته ، ويرتكز على الدعوة الى عزة الامة ووحدتها والايمان المطلق بقدرتها على تجاوز حاضرها وبناء مستقبلها . واستند هذا المنهج على مستلزمات اساسية يأتي في مقدمتها الارتباط المصيري بين القومية العربية والاسلام ولعل البزاز من أوائل المفكرين العرب الذين أكدوا على هذا الجانب لأن الاسلام يشكل أحد أبرز عناصر القومية العربية وهو بهذا الطرح قد تجاوز ما كان سائداً من انقسام بين المفكرين ، حيث كان هناك راي غلبت عليه الروح الدينية فتنكر للقومية كل التنكر ، والآخر تغلبت عليه القومية فابتعد عن الدين .
وكان الموقف الفكري للبزاز هو ايمانه بحتمية وحدة الامة العربية واقامة دولتها الموحدة. وقد وضع تصور لبناء هذه الدولة في كتابه ((الدولة الموحدة والدولة الاتحادية)) الذي أشار فيه الى ان الامة العربية أمة واحدة وان انقسامها كان بفعل قوى اجنبية وبتأثير عوامل طارئة ولا يحمل اي معنى للانقسام الحقيقي والتباين الاساسي الذي نجده بين شعوب العالم لأن هذه الشعوب اجزاء من كل ولها كيانها الاجتماعي والحضاري الواحد ولابد من صيرورتها شعباً عربياً واحداً .
وفي محاولة من البزاز لنشر آراءه سعى مع البعض من زملائه من ذوي الاتجاه القومي لتنظيم النشاط القومي لتأسيس ناد ثقافي هو نادي البعث العربي في عام 1950 ، الذي تضمن منهاجه السعي لرفع مستوى الفرد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ، ومكافحة الاستعمار والاستغلال ، والقضاء على عوامل الفوضى والانحلال في صفوف الامة للسير بها الى طريق العزة والكرامة ، واستثمر مجلة النادي لنشر أفكاره ، ووقف النادي مواقف ايجابية من كل قضايا النضال القومي وبخاصة عند تأميم مصر لقناة السويس . ولإيمان البزاز بفكره القومي التحرري تعرض الى الاضطهاد والابعاد والتوقف والمطاردة في العهدين الملكي والقاسمي . فموقفه من حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 ، كلفته المطاردة والاعتقال طوال سنوات الحرب العالمية الثانية ، ومساندته لمصر وجهادها ضد العدوان الاستعماري والاسرائيلي أدى الى اعتقاله وفصله من الوظيفة وإحالته الى المجلس العرفي الأول ووضعه تحت الإقامة الجبرية .
وفي العهد القاسمي رغم تأييده لثورة 14/تموز/1958 ، الا انه وقف موقفاً حاسماً ضد سيطرة الشيوعيين على امور الدولة وبخاصة السيطرة على سياسة التربية والتعليم ، وقد استغلت الحكومة القاسمية احداث حركة الشواف لإعتقاله ومن ثم لجوئه الى القاهرة .
كان البزاز مؤمناً بالعراق الواحد فسعى لتحقيق الوحدة الوطنية عن طريق سعيه لحل المشكلة الكردية واصدار بيان 29/ حزيران /1966 . وكان مؤمناً أيضاً بالحياة الدستورية والبرلمانية ، وكلفه ايمانه هذا فقدان منصبه كرئيس للوزراء .
وقد حاولت وزارتا البزاز الاولى والثانية اتخاذ بعض الاجراءات على الصعيدين الداخلي والخارجي تهدف لإيقاف التدهور الذي شهده العراق آنذاك فسعى الى تنشيط الاوضاع الاقتصادية والمالية وتنشيط علاقات العراق مع الاقطار العربية وبخاصة مع مصر عبد الناصر وبناء علاقات متينة مع دول العالم وبخاصة مع دول الجوار تركيا وايران .
كان ترشيح البزاز لرئاسة الجمهورية بعد وفاة عبد السلام عارف قد أجج الصراع بينه وبين العسكريين لأنه كان يؤمن بأن واجب الجيش الاساس هو الدفاع عن الوطن ، ولهذا سار على سياسة تضعف من تدخل العسكريين في الشؤون السياسية الأمر الذي دفع العسكريين الى مناهضته والتحريض على وزارته والعمل على اسقاطها فاستغل هؤلاء محاولة البزاز وضع قانون للانتخابات وتعيين موعدها فمارسوا الضغط على عبد الرحمن عارف رئيس الجمهورية آنذاك لاقالته فاستجاب عارف لهذا الضغط واجرى مشاورات مع العميد الركن ناجي طالب لتشكيل الوزارة الجديدة ، وعندما أشعر البزاز بذلك سارع الى تقديم استقالة حكومته .
استمر البزاز في ممارسة نشاطه السياسي حتى 17/تموز/1968 ، وقد شهدت تلك الفترة نكسة العرب في حزيران عام 1967 ، حيث قدم مذكرته الشهيرة الى رئيس الجمهورية في 20/كانون الأول/1967 ، وفيها نقد وتحليل للوضع السياسي وما اسماه السياسة الشاذة التي قضت على كل ما تبقى من الحكم الدستوري في البلاد وانصراف الجيش من مهامه الاساسية التي أدى الى نكسة العرب .
لقد كان البزاز نمطاً جديداً من رجال الحكم لم تشهده الحياة السياسية في العراق ، فهو لم يكن سياسياً بمعنى ان تكون السياسة مجرد لعبة حكم ، كما اعتاد ان ينظر اليها أكثر رجال السلطة في العهد الملكي وهو لم يكن عسكرياً محترفاً يصل الى السلطة بحكم طبيعة النفوذ الذي تملكه المؤسسة العسكرية عادة وبخاصة في اثناء الظروف الاستثنائية كما جرت الاحوال برجال السلطة في العهد الجمهوري الاول ، ومع انه كان استاذاً متخصصاً بالقانون الدستوري فانه لم ينظر الى السلطة بوصفها مجرد مجال لتطبيق قواعد أكاديمية من قواعد القانون ومبادئ الدستور ، وهو أيضاً لم يكن زعيماً جماهيرياً توصل الى السلطة نتيجة تزعمه حزباً أو حركة لها نفوذ لدى جماهيرها ، ومع أنه كان مفكراً له مؤلفات عدة في مجال الفكر القومي والاجتماعي الا انه لم يكن مثالياً كما هو أغلب المفكرين الذين قضوا جل اوقاتهم في التأمل والبحث . وبالتأكيد فان أفكاره وحدها لم تكن المسوغ لتوصله الى السلطة في وسط تيارات سياسية واجتماعية متنازعة كالتي كان عليها العراق في ستينيات القرن العشرين .
فمن هو البزاز اذن ؟
أما انه لم يكن سياسياً ، نعم . ولكن بمعنى السياسي التقليدي الذي أشرنا اليه ، وفي الواقع فانه كان يفهم السياسة بمعنى آخر مختلف ، مضمونه القدرة على التجاوز والاقناع والمفاوضة لتحقيق الارادة الوطنية بالوسائل السلمية ، وصحيح انه كان بعيداً عن الحياة العسكرية لكنه كان يدرك أهمية الجيوش الوطنية في احداث التغييرات الاجتماعية بل وقيادتها ، ومن ثم كان يحسب حساباً للمعادلة الصعبة يومذاك بين أن يكون الجيش قوياً ومحتلاً مكانته التي يكفلها له دوره التاريخي المذكور ، وبين أن لا يؤثر ذلك على طبيعة الممارسة الديموقراطية وهي الممارسة التي تصون البلاد من أن تكون مسرحاً لانقلابات عسكرية مفاجئة قد تؤثر على التطور السياسي والاجتماعي للمجتمع ، ومع انه كان استاذاً حاذقاً في القانون الدستوري كان يعي حقيقة أن أي تطبيق لقواعد هذا القانون في أرض لم تكن مستعدة له تماماً ووسط قوى لم تكن لتؤمن به ، وبعد غيبة طويلة للحياة الدستورية الحقه من شأنه أن يؤدي الى مخاطر وخيمة قد تعصف بالتجربة الدستورية الوليدة نفسها ومن ثم ينبغي أولاً فهم التحولات الاجتماعية العميقة التي كان يمر بها الشعب العراقي وأثرها على مجمل الحياة السياسية قبل أن توضع القواعد النظرية موضع التطبيق وهو لم يكن زعيماً شعبياً يعتمد في سلطته على التفاف الجماهير ولكنه كان يفهم ان من حق الجماهير ان تطلع على حقيقة ما يجري من قرارات تخصها هي قبل غيرها .
وعلى الرغم من انه كان مفكراً فعلاً تشهد له بذلك مؤلفاته العديدة الا انه لم يكن من اولئك المفكرين المثاليين الذين يقفزون من فوق المراحل علهم يجدوا لأفكارهم مجالاً من تحقيق . وبهذا فانه دعا الى الوحدة العربية على أساس تفهم ظروف كل قطر من أقطارها ونادى بالاشتراكية ولكن على أسس رشيدة تنأى بها عن التطرف ، وطالب بحياة ديموقراطية لا تتخذ وسيلة لفئة لغرض هيمنتها على فئات اخرى كما يحدث في العديد من البلدان .
من الواضح ان الكتابة في شخصية رجل كالبزاز لا تعد أمراً يسيراً بكل حال فانك هنا امام شخصية لها فهمها الخاص لكل جانب من جوانب الحياة وفلسفتها التي لم تولد من فراغ وتقديرها المستقل لمواقف بالغة التعقيد بل لها تصوراتها الخاصة للمستقبل الوطني والقومي أيضاً .
ان التحليلات والاستنتاجات التي توصل اليها المؤلف ربما تعجب بعض الناس أو يكون لبعض الآخرين ممن عاصروا البزاز أو الذين لم يعاصروه راي آخر هنا أو وجهة نظر هناك ، فهذا كله من حقهم تماماً لأن شخصية البزاز نفسه تحتمل الكثير من الرأي والمزيد من البحث . الا ان شفيع هذا الكتاب في القبول لدى قرائه انه محاولة جادة للفهم ، ومن هذه الجدية تكتسب المحاولة أهميتها . وفي تقديري فان هذا الكتاب لا يمكن أن يكون مجرد دفاع عن الرجل ، فالرجال من هذا النوع لا يحتاجون الى مرافعات أو شهود دفاع ولكنه عرض لسيرة رجل عراقي نابه نشأ في بيئة عادية وعاش ظروفاً عاشها كثيرون غيره لكنه تمكن بمواهبه الذاتية وصبره على العمل وقدرته على التحدي أن يكون استاذاً ناضجاً وسياسياً ماهراً ومفكراً قومياً ورئيساً للوزراء في ظل ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد .
الكتاب :
عبد الرحمن البزاز ودوره الفكري والسياسي في العراق حتى 17 تموز 1968 ، ط1، مكتبة اليقظة العربية ، بغداد ،2002
[email protected]