الحلقة الخامسة
حفلات وأمنيات
توالت الليالي متواصلة لأربعة أسابيع تقطعها بعض الاستراحات الاضطرارية لمنح جسدي فرصة للتهيؤ لتلقي مزيدا من التعذيب. تكررت الحكاية في كل مرة يسقوني غضب غرائزهم من جوارح هائجة واسقيهم بالمقابل من خمرة الصمت. ارجع متوجعا وهم سكارى، اودعهم هادئا وهم في انكسار يعربدون. صخب الصمت الذي كنت اذيقه لهم كان يقتلع أصابعهم التي دسوها في سمعهم ليصموه عن سماع رعد الحقيقة يمزق ثياب خرقاء دفن بها البلهاء رؤوسهم. طرق شتى حاولوها لإرغامي على البوح بأشياء لن يعرفوها ابدا وحتى يومنا هذا، رغم كثير مما حصل فلم يعرفوها لأني لازلت احتفظ بها للساعة سرا في صدري. صدري قبر الأسرار لان حتى كل من شاركني السجن واقرب الناس الي من قبل او اليوم لا يزال يجهل ما كنت أقوم به فعلا. قليل جدا جدا جدا وربما شخص واحد فقط كان يعرف مهمتي ودوري الحقيقي ومع انها اصبحت بلا أهمية إلا أني لا أجد مسوغا للبوح بها إنها خصوصية اعتز بها لأن كل مهارتي وبراعتي كانت فيها ولا تزال، وليس من السهل أن تكشف سر التفوق بالمهنة.
هددوني بأن يجلبوا عائلتي للمعتقل لم ابدِ أي اكتراث حتى أن (م.ع.) عندما لاحظ رد فعلي قال لي:
– يا قواد، يبدو انك لا تصدق أننا سنفعل ذلك.
فعلا لم يكن ذلك مزاحا منهم ولا تهديدا فارغا، بل كانوا قولا وفعلا في هذه الأمور وبلا أدنى تردد يخامر نواياهم. في احد الايام جلبوا والد أحد المعتقلين وهو صديق وطالب جامعي ايضا. والده كان رجلا ثمانينيا في أواخر العمر فلاحا بسيطا وأذاقوه من الإهانة والأذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دليلا مزيفا لكنه كان مع ذلك سببا كافيا لان يقوده الى حبل المشنقة ليفتدي والده المنهك من عذابات جديدة تضاف الى الآم السنين وعناء فلاحة الأرض.
أصبحت مواجهة قسوتهم عملا شبه يومي فيه الكثير من الملل والرتابة، وأصعب ما فيه كان الانتظار الذي طالما كرهته في كل الأحوال، لذا كنت أحدثهم بل ربما استفزهم أحيانا على بدء ممارسة القسوة التي لابد منها.
سألني (ع.ع.) يوما: هل صفيت عقلك؟
دفعت الجواب إليه تحديا ممزوجا بالسخرية منه
– ذهني صافي أساسا.
رد هو لم يكن ينتظره انما كنت أنا الذي انتظر رده، غضبا بهيميا فجروه سباحة في الفضاء كالعادة وبالاتكاء على الحديد المعقوف المعلق في السقف، أشياء كثيرة كانت تزور جسدي بعضها يحفر ثقوبا فيه لتعدم كثيرا من خلايا شاء حظها النحس أن تكون في جسدي وعلى خط المواجهة الأولى خط التماس.
طالما سمعت جدلا في ايام الدراسة الثانوية بين متنورين وتقليدين يسألون سؤالا هل يعقل ان توماس اديسون يذهب الى الجحيم وهو الذي خدم البشرية ونفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت الى جانب الفريق المدافع عن اديسون في كل مرة جرى هذا النقاش فيها، إلا في تلك الليالي كنت أرى إديسون قد ارتكب خطيئة لا تغتفر بفعلته هذه، أي إثم قد اجترح بفعلته الشنعاء هذه؟ هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب، ألا يرى كيف ارتجف مصعوقا؟ هل علمهم ان الكهرباء يزداد شرها عندما تعلق أسلاكها في أطراف الأصابع وعند الحلمتين وأماكن حساسة أخرى لا اخدش حياءكم بها كما فعل أديسون بها باكتشافه المقرف. ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا أديسون وماذا كان سيحصل لو أن لي جلد سلحفاة فلا أبه لغلاظة العصي، ولو كنت طويلا مثل عوج بن عنق، أو أن لي عنق زرافة كيف كان سيجدون سقفا يعلقوني منه؟ أمنيات كثيرة أخرى، لم تكن هراءً كما تضحكون منها الان وانتم تقرؤون الآن. فقد كانت جدية للغاية آنذاك والأمر لم يكن ضحكا ولا عبثا بل بحثا عن مخرج من الأزمة. انها احلام ولا عيب في الاحلام ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق شيء منها فلماذا لا تضحكون من هذه كما تضحكون من احلامي. بكل صدق يمكن أن يحتويه قلب قديس لا أتمنى لكم أن تجلسوا في محلي ذاك حتى لا تصدر منكم امثال تلك الأمنيات التي تقولون عنها الان سخيفة.