16 نوفمبر، 2024 5:55 م
Search
Close this search box.

بمناسبة رحيله الفاجع اليوم: كتاب الدكتور محمّد العبودي “وجهة نظر نفسيّة”:

بمناسبة رحيله الفاجع اليوم: كتاب الدكتور محمّد العبودي “وجهة نظر نفسيّة”:

عرض ونقد / حسين سرمك حسن
ملاحظة: رحل اليوم عَلَمٌ من أعلام الطب النفسي في العراق ، أخي وصديقي ورفيق دربي ؛ الدكتور محمد رشيد العبودي ، أقدّم هنا مقالتي التي كتبتها قبل سنوات عن كتابه المهم “وجهة نظر نفسية”

(الراحل الدكتور محمّد العبودي – اختصاصي الطب النفسي)
أعتقد أن علينا أن نحتفي بأي كتاب يصدر عن الجوانب النفسية للحياة العراقية مادام علم النفس يواجه بهذا الإهمال على المستويات الرسمية والشعبية. ونحن نفهم حساسية الناس عندنا ، ومقاوماتهم – resistance النفسية، قادة ومقودين، تجاه علم يعتقدون أن همّه الأكبر هو كشف المستور في شخصياتهم وفضح العوامل المستترة التي تحكم سلوكهم. ينطبق هذا الإهمال على الموقف العربي من علم النفس تصوّر مشروعا مهما مثل المشروع القومي للترجمة يترجم ثلاثة كتب عن علم النفس من بين 169 كتابا في الجوانب الأدبية. إصرار على إبقاء ثقافتنا “شعرية” عرجاء كما كان يقول الوردي قبل خمسين عاماً .
وكتاب الدكتور “محمّد رشيد العبودي” “وجهة نظر نفسية” (99 صفحة) يكتسب أهمية مضافة من خلال أنه يتناول الوضع العراقي الملتهب والمتفجر في عامي 2008 و2009 وما رافقها من أحداث جسيمة هزّت أركان المجتمع العراقي ومزّقت مقوّمات شخصية المواطن العراقي الممزّقة أصلا. وقد اعتمد الكاتب أسلوب المقالة، هذا الجنس الأدبي المُهمل نسبيا في الثقافة العراقية خصوصا في عهود غلبت عليها الديكتاتوريات وسطوة الرقيب التي يستطيع الشعر الإفلات منها بفعل رمزيته وتسقط المقالة في قبضته بسبب مباشرتها كما يرى الكاتب. وقد اتبع الكاتب أسلوبا بسيطا في عرض معطيات علم انفصل قبل قرن ونصف عن أحضان الفلسفة واحتفظ إلى الآن بجوانب من قاموسها الصعب ومصطلحاتها. كما يُحمد للكاتب قصر مقالاته، فثلاث مقالات فقط من مجموع (45) مقالة امتدت لثلاث صفحات، وذلك يشجّع إقبال القارىء على قراءتها، هو الذي عوّدناه على “المعلّقات” المقالية. وقلت في أكثر من مناسبة إن كونك مثقفا يعني قدرتك على تقديم أكبر عدد من الأفكار باقل عدد من الكلمات. ولكن هيهات في مجتمع الخطاب فيه يجري في المجالس والدواوين منذ الطفولة، ومنْ يتحدث يشعر بنفسه “شيخا”. عالج المؤلّف موضوعات وظواهر حسّاسة بعضها ينخر في جسد مجتمعنا منذ قرون، وأخرى “جديدة” سبّبها احتلال الخنازير الأميركان لبلادنا، وما خططوا له من قلبٍ ومسخٍ لقيم إيجابية كانت راسخة، ونشرٍ لقيم سلبية مقحمة، وإيقاظ أخرى ممسوخة كانت نائمة. وقد عبّرت عناوين المقالات في كثير من الأحيان عن هذه الإنشغالات مثل: إدمان السلطة، الفرهود، عقدة الدونية، شهوة الحكم، النفاق الوظيفي، هل كل العراقيين لصوص؟ الشخصية العراقية، الديمقراطية الكسيحة، وغيرها الكثير. وهي من سمات المقالة الناجحة أن يكون العنوان “مفتاحيا” يهىّء القارىء لما سيرد في متنها. والمقالة الأم في هذا المجال هي مقالة “التكيّف” (ص 53).
ومن سمات العبودي الأسلوبية في أغلب المقالات، السخرية الهادئة إذا جاز الوصف. وهي سمة تناسب المزاج العراقي. وقد تصاعدت في بعض المقالات لتصل إلى مستوى الكوميديا السوداء. خذ مثلا ختام مقالة (العلاج بالألم):
(إني أقترح عليكم أن تقرصوا أرجلكم بشدة مؤلمة بأصابعكم – لأننا لا نملك كهرباء نصعق بها أنفسنا – كلما تحدّث نائب متحذلق أو سياسي متشدّق في التلفاز حتى ينتهي من كلامه أو تتورّم أرجلنا من شدّة القرص. أنا واثق إن كررناها عدة مرّات سنشفي أنفسنا ونتحرر من أوهامنا وأصنامنا وتتضح لنا الرؤية أكثر فأكثر حيث سنشعر بالإنزعاج والألم كلّما استمعنا بعدها إلى هؤلاء المتحذلقين، وسوف لن نسير خلفهم بعد ذلك ابداً.
تحذير: إن كنتم من مدمني التلفاز فحذاري (كذا !) من شدّة القرص لئلا تصاب أرجلكم بالغنغرين وستحتاجون عندها إلى بتر أرجلكم. لا سمح الله – ص 63).
وفي ختام مقالة “الديكتاتور”:
(أتمنى من السياسيين العراقيين أن يقرؤا هذه المقالة أو يستعينوا بصديق لمن لا يُحسن العربية – وحتى الذين يعتقدون بأن وجودهم مكسب وطني، وأن قراراتهم تنزل بها ملائكة السماء. فلا مجال هنا أبداً للدكتاتورية خصوصا ونحن خبرناها ودفعنا حياة الملايين ثمناً لدرس غال جدا، ولن يغسل أدمغتنا كل صابون الحصة التموينية المباركة – ص 20).
أو ختام مقالة (الشخصية العراقية):
(لقد أُحيط العراق بظروف قاهرة كثيرة ساهمت في حفر ملامح حادة لدى العراقيين وصبغتهم بصبغة لا أعتقد أن لها مثيلا حتى لدى جيراننا، لأنها ببساطة صبغة (عراقية) أصيلة من زمن نبيّنا إبراهيم (ع) وإلى الآن. وهي بالتأكيد ليست الصبغة التي صُبغت بها المدارس والمستشفيات الحالية التي تتساقط ما إن تجف وبقدرة قادر وبعد أن تكون قد التهمت جميع أموال الميزانية الإنفجارية. سبحان الله – ص 48).

(غلاف كتاب الدكتور محمد العبودي: وجهة نظر نفسية)
وبرغم أن واجب الكاتب الأساسي هو بحث الظاهرة والإمساك باسبابها ومظاهرها وليس علاجها إلا أنه لم يبخل بطرح معالجات مهمة في ختام أكثر المقالات تصلح للدراسة من قبل الجهات المعنية إذا كان لديها وقت لقراءة كتاب دكتور محمد. مثل مقالات الفرهود، والخانع العدواني، والنفاق الوظيفي، وآفة الحمايات الشخصية، وداء الإنتصار، التقمّص، ألا من يشتري كرسيّاً بدم.. وغيرها.
ومن أهم ميزات العبودي هنا هي أن النظرة الإحترافية لم تجعله متعاليا أو باردا أو نتاجا لرؤية غربية في علم النفس. هو إبن هذا التراب الطاهر؛ عارف بقيمته وأسراره، ونتاج مبارك لهذا الشعب المقهور العظيم. وهذه الروح هي التي جعلت محمداً يقدّم استنتاجات عصية على البحوث الغربية، كما هو الحال في مقالة (أضواء على مسح الصحة النفسية) التي تحدّث فيها عن دوره كرئيس لفريق مسح الصحة النفسية في العراق، والذي جرى بين عامي 2006 و2007 أي في ذروة محنة العراق، وهو مسح كبير أجري بإشراف منظمة الصحة العالمية، وقد استمرت عملية مناقشة النتائج لمدّة سنة ونصف، وثار الخلاف حول نتئجة إصابة العراقيين بـ (اضطراب عقب الكرب الرضحي أو اضطراب ما بعد الصدمة) أي – posttraumatic stress disorder حيث جاءت النتائج مخالفة للتوقعات العالمية عموما والغربية خصوصا، فقد كانت متدنيّة قياسا للدول السبع والعشرين التي شملها لمسح. وقد طُرح حل توفيقي يرى أن معاناة الشعب العراقي من الإضطهاد لعقود طويلة أكسبه نوعا من (المرونة) أو (الحصانة) جعلته يتقبل المصائب. ولكن محمد يطرح عاملا آخر يعكس وعيه المحلي الوطتي. وبالمناسبة فهذا العامل يقوّض وجهة نظر غريبة أخرى طرحها في مقالة سابقة حول عدم وجود شخصية عراقية.
ومن الغريب جدا أن يرفض باحث نفسي متمرس وجود مصطلح اسمه (الشخصية العراقية) خصوصا وقد صارت دراسة الشخصية القومية فرعا ومنهجا معروفا، كما أن هذا يعني تساوي الهندي مع العربي مع اليوناني، وبإمكاننا نقل الشعوب من مكان إلى آخر واستبدالها حسب قاعدة الأواني المستطرقة. راجع (مقالة الشخصية العراقية ص 47).
وفي استهلال مقالة “الفرهود” قال الكاتب إنه لم يجد تفسيرا لغويا لمعنى كلمة “فرهود”. وفي الكثير من المعاجم هناك معنى للجذر “فرهَدَ” وسيفاجىء الكاتب أن يجد أنه: اسم علم مذكر واسم أسرة عربي، معناه: الغلام الممتلئ، الحسن، ولد الأسد ، ولد الوعل. أو هو فارسي بفتح الفاء، معناه: السعيد، المحظوظ. وقد تُفتح فاؤه بالعربية. فرهد – فرهدة: فرهد الفتى: حسُن وجمُل وامتلأ، عدا حتى جهِد. فرهدت نفسُه : ضاقت ” فرهدت نفوسهم من شدّة الحرّ “.
وقال: لا أدري إن كانت شعوب الأرض المقهورة ستسلك نفس سلوك الفرهود لدينا عندما تحين لحظة خلاصها أم أنه مفهوم عراقي (ص 10). وأقول إن الفرهود هو ظاهرة سلوكية مرفوضة لكنه ليس مفهوماً عراقياً، فقد حصل حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في السنوات الأخيرة. وقبل أيام حصل الفرهود في جمهورية “مالي” في الحرب الأخيرة. لكن ما يُحسب لمحمد هو توسيع النظرة، فنحن نقف بعد الإحتلال أمام فرهود من نمط جديد كما يقول:
(إنه فرهود السلطة هذه المرّة وليس الشعب. نعم فرهود السلطة الذي يتمثل في فرهود توزيع المناصب والمسؤوليات الحكومية، والفرهود في تقسيم العراق إلى مناطق نفوذ لأحزاب وعوائل وعشائر، والفرهود في إطلاق النعوت السامية كالشهداء والأبطال على القتلة والسرّاق، وغيرها من طرق لم يألفها الفرهود من قبل )(ص 10).
ومثال غريب هذا الذي ضربه المؤلف عن أن ستة من أصل عشرة رؤساء وزارات في “إسرائيل” تركوا مقاعدهم قبل أن تنتهي مدة ولايتهم. مقارنا ذلك بما ورد في دستورنا “البديع” كما يصفه من سماح بتكليف رئيس الوزراء أكثر من مرة (مقالة شهوة الحكم ص 15). وأتمنى على كل الكتاب وضع اسم “إسرائيل” اللقيطة بين قوسين أو ذكر اسمها الدقيق وهو الكيان الصهيوني. ثانيا هل عزّت الأمثلة لتصبح التجربة الديمقراطية في هذا الكيان الإرهابي قبلتنا مثل ذاك النائب الأرعن الذي راح يكافح الإرهاب في تل أبيب، وثالثا لم تكن استقالة رؤساء الوزراء الصهاينة مرتبطة بالزهد بالسلطة بل بالخلافات حول الطريقة المثلى لذبح العرب واقتطاع القدس وتوسيع الإستيطان.
ومن الغرائب الأخرى هي أن العبودي يقول في مقالته (لماذا نحن الوحيدون في العالم الذين نقتل أطباء بلدنا؟) إن السفير الألماني ببغداد طلب مقابلته ذات مرة كطبيب نفسي عراقي. وفي اللقاء ظهر أن هذا السفير حديث عهد بالخدمة في العراق ويبحث عن علماء اجتماع ونفس ليتعرف على شعبنا عن كثب. (المهم – كما يقول الكاتب – أنه سألني سؤالاً أحرجني كثيراً وهو: لماذا الناس هنا يقتلون ويختطفون الأطباء، وهم يعرضون خدماتهم الإنسانية للجميع وليس لطائفة واحدة أو مجموعة محدّدة؟ – ص 51). ويقول محمد إنه لم يجد أي إجابة مقنعة. وأنا أقول له إن هذا السفير إما أنه غبي وهذا غير ممكن، أو أنه يمثّل دور الحمق. فلم يبق أحد لا يعرف دور الجهات الأجنبية في تصفية العقول العراقية. وكان من الممكن للعبودي إحالة السفير “الدمث” كما يصفه إلى ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية الموثوقة عن تسلسل الإختصاصات التي يجب تصفيتها في العراق من قبل الموساد وكان المهندسون الزراعيون – تصوّروا المهندسين الزراعيين!- في التسلسل الخامس حسبما أتذكر . وإذا كان المسلحون العراقيون متوحشين ولا يقدّرون قيمة الطبيب منقذ الأرواح فيقتلونه في عيادته أو الشارع لأن الطبيب معروف للجميع، فكيف تسنى لهم أن يبحثوا عن عناوين ومساكن ذوي الإختصاصات النووية الدقيقة لقتلهم؟ في مثل هذه المواقف يقول رجل الشارع العراقي الرائع لسيادة السفير الألماني: (علينه ؟ .. مو حتى ثلج ﮘلّينه !) ؟ .
ومن الغريب أيضا أن نجد مقالات تدين التوجهات القومية بل تسفّه فكرة القومية العربية. صحيح أن السياسات “القومية” للنظام السابق للإحتلال أضرّت ضرراً فادحاً بالشعب العراقي بل حتى بالقومية العربية. لكن القومية حقيقة عالمية، فكم جمهورية اصبح الإتحاد السوفيتي السابق على أسس قومية؟ الآن بلجيكا مرشّحة للتجزئة، وهناك مشكلة إقليم الباسك وكتالونيا في إسبانيا وغيرها في فرنسا. ولا أدري ما معنى أن ينزل القرآن بلسان عربي مبين، إذا لم نكن مستعدين للإقرار بوجود أمة لها مثل هذا اللسان؟ (إفتتاحية مقالة عقدة العروبية مثلا – ص 68).
وفي مقالة (عبد الكريم قاسم) لم أكن أتوقع من باحث نفسي مجيد مثل الدكتور محمد أن يسير مع موجة المديح من دون تذكّر الطبيعة المرضيّة لشخصية الزعيم الراحل. فأن يحيّى أي كاتب مقالة أو صحفي أو باحث سياسي سلوك الزعيم الزاهد وبساطته وينبهر بهما شىء، وأن لا يلتفت الباحث النفسي العلمي للسلوك المرضي المدمّر للزعيم شىء آخر. فالعلم يعلو على العواطف والإنفعالات.
ولم تكن كل مقالات الكتاب لها علاقة بعلم النفس أو الطب النفسي، ولم تكن أحاديث نفسية خالصة؛ قسم منها كان في دائرة علم النفس الإجتماعي، وقسم آخر يعود إلى علم الإجتماع و حتى الإنطباعات السياسية المباشرة مثل مقالات: كيف تنجح المصالحة الوطنية، وقشرة الموز، وعقدة العروبية، و1+3، ومحنة المرجعية مع الساسة وغيرها.
وقد حفل الكثير من المقالات بأخطاء لغوية كثيرة بعضها يتعلق برفع الفاعل ونصب المفعول به. ولا أستطيع تحديد سبب لذلك لأن محمدأ، وحسب معرفتي به، يمتلك المقومات اللغوية الكافية.
اختصاصي النفس يستشرف ولا يتنبأ :
ويقنعنا جهد الدكتور العبودي هذا أيضا، وإلى حدّ كبير، بالخدمة المتميزة التي يمكن أن يقدّمها عالم النفس والطبيب النفسي كاستشاري للقيادات السياسية والمؤسسات الرسمية وخطط التنمية والنماء الإجتماعي ومعضلاته وغيرها، من خلال دراسة المشكلات من ناحية شخصيات وسلوك الأشخاص الفاعلين فيها، وبناء “توقّعات” علمية دقيقة قد تفاجىء الكثيرين، لأن مقتربها مغاير لم يعتادوا عليه، فيعدونها خطأ وكأنها “نبوءة”. خذ على سبيل المثال لا الحصر مقالة (داء الإنتصار) التي أشار فيها إلى حقيقة نفسية ترى أن تحقيق إنتصار كبير مميّز تعاونت عليه ظروف قد تكون أكبر من إمكانات جهة ما، قد تدفع هذه الجهة إلى محاولة تحقيق انتصارات في مجالات اخرى معقّدة وغير ممكنة، فتشكل بذلك مصيدة لها، وأحياناً مقتلاً. وكأنموذج تطبيقي يتحدث العبودي عن أن الإنتصارات الأمنية في مجال الإستقرار الداخلي وفي مجال توقيع اتفاقية سحب القوات المحتلة وقبولها شعبياً بعد مفاوضات صعبة وطويلة، قد رفعت الرصيد الشعبي للسيد رئيس الوزراء. وما استشرفه العبودي هو:
(هذه النجاحات ربّما – أقول ربّما – ستدفع السيّد المالكي إلى اتخاذ قرارات حاسمة ودراماتيكية ندفع نحن ثمنها لاحقاً. إن هذه النجاحات ستثير حتما حفيظة المنافسين الأقربين أو الأبعدين وتدفعهم إلى إيقاع الأذى به، وهو كما يبدو لن يستسلم بسهولة وسنقع نحن البسطاء بين حانة ومانة. ولو قرأ البعض هذه المقالة لقالوا لا داء انتصار ولا هم يحزنون، إنّه الحسد ليس إلّا. وأنا لا أجد ضيرا من قبول هذا التفسير، فالأمر سيان سواء كان انتصاراً أم حسدا، فالإثنان هما داء واحد إلا أن المتضرّر من الحسد يبدو وكأنه ضحية، وهو ربّما ليس كذلك، لأنه ربّما لا يكون الحسد إلا كونه هو داء الإنتصار بعينه. نعم ، الأمر يدور حول شعور بالغرور وبالقدرة الزائفة التي تدفع الفرد الى اتخاذ قرارات اخرى خاطئة او متعجلة فيخسر من جراء ذلك. ولكي لا يلوم الفرد نفسه- وكعادتنا نحن في القاء الخسارة في رقاب غيرنا- يلجأ الى الحسد والحاسدين في تبرير خسارته ولا يلوم نفسه لقراراته المتعجلة وغير المدروسة – ص 49و50).
ثم يؤسس على هذا التحليل العلمي نصيحة موضوعية جديرة بالتأمل يقول فيها:
(اني ادعو السيد رئيس الوزراء المحترم الى الانتباه لأنّي أرى بوادر داء الإنتصار في محنته على سيماء بعض مستشاريه المقرّبين، وأكاد أرى أنياب أعدائه تلمع في بعض الفضائيات والمقالات، وأنصحه بأن يحترس وأن يحمل في جيبه دائما أم سبع عيون أو أم سبعة وسبعين أو سبعمية وسبعة وسبعين لدرء شر عيون الحاسدين. وكان الله في عوننا نحن العميان – ص 50).
إن هذا دليل وشاهد على مقدار الخدمات الكبيرة التي يمكن أن يؤدّيها المستشار النفسي للجهات الرسمية التي توظّف خبراته. لكنها خدمات تثير حساسيات شخصية وحتى مقاومات جمعية. ولا أعلم لماذا لم يكمل الأخ محمد مشواره المهني كمستشار وطني للصحة النفسية في وزارة الصحة العراقية. وحسب معلوماتنا المتواضعة لا يوجد اي مستشار نفسي لدى اي مسؤول عربي. لأن المسؤول العربي يفهم في كل شيء والحمد لله. وادعاؤه هذه “القدرة الكلّية – omnipotence” بيجعله مهيئاً في أغلب الأحوال للوقوع في مصيدة “داء الإنتصار”.
الصرخة المُنتظرة :
أما مقالة (إرجعوا أيّها الأوروبيون إلى عوائلكم)، فهي صرخة كانت مكتومة في نفوس الكثيرين، أطلقها الدكتور محمد العبودي في حين عجز أو خجل أو جبن الكثيرون عن إطلاقها، وتتعلق بمقدار صلاحية العراقيين ممن اكتسبوا الجنسيات الغربية الأوروبية والأمريكية خصوصا، للتصدي لقيادة البلاد بعد الإحتلال. يصرخ محمد العبودي بكل جرأة صرخة حق هادرة :
(أحسّوا أنهم ابتعدوا عن مخالب الأخطبوط الصدّامي، وهم يوقّعون أوراق اكتساب الجنسية، ولكن فاتهم شيء آخر هو أنهم وقّعوا على شهادة وفياتهم العراقية ! نعم ، إنهم أصبحوا كزملائهم الذين استشهدوا في سجون الطاغية؛ شهداء ولكن في الغربة – ص 82).
ثم يمسك بالمفارقة المضحكة المبكية :
(المفارقة المضحكة المبكية أن شهداء الغربة عادوا إلى الوطن بعد سقوط الصنم وجدرانه المخيفة، وهم يحملون بين جنباتهم أوراقاً لم يجدوا من يستطيع قراءتها، كما أنهم لم يفهموا ما يقوله سجناء العراق. وهيهات لهما ذلك فهما عالمان لا يلتقيان إلا في عالم الخلود. فأنّى للطير أن يفهم ما تقوله السمكة! عاد وترك حياته وعائلته وجاء مرعوباً لازال يحمل نفس الخوف الذي اصطحبه معه عند الهجرة، فجاء مختفيا خلف جوازه الأوروبي ومحميا في المنطقة الخضراء، لا تربطه بهذه الأرض غير ذكريات مقتضبة لعالم لم يعد كما كان أبداً. لقد تعلّم أن المال في الغربة وطن، فحرص على أن يعبّ منه ما استطاع إليه سبيلا. ولأنه عاش في بيئة يحرص فيها المرء على سلامته كثيراً، تراه لا يكاد يغادر المنطقة المحمية غير مجازف يحمل عائلته معه، فهو قادم للخطوط الأمامية من الجبهة، وواجبه تجاه عائلته الصغيرة أن يبقيها هناك بعيدا عن الشمس والمفخخات حيث الكهرباء والماء نعمتان لا يثمنهما أحد في أوربا – ص 82 و83).
وحين تكمل صرخة العبودي الختامية :
(المشكلة تبدأ عندما يريد أن يحكم هنا ويدير شؤون الرعية، وهو لا يكاد يفهم شيئا مما يقولون. نعم إنهم بحاجة لمن يقول لهم رحمكم الله يوم هاجرتم، وكتب في صفحتكم أنكم شهداء المهجر، فلا تفسدوا ما كُتب لكم، وعودوا إلى عوائلكم فأنتم أوربيون حلّت فيكم أرواح عراقيين شرفاء استشهدوا هناك في المهجر – ص 83).
لا تستطيع إلا أن تختم حديثك بالقول : تحية للدكتور محمد رشيد العبودي .
ملاحظة ختامية مؤلمة :
يعاني الأخ الدكتور محمد رشيد العبودي، هذا الكفاءة النفسية الماهرة، هذه الأيام، من مرض خطير أصاب جهازه العصبي وأعجز أطرافه العليا والسفلى، وهو طريح الفراش الآن، وحيدا كعادة كفاءات هذه البلاد من أبنائها المخلصين. وقد شاهدت بنفسي قوة إرادته وروحه الشجاعة، وهو يواجه هذا المرض الخطير، فيكون بذلك، هو ذاته، الأنموذج المشرّف، لما تحدّث عنه، عن صبر العراقيين وتحمّلهم المُعجز.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة