بينما أسير فى طريقي عائدا من عملي بعد يوم طويل شاق، ركبت السيارة، وأنا أقلب فى هاتفي، ظهر أمامي خبر عن فتوي منسوبة لمفتي العراق سماحة الشيخ مهدى الصميدعي يحرم فيها تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد، معتبرا أنه لا يجوز الإحتفال برأس السنة ولا التهنئة بها ولا المشاركة فيها !!
أغلقت الهاتف مستغربا من فتوي ربما تكون صحيحة فى زمن ما غير هذا الزمن، فضلا أنها ربما لو كانت تصلح لبلد فى هذا العصر، فلا يمكن أن يكون هذا البلد هو العراق أرض الرافدين التي تتمتع بتنوع ديني ومذهبي كبير.
دارت بعقلي أسئلة كثيرة، إذا كان هذا الموقف من المسيحيين وهم ليسوا باقلية بالعراق ، فما الموقف من الأيزيديين والصابئة وبقية الديانات التي تنتشر بأرض الرافدين، وكيف يمكن أن تؤثر فتوي مثل هذه على استقرار دولة عانت من حروب وفتن مذهبية وعرقية لسنوات، ولا تتحمل فتن جديدة.
أغلقت الموبايل، وأدرت مفتاح الإذاعة، بحثا عن سماع شىء قد يخرجنى من حالة الكأبة التي تسببت بها فتوي الصميدعي، كانت المصادفة شيخ من علماء الأزهر على إذاعة القرأن الكريم يتحدث ببرنامج يسمي ” دقيقة فقهية” كان الشيخ يرد على سؤال لأحد المستمعين حول حكم تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد ؟
أنصت، وأصغيت مسامعي بشدة، وكلى شغف فى معرفة رأي الأزهر فى هذه القضية الشائكة التي تتكرر أسئلتها كل عام، وكأن أزمات مصر والعرب، قد انتهت، وانحصرت فى تهنئة المسيحيين بأعيادهم .
كان رد الشيخ قاطعا وحاسما، لا مانع من مشاركة المسيحيين بأعياد الميلاد، ولا حرج فى تهنئتهم بميلاد المسيح، بل أن الشيخ زاد فى فتاواه، معتبرا أنه لا حرج من تهنئة المسلم للمسلم بعيد ميلاد المسيح مستشهدا بقول الله تعالى على لسان عيسي بن مريم ” والسلام علي يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا” .
حقيقة شعرت براحة نفسية، لتلك الفتوي الأزهرية التي تحمل قدر كبير من الفهم والوعي بمتغيرات العصر، بصورة تعبرعن روح الإسلام الحقيقية وسماحته التي شوهتها جماعات العنف والتطرف التي سعت لاختطاف الإسلام وتحريف معانيه، وتشويه مفاهيمه .
زاد من راحتى، ذلك البيان المنسوب لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في إقليم كوردستان ينتقد فتوي مهدي الصميدعي، مطالبا باتخاذ الإجراءات القانونية بحقه”معتبرا أن هذه التوجهات الخاطئة تشابه تماماً معتقدات تنظيم داعش الوحشي”.
سررت جدا بذلك الوعي والفهم العميق للإسلام الذى عبرت عنه وزارة الأوقاف الكردستانية فى بيانها بقولها “أن الهجوم على مناسبات المواطنين المسيحيين بالعديد من المصطلحات والكلمات الجارحة تتعارض قبل كل شيء مع روح ومضمون الدين الإسلامي الحنيف”.
هذه الحالة من التعايش ربما ما كانت لتأت لولا تلك القيادة الحكيمة للسيد نيجرفان رئيس الوزراء الذي يتمتع بقدرة كبيرة على لم شمل الجميع، فنراه يهني الأيزيديين بأعياد صيامهم، والشيعة بعاشوراء ، والمسيحيين بالكريسماس، والمسلمين بمولد الرسول الكريم.
نجح نيجرفان أن يخرج من عباءه المذهبية والطائفية والحزبية، ليكون رئيسا لكل الكردستانيين، لا فرق لديه بين مسلم أو أيزيدي أومسيحي، ديمقراطي أو يكيتي أو كوران.
تتشابه الحالة الكردستانية بشكل كبير مع الحالة المصرية التي تذوب فيها المذهبيات والعرقيات، بصورة تجعل المسلم يصلي بالكنيسة، والمسئول المسيحي يشارك فى خطبة الجمعة مع المسلمين !
ما أحوج المنطقة لذلك الفقه المصري، وتلك الحالة من النضج والفهم الكردي التي تعبر عن حقيقة الإسلام ومنهجه الصحيح فى زمن انتشر فيه الكذب على الله والإنتساب زورا لدينه.