وصلت مجموعة كبيرة من الطلبة العراقيين الى موسكو العام 1959 , وكنت أنا من ضمنهم , وكنّا جميعا في مقتبل العمر طبعا , وعندما سمعنا من الروس كلمة ( ستكان ) ومعناها – القدح , قلنا رأسا , انهم أخذوا من لهجتنا العراقية هذه المفردة , وكذلك كان الحال مع كلمة ( سمافر) , اي سماور , بل قلنا نفس الشئ حتى مع كلمة ( جاي – الجيم بثلاث نقاط) كما يلفظ الروس كلمة شاي , وكل ذلك حدث طبعا لأننا كنّا ( في مقتبل العمر! ) , كما أشرت أعلاه . الان وأنا (في خريف العمر) احاول ان أكتب بضع كلمات عن هذا الموضوع الأثير , والذي رافقني سنوات طوال من عمري , والذي يرتبط مع عدة أسماء عراقية محددة في مسيرة حياتي .
اول اسم عراقي يرتبط بهذا الموضوع في مسيرتي هو المرحوم فائق ابو الحب ( انظر مقالتنا بعنوان – قبور عراقية في موسكو ) . وصل ابو الحب الى موسكو في اوائل الستينات , والتحق بقسم الدراسات العليا في كلية الفيلولوجيا بجامعة موسكو, بعد أن أنهى الكلية التحضيرية لدراسة اللغة الروسية . كان ابو الحب يحمل شهادة البكالوريوس من جامعة بغداد , وهو خريج قسم اللغة العربية فيها , وكان يعرف العربية و جمالياتها واسرارها بشكل عميق ورائع , وقرر ان يكتب اطروحته للدكتوراه حول الكلمات العربية في اللغة الروسية , وكان مؤهّلا لذلك علميا وثقافيا وبكل معنى الكلمة فعلا , وهكذا بدأ ابو الحب بدراسته , وأخذ يتعمق بالغور في اسرار اللغة الروسية , اذ ان الشخص الذي يعرف لغته القومية بعمق يتوجه بدراسة اللغة الاجنبية بعمق ايضا , وانسجم ابو الحب – نتيجة لذلك الغور العميق في اللغة – مع المجتمع الروسي , وانفتحت امامه سبل العمل في مجال الترجمة من الروسية الى العربية , خصوصا في ستينات القرن العشرين بموسكو , حيث بدأت الدولة السوفيتية بالتوجه الى العالم العربي اعلاميا , وهكذا انغمر ابو الحب بالعمل في موسكو وترك الدراسة , ولم ينجز – مع الاسف الشديد – اطروحته تلك عن الكلمات العربية في اللغة الروسية , والتي توقع الكثيرون انها ( لو تم انجازها طبعا) ستكون واحدة من البحوث العلمية البارزة والمهمة في هذا المجال شبه المجهول تقريبا في عالمنا العربي الواسع.
الاسم العراقي الثاني , الذي أودّ ان اتوقف عنده هنا هو الدكتور حسين عباس , الموظف حاليا في وزارة الخارجية العراقية وبدرجة وزير مفوض . كان د. حسين أحد طلبتنا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد , وكان الخريج الاول بدورته آنذاك , وتم تعينه في القسم , ثم أصبح أول طالب يحصل على شهادة الماجستير في قسمنا , وكتب اطروحته باشراف المرحوم أ.د. محمد يونس , وتم ترشيحه من قبلنا الى معهد بوشكين للغة الروسية للحصول على شهادة الدكتوراه , وفي هذا المعهد العالمي المرموق أنجز اطروحته عن الكلمات العربية في اللغة الروسية , وهكذا أضاف د. حسين الى سيرته الذاتية , انه أول عراقي ينجز هذا العمل العلمي المتميز في مجال الدراسات اللغوية العربية – الروسية في روسيا. لقد التقيته قبل أشهر في موسكو , وتحدثت معه طويلا حول ضرورة نشر اطروحته او – في الاقل – خلاصة وافية لها باللغة العربية , وقلت له , ان دار نوّار للنشر مستعدة لنشرها , اذ ان هذه الاطروحة يمكن ان تضيف صفحة جديدة في عالمنا العربي , خصوصا وانها تمّت باشراف عالم روسي كبير في اللسانيات واسم بارز في مجال نشر القواميس الروسية وهو البروفيسور ماركوفكين , وقد وعد د. حسين بتنفيذ هذه الافكار , رغم المشاغل والالتزامات المتشابكة في عمله وحياته . وعندما كنّا نتحدّث عن هذا الموضوع , كان د. حسين يؤكد دائما , ان المصطلح العلمي لهذا الموضوع يجب ان يكون – ( الكلمات الروسية ذات الجذور العربية) وليس (الكلمات العربية في اللغة الروسية ) , اذ ان هذه المفردات الان اصبحت جزءا لا يتجزأ من اللغة الروسية المعاصرة , وقلت له ضاحكا – رحم الله استاذ جيلنا مصطفى جواد , صاحب (نظرية!) قل ولا تقل العتيدة.
الاسم العراقي الثالث في هذا المجال هو د. محمود غازي , الاستاذ المساعد حاليا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد , والذي كان ايضا أحد طلبتنا في القسم المذكور. لقد أنجز د. محمود اطروحته حول نفس الموضوع في جامعة فارونيش الروسية , وكنت أنا آنذاك مديرا لمركز الدراسات العراقية – الروسية في تلك الجامعة , وكتبت تقريرا علميا بشأنها – بناء على طلب محمود نفسه – وقد اطلع على هذا التقرير اعضاء اللجنة العلمية اثناء مناقشة الاطروحة في الجامعة المذكورة , وأخذوه بنظر الاعتبار . لقد كانت هذه الاطروحة ممتازة , وتناولت الموضوع بشكل علمي شامل , وجاء في نهايتها قاموس للكلمات الروسية وامامها الكلمة العربية التي جاءت منها , وقد أهداني محمود نسخة من اطروحته تلك , وكم أتمنى ان يشذبها ويعدّها للنشر باللغة العربية , اذ انها ستكون عندها مصدرا مهما في هذا المجال العلمي الجديد علينا نحن العرب , علما ان اطروحة محمود تختلف عن اطروحة حسين , اذ انهما تناولا الموضوع بشكل متباين .
الاسم الأخير , الذي أود أن اتوقف عنده هنا هو هيلان الراشدي, والذي يقوم في الوقت الحاضر بكتابة اطروحة حول نفس الموضوع في جامعة فارونيش . وهيلان كان ايضا طالبا عندنا , عندما كنّا فرعا في قسم اللغات الاوربية بكلية الاداب في جامعة بغداد في سبعينيات القرن الماضي , و قبل انتقالنا الى كلية اللغات الحالية , اي ان هيلان ( أكبر الاعضاء سنّا !) مقارنة بحسين عباس ومحمود غازي , وقال هيلان لي عندما أخبرته باطروحتي حسين ومحمود حول هذا الموضوع , انه اطلع عليهما , وان عمله يأخذ منحى آخر . دعونا نتمنى له النجاح في مسعاه هذا , وننتظر اخباره , ونتائج أبحاثه …