خاص: إعداد- سماح عادل
“فؤاد حداد” من أهم الشعراء في القرن العشرين، ولد “فؤاد سليم حدٌاد” بحي الظاهر بالقاهرة في 1928، والده “سليم أمين حدٌاد” ولد في بلدة عبية بلبنان في أسرة مسيحية بروتستانتية لوالدين بسيطين اهتما بتعليمه حتى تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت متخصصاً في الرياضيات المالية، ثم جاء إلى القاهرة قبيل الحرب العالمية الأولى ليعمل مدرساً بكلية التجارة جامعة فؤاد الأول، ويحصل علي لقب البكوية وعندما نشأت نقابة التجاريين في مصر منحته العضوية رقم واحد، وما زالت كتبه وجداوله تدرس باسمه حتى الآن.
حياته..
أما والدته فهي من مواليد القاهرة في جاء أجدادها السوريون الكاثوليكيون إلي مصر واستقروا فيها وولد أبواها في القاهرة. أبوها من عائلة أسود التي جاءت من دمشق الشام وأمها من عائلة بولاد من حلب، وفي المعتقل تحول “فؤاد حداد” إلى الإسلام.
تعلم “فؤاد حداد” في مدرسة الفرير ثم مدرسة الليسية الفرنسيتين، وكانت لديه منذ الصغر رغبة قوية للمعرفة والإطلاع على التراث الشعري الذي وجده في مكتبة والده، وكذلك على الأدب الفرنسي من أثر دراسته للغة الفرنسية. اعتقل عام1953 لأسباب سياسية، ثم عاد واعتقل مرة أخرى عام 1953.
نشر “فؤاد حداد” ديوانه الأول “أحرار وراء القضبان” الذي كان اسمه “افرجوا عن المسجونين السياسيين” بعد خروجه من المعتقل عام 1956، واعتقل مرة أخرى عام 1959 لمدة خمس سنوات، وخرج ليكتب في شكل جديد لم يكن موجودًا في الشعر العربي، وهو شعر العامية فكتب أشعار الرقصات مثل “الدبة” و”البغبغان” و”الثعبان” وغيرها.
كتب “المسحراتي” لسيد مكاوي 1964 وكتب له البرنامج الإذاعي “من نور الخيال وصنع الأجيال” 30 حلقة عام 1969 والذي كانت أغنية “الأرض بتتكلم عربي” قطعة منه. أصدر 33 ديوان منها 17 ديوان أثناء حياته والباقي بعد وفاته، ابنه الشاعر أمين حداد، وهو يعتبر أحد الشعراء الذين خرجوا من عباءة والده مسحراتي الشعراء، وله ابنان آخران هما سليم حداد وهو الأخ الأكبر وحسن حداد وهو الأخ الأصغر.
الشعر..
كان ديوانه الأول “أحرار وراء القضبان” عام 1956 ثم “حنبني السد” 1956 ومن أهم دواوينه “قال التاريخ أنا شعر إسوَد”.. ديوان ترجم فيه الشاعر مختارات من الشعر الفيتنامي 1968، “المسحراتى” 1969.
ومن أبرز القصائد التي كتبها ضمن تلك السلسلة: سلام، وحسن أبو عليوة، الاستمارة، الكحك، النسمة هلت، والله زمان، يا هادي، بعلو حسي، افتح يا سمسم، في الغيط نقاية، عنتر، ألف باء، هلال، حرفة هواية، التبات والنبات، دواليب زمان، على باب الله، الأرض بتتكلم عربي.
شعر العامية المصرية..
في مقالة بعنوان (فؤاد حداد.. والد الشعراء) يقول “محمد بغدادي”: “حتى أواخر الأربعينيات لم يكن الزجل يعانى من الغربة.. ولم يقع في مأزق.. عمود الشعر الفصيح الذي عجز عن التعبير عن القضايا الملتهبة في ساحة الوطن.. والاشتباك مع قضايا الإنسان العادي الذي يعانى من الفقر والجوع والمرض.. والقهر والقمع والحرمان.. إذ كان الزجل آنذاك يتصدر غالبية الصحف والمجلات ويحتل الصفحات الأولى منها.. ولم تكن هناك صحيفة أو مجلة تخلو من الزجل الساخن اللاذع.. وكانت الصحف تُصَادَر وتغلق بسبب مقطوعة زجلية تَسُب الإنجليز.. أو تعيب الذات الملكية.. ولكي نتعرف على ملامح مشروع فؤاد حداد الشعري.. لابد أن نلقى نظرة على المشهد الشعري آنذاك.. أي في أواخر الأربعينيات. ولعل أهم ما كانت تحفل به الساحة الشعرية هو إنتاج بيرم التونسى.. الذي كان قد تخلص تماما من سماته القديمة، واكتسب ملامح جديدة.. كانت السر الذي مكن إنتاج بيرم الفني من أن يكون الإرهاص بالشعر الذي سيولد بعده.. فالنديم وصنوع وبيرم كانوا مصدرا مهما من مصادر شعر العامية المصرية.. وبعد بيرم جاء دور المثقفين الذين لعبوا دورا رياديا في تكوين «السبيكة» الأولى.. التي صُبّت في القالب الجديد الذي أطلق عليه بعد قليل «شعر العامية المصرية».. والذين تعد أعمالهم الأولى رصيدا حقيقيا لهذا الشعر الجديد.. ولكن الشاعر الكبير «فؤاد حداد» سيظل في موقع الريادة بعد كل محاولات ترتيب أولويات الحضور.. فلفؤاد حداد مكانته التي لا يرتقى إليها أحد غيره. فهو «والد الشعراء»، فقد حمل فؤاد حداد لواء العامية من رائدها الأول بيرم التونسي.. باعتباره همزة الوصل بين الزجل وشعر العامية.. فتجارب فؤاد حداد الأولى هي الجسر الذي عبره الزجل وهو في طريقه إلى شعر العامية .. وتأتى شهادة جاهين بريادة فؤاد حداد في المقدمة.. فهو الذي قال: (عندما قرأت لفؤاد حداد هذه الكلمات: «في سجن مبنى من حجر/ في سجن مبنى من قلوب السجانين/ قضبان بتمنع عنك النور والشجر/ زى العبيد مترصصين».. قررت أن أكون شاعرا عاميا).. وكان ذلك سنة 1951.. ويقول جاهين عن تلك الأبيات: (بحثت مبهورا عن صاحب هذه الكلمات حتى عثرت عليه.. وكنت قد بدأت أنا الآخر بضع محاولات بالعامية، أغلبها جاء متأثرا بالأستاذ الكبير بيرم التونسي، ولذلك هالني أن أقرأ نظما بالعامية يسير في طريقه الخاص، ويستمد منطقه من نفسه).. ويعود جاهين ليؤكد دور فؤاد حداد في تكوين وجدانه الشعري إذ يقول في مقدمة «دواوين صلاح جاهين» سنة 1977: (قضيت مع فؤاد حداد زمنا لا أذكر طوله بالتحديد، ولكنه كان كافيا لأن تتكون فيه نواة ما يسمى بشعر العامية المصرية كنا نقرأ معا أشعار المقاومة الفرنسية ويساعدني فؤاد على فهم معاني الكلمات، وكنا نرفع عقائرنا في الأماكن الخلوية منشدين شعر العامية اللبنانية، والمعلقات الجاهلية، وقد تأثر فؤاد بخطابية الشعر العربي القديم أكثر منى، لأنني كنت قد بدأت أغازل الشعر الحديث الذي حطم عمود الشعر التقليدي، والذي كان شعراء الفصحى قد بدأوا ينشرونه، ولكنه لم ينزل لفؤاد حداد من بلعوم).. وفى مقدمة ديوانه الأخير «أنغام سبتمبرية» يعقد صلاح جاهين مقارنة بينه وبين حداد فيقول: ( وأشهد أنى لم أكتب قط شطرة منه طمعا في شيء.. إلا أن هذا العمل يظهر سر رائعة فؤاد حداد «استشهاد عبد الناصر» . فما أخوفني من المقارنة، لأنه أشعر منى وأرحب وأكثر تدفقا، ولكنى أشطر منه- كما قال لي ذات يوم- لأنني أقص قماش الشعر بمقص خياط على المقاس).. ولكن برغم اعترافه بأستاذية فؤاد حداد.. فإن سنوات الاعتقال التي قضاها حداد بعيدا عن الواقع وبعيدا عن جمهوره الحقيقي.. تاركا بذلك مساحات الإبداع لجاهين.. ثم فؤاد قاعود والأبنودي وسيد حجاب، وغيرهم من شعراء الرعيل الأول لحركة شعر العامية.. حتى إن الشاعر فاروق شوشة عندما سأل جاهين في حوار تليفزيوني قائلا: «النقاد يعترفون أن الشكل الجديد للقصيدة العامية صنعته أنت مع فؤاد حداد.. فكيف حدث ذلك؟ فأجاب جاهين: (فؤاد حداد بالنسبة لي كان لديه زخم وفحولة شعرية لدرجة أنه كان يستطيع أن يتدفق كالشلال إلى مالا نهاية.. وكان يشبه الشعراء الملحميين، أي شبه «هوميروس».. أما أنا فقد كان نفسي قصيرا.. لذلك كنت ألجأ إلى حيل الصنعة.. وأختار أوزانا غير مطروقة).”
ويواصل: “ولكن رغم كل هذا الاحتفاء بقيمة وريادة فؤاد حداد، فإن فترات الغياب الجبرية التي قضاها فؤاد حداد خلف أسوار معتقل الواحات.. أثرت بالسلب على مساحات وجوده في المشهد الشعري.. وربما تكون الأبواب المغلقة والجدران العالية والزنازين الضيقة التي أمضى فيها فؤاد حداد أجمل سنوات عمره كان لها تأثير على نسق الكتابة والصياغة.. ففى المعتقلات حيث لا أوراق ولا أقلام لتسجل مسودات قصائدك.. فعليك أن تلجأ إلى تأليف بيتين من الشعر فيحفظهما زملاؤك في الزنزانة ثم بيتين آخرين ليحفظهما زميل ثان.. وهكذا. لذلك فإن طبيعة الحياة داخل المعتقل تملى على الشعراء نسق الكتابة المنظومة في شكل أطوال ليسهل حفظه.. أو أقرب إلى القصيدة «الزجلية» في بعض الأحيان.. وربما يكون فترات الاعتقال المفتوح بلا أفق معلوم لنهاية الحبس.. جعلت النص لدى فؤاد حداد مفتوحا وملحميا وعامرا بهذا القدر من الزخم والفحولة الشعرية.. وعندما خرج فؤاد حداد من المعتقل في 1964.. التحق على استحياء بمجلة «صباح الخير».. لأنه لم يوقع على التماسات العفو الجماعي.. ولم يوافق على قرار حل الأحزاب اليسارية.. والانخراط في التنظيم السياسي “الاتحاد الاشتراكي” في الوقت الذي تبوأ فيه معظم المعتقلين أرفع المناصب.. وظل فؤاد حداد ينشر أشعاره على استحياء من خلال ملحق صغير أصدره حسن فؤاد سماه «حكايات صباح الخير».. كان ينشر في بطن غلافه الأول فزورة يكتبها فؤاد حداد.. دون توقيع.. ومرت سنوات من التهميش.. والإقصاء إلى أن جاءت سنوات النكسة.. فانطلق فؤاد حداد ليقدم نور الخيال من صنع الأجيال.. وغناها ولحنها سيد مكاوى.. وبعدها كتب كلمة مصر.. وبعدها كتب المسحراتى ولحنه وغناه سيد مكاوى.. وانهالت عبقرية فؤاد حداد ليكتب الديوان تلو الديوان.. فكتب كلمة مصر.. والحضرة الزكية.. وقدم بابا ثابتا لاكتشاف المواهب الجديدة من الشعراء سماه (قال الشاعر) ورحل شاعرنا الكبير فؤاد حداد عن 56 عاما بعد أن ترك لنا كنزا من الشعر تمثل في 14 ديوانا من الشعر نشرت بعد رحيله تباعا.. فهو واحد من عباقرة الشعراء العرب وهو والد الشعراء”.
ازرع كل الأرض مقاومة..
في مقالة بعنوان (فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء) يقول “أحمد زكريا”: “انطلاقًا من قناعة حداد منذ طفولته عندما سُئل عن رغبته في أن يصبح شاعرًا: “لأساعد الناس حتى تكون حياتهم أفضل”. اختار العامية لتكون لغة البسطاء الذين يعبر عنهم، وجاءت تجربته الشعرية معبرة عن التزامه بقضايا المجتمع المصري، والعربي مثل مناصرته للقضية الفلسطينية في ديوان “الحمل الفلسطيني”، بل والإنساني أيضًا، مثل ملحمة “الشهيد الإيراني” تضامنًا مع حركات المقاومة. انحاز صاحب “كلمة مصر” منذ بداية حياته إلى الفقراء من العمال والفلاحين: “الرأسمالي بيملك الآلة.. أغلال على استغلال على بطالة.. يجعل حياتك يا فقير عالة.. ويموتك ويبعلك الأكفان”. وتم اعتقاله للمرة الأولى عام 1953 لمدة ثلاث سنوات، وقد عبر عن هذه التجربة في ديوانه الأول “أحرار وراء القضبان”، ورغم ما تعرض له حداد من اعتقالات في المرحلة الناصرية، إلا أنه آمن مثل أقرانه الشيوعيين آنذاك بالمشاريع التي أنشأها عبد الناصر، وكتب ديوانه “حنبني السد”. شهدت فترة الاعتقال الثانية عام 1959 لمدة خمس سنوات، تحولًا كبيرًا في شعر حداد، تشرَّب خلالها الشخصية المصرية من خلال التقائه في المعتقل بمصريين من محافظات شتى، من الإسكندرية والصعيد والنوبة، لحد قوله: “والشكر للي سجنوني، وبنيل وطمي وعجنوني”، وقد انتقل شعره خلال هذه المرحلة من السياسي المباشر إلى تجربته الرمزية في ديوان “رقص ومغنى” الذي أنطق فيه الحيوانات، مثل قصيدة “رقصة الدب”. وفي الوقت الذي تسببت فيه هزيمة 67 في اكتئاب رفيقه الشاعر صلاح جاهين، كان حداد يكتب بحماس مستمر، إيمانا منه بضرورة استمرار المقاومة، مستلهما التراث العربي والإسلامي، وكتب ديوان “من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة” كرد فعل للنكسة، كما كتب قصيدته الأشهر “الأرض بتتكلم عربي”، وما بين هزيمة 67 وحرب 73 كتب حداد العديد من الأغاني الوطنية، مثل “ازرع كل الأرض مقاومة”. يعتبر حداد على مستوى الإنتاج الشعري هو الأكثر غزارة مقارنة بأقرانه الشعراء، حيث كتب 33 ديوانًا، إلى جانب الأغاني والمواويل المصرية وأشعار الأطفال، بالإضافة إلى الملاحم الشعبية، أبرزها “أدهم الشرقاوي”، وبعض دواوين بالفصحى، كما قام بترجمة عدة أعمال مثل مجموعة قصائد لشعراء المقاومة الفيتنامية، ومسرحية “الغول” لبيتر فايس، ورواية “الأمير الصغير” لأنطوان دي سان- أكزوبيري التي حولها إلى مسرحية غنائية بالعامية”.
وفاته..
توفي “فؤاد حداد” في 1985 عن عمر 56 سنة.
أيام العجب والموت