خاص: حاورته- سماح عادل
“إبراهيم بله عمر” ولقبه “إبراهيم الروسي”، كاتب سوداني من مواليد 1990 سنار- وسط السودان، درس في جامعة الخرطوم- كلية الآداب- تخصص في قسمي الجغرافيا والإعلام، وتخرج بمرتبة الشرف في الجغرافيا عام 2013. وهو عضو اتحاد الصحفيين السودانيين منذ عام 2014، كتب عشرات القصص القصيرة نشرت البعض منها في الصحف، ورواية “مراسم العتمة” هي أولى رواياته، صدرت عن دار أوراق بمصر 2018.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة، وكيف تطور؟
- بدأ شغفي بالكتابة منذ أن أدركتُ بأن الكتابة قمة الوعي الوجودي، وهي فعل تفكير، أنا أفكر إذاً أنا موجود، كما يقول “رينيه ديكارت” في الكوجيتو. ثمة رغبة بوح اجتاحتني ذات ليلة كحمى إفريقية نادرة ومخيفة، أمسكت القلم وكتبت ما يشبه الهزيان- كي أكون صادقا- كتبت قصة خجولة، خبأتها بحرص شديد، كي لا يقرأها أحد غيري، ظلت هذه الرغبة تلح إليّ من حين إلى آخر بأن أمارس هذا الفعل- الكتابة- كنت في ذلك الوقت على أعتاب المرحلة الجامعية، صار الأمر على هذا المنوال.
حتى نشرتُ أولى قصصي في خواتيم عام 2011 في صحيفة (التيار) السودانية الذائعة الصيت، كانت القصة بعنوان (ابتسامة في زمن الذبول)، أتذكر كم كنت فرحاً عندما رأيت اسمي مكتوباً بخط واضح تحت عنوان القصة، منذ ذلك الوقت صار الشغف يسكنني، وأصبحت الكتابة فعل اعتيادي، نشاط يومي ورئة أتنفس بها، صوت قوي أصرخ به وأحتج، وقبل كل ذلك أنا قارئ جيد، لدي قدرة فائقة بأن أجلس لساعات طوال للقراءة، أؤمن بأن الكتابة الجيدة لا بد أن تسبقها قراءة جيدة أيضاً.
(كتابات) في رواية (مراسم العتمة) صورت الصراعات بين مختلف الاتجاهات السياسية في السودان.. حدثنا عن ذلك؟
- شيء من قبيل الجنون يصيبني، حينما أفكر في الحالة السودانية، مدهش حقاً! كيف لبلد غني بهذه الموارد والثروات الهائلة يكون بهذه الوهن والاضمحلال؟ إذا ثمة لعنة أصابت هذه البلد منذ استقلاله، لعنة عدم الاستقرار السياسي وتشاكس الفاعلين السياسيين، المراهقة السياسية ورغبة الإنفراد بالسلطة هي السمة البارزة لمعظم المشتغلين في الشأن العام، يحملون أفكار مستوردة، يؤمنون بها إيمان مطلق، يحاولون تطبيقها حد سفك الدماء، وإن بقاء كراسيهم آمنة أقدس من حياة الناس.
بل معظم التيارات السياسية لا تملك إجابات وافية لكثير من الأسئلة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وليس لديها رؤية واضحة في حكم الدولة، والذين لديهم الرؤية لا يفصح لهم المجال. هذه الصراعات الطفولية جعل السودان يدور في ثالوث خطير منذ الاستقلال، نظام ديمقراطي ثم انقلاب عسكري قابض ثم يعقبها ثورة، هكذا دواليك، وكل الأحزاب السياسية التي خاضت تجربة الحكم فشلت في الارتقاء بالإنسان، رغم أن السودان ثالث دولة في إفريقيا تنال استقلالها بعد مصر وليبيا، وأول دولة في جنوب الصحراء، ومع ذلك ما يزال رجل أفريقيا المريض.
(كتابات) في رواية (مراسم العتمة) رصدت النساء كوقود للحرب؟
- إن المرأة أكثر عرضة من غيرها للانتهاكات في النزعات والحروب، وهي دائما أولى ضحايا الصراعات العبثية والمجانية، إذا لم تمت برصاصة جند طائش، حتما ستموت بالجوع والفقر والمرض، وإذا لم تمت فستتشرد لا محال، وتترمل وتعيش ألم الفقد لزوجها أو لأبنائها، تخسر عائلاتها، البعض منهن يتم دفعهن قسراً إلى جبهات القتال، وتتعرض لاعتداءات جسدية يظل أثارها النفسية تلازمها طيلة حياتها. المدن الآن مليئة بالنساء النازحات بسبب الحروب الشيطانية هربن من جحيم الحرب واستجرن بالمدينة، لكنهن تفاجئن بأن هذه المدن التي تبدو بازخة العمران ليست كريمة وطيبة معهن، يعشن في ظروف حياتية قاسية ورديئة، يمتهن أعمال هامشية لا تليق بهن.
(كتابات) في رواية (مراسم العتمة) عرضت أزمة الشباب لا يجدون الإنصاف من الدولة رغم تفوقهم؟
- شيء محزن حقاً، أصبح الشباب في دول العالم الثالث مثيرين للشفقة، وولد لديهم شعور بالعجز، فالعطالة غول يبتلع كل أحلامهم وأمانيهم المعقولة التي رسموها لمستقبلهم، الحكومات في منطقتنا لا تهمها سوى البقاء في السلطة دون تحقيق أي تقدم في رفاهية الإنسان، والشباب هم أولى ضحايا هذه الحكومات، يرون أحلامهم تتسرب وتصبح بعيدة المنال رغم ضآلتها، دون أن يفعلوا شيئاً، صار شهادة الولاء أقيم من شهادة التفوق الدراسي عند التقديم للوظيفة، هذا جعلهم عرضة لمشاكل نفسية كثيرة، معظم الشباب منهزمون وحائرون، يعيشون في أقصى حالات اليأس وعلى حافة هاوية، منهم من اختار البحث عن وطن بديل يليق بأمنياته وركب أمواج البحار الهائجة، مما جعل الوطن في نزيف متواصل من الكفاءات والقدرات، ومنهم من انزوى وأسر الاستسلام.
(كتابات) ما هو تقييمك لحال الثقافة في السودان؟
- رغم الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة وعدم اهتمام الدولة بالجانب الثقافي وجعله في أدنى سلم أولوياتها، إلا أنه هنالك وعي مجتمعي ومدني بأهمية الثقافة، الخرطوم لم تعد تقرأ فقط، بل تكتب أيضاً، الآن هنالك عشرات الكُتاب من مختلف الفئات في السودان يكتبون نصوص ناضجة، وأصبح للأدب خاصة الرواية شعبية كبيرة، وهنالك فعاليات ثقافية وعلى قلتها إلا أنها تحرك بركة الثقافة الساكن، مثل جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي العالمي- زين- وجائزة الطيب صالح مركز عبد الكريم ميرغني، وجوائز أخرى تهتم بالشباب مثل جائزة أفروأبيا وغيرها من الفعاليات الثقافية كمعرض الخرطوم الدولي والمنتديات الثقافية التي تقيمها مراكز وجمعيات مهتمة بالثقافة والتي تضيف للعير كيل بعير.
(كتابات) هل هنالك مشاكل في النشر خاصة للكتاب الشباب؟
- عملية النشر لم تعد صعبة كما كان في الماضي، لكن ما تزال مرهقة ومكلفة للكُتاب الشباب المبتدئين، معظم دور النشر على كثرتها، تعتمد على الأدباء المعروفين ونشر مؤلفات المشاهير، الناشر يضع دائما حساب الربح والخسارة في كل عمل يفكر في تولي عملية نشره، لذا إن كنت كاتب مبتدئ، عليك أن تدفع، وتدفع كثيراً، وحتى بعد أن تدفع لا يهتم الناشر جيداً بالإخراج الفني والتدقيق اللغوي للنص والإعلان عن الكتاب.
الأمر في السودان أعقد قليلاً، دور النشر قليلة وإمكانياتها المادية ضعيفة وقدراتها التسويقية متواضعة، يطبعون في ورق رديء، إضافة إلى أنهم يضعون ألف حساب للرقيب، لذا معظم الكتاب يلجئون إلى دور نشر خارج السودان، كنت قد راسلت دور نشر سودانية، وظللت أنتظر ردها لأكثر من ثلاث شهور، لكنها لم ترد لي حتى الآن، قبل أن أراسل دار أوراق والتي لم تمر أكثر يومين فقط من مراسلتي لها حتى جاءتني موافقتها.
(كتابات) تعمل بالصحافة، ما هو رصدك لحال الصحافة في السودان؟
- بكل تأكيد حال الصحافة لا يختلف عن حال بقية المجالات، البؤس يعم كل شيء، رغم كثرت الصحف السودانية الورقية إلا أنها في سبات عميق وقلة من يشتريها، صارت تباع على الأرصفة بدلاً من المكتبات، القارئ يكتفي بعناوينها فقط وهي مفروشة في الأرصفة دون أن يشتريها، إن الوضع الاقتصادي المتردي أثر على القدرة الشرائية، إضافة إلى ضيق هامش الحريات، جعلت مهنة الصحافة طاردة ومحفوفة بالمخاطر، وغير مجزية مادياً، الصحفي الآن من أفقر فئات المجتمع في السودان، والصحف الورقية في السودان غير مواكبة لمستجدات العصر، ما زالت بشكلها التقليدي القديم، وعلى مشارف موت إكلينيكي، وإذا استمرت بهذه الوضع فلا تستطيع أن تصمد أمام الصحف والمجلات الالكترونية. المدهش في الأمر رغم هذا البؤس كل يوم تظهر صحيفة جديدة، عدد الصحف في السودان يتجاوز العشرين صحيفة، وهذا عدد كبير في دولة فقيرة مثل السودان.
(كتابات) في رأيك هل الأدب السوداني مهمش وغير معروف في البلدان العربية، وما هي الأسباب؟
- نعم ما زال حضور الأدب السوداني في المشهد العربي باهت ومتواضع، كثير من الكُتاب السودانيين مجهولون لدى القارئ العربي رغم نضج كتابتهم مقارنة بما يكتب في البلدان العربية، هنالك أسماء قليلة معروف وحاضرة دائما في المحيط العربي مثل الطيب صالح ومحمد مفتاح الفيتوري، وأخيراً أمير تاج السر، حمور زيادة وعبد العزيز بركة ساكن، وأعتقد بأن عدم وجود مؤسسات ثقافية وإعلامية قوية في السودان تقوم بدور نشر وتعريف الناس في الخارج بمنتوج الأدبي السوداني ساهم في هذا الغياب والحضور الباهت، وأيضاً افتقار دور نشر السودانية إلى القدرات التسويقية والحس الدعائي الجيد، فالأسماء القليلة المعروفة لولا أنها تعيش خارج السودان ونشرت أعمالها أيضاً في الخارج لما عُرفت.
ثم أن الكاتب السوداني أيضاً لا يقوم بدور كافي في اقتحام المشهد الخارجي وتعريف الناس بمنتوجه، وفي كثير من الأحيان يكون غارقاً في المحلية. لكن في الفترة الأخيرة بدأ القارئ العربي يدرك بأن الخرطوم لا تقرأ فقط، بل تكتب أيضاً، وهذا بفضل السموات المفتوحة وثورة المعلومات.
(كتابات) من الكتاب الذين تأثرت بهم، والمفضلين ليك؟
- لا أعتقد بأنني قد تأثرت بكاتب بعينه، ولم أتمني يوماً أن أكون غير نفسي، بل أن ما يخيفني ويرعبني أن أنظر إلى نفسي في المرآة وأجدني نسخة من الأخر. صحيح تأثر بي كثير من الكتب، أقرأها بنهم، لكن أنساها بمجرد أن أفكر في الكتابة، أحب الأدب الإفريقي عموماً، أٌقرأ أي عمل يقع في يدي وكاتبه أفريقي.
(كتابات) الصعوبات التي واجهتك، وما جديدك؟
- الصعوبات التي واجهتني هي صعوبات تواجه كل الكتاب الناشئين شعملية النشر مرهقة لكاتب مبتدئ، فدور النشر لا تهتم كثير بهؤلاء الكُتاب الناشئين، وإذا وافقت على نشر أعمالهم فلا تراعي قدرتهم المادية. لدي رواية الآن جاهزة للنشر، والآن عاكف أيضاً على كتابة عمل آخر.
جزء من رواية ( مراسم العتمة)..
“أعيد ترميم حياتي من جديد، لابد من إعادة الأمور إلى نصابها، علي أن أقرأ الفاتحة على روح العتمة، قبل أن أبدأ مراسم تشييع العتمة إلى مثواها الأخير، إلى حيث اللاعودة. أشعر بأنني أملك ذراعين قويين لمصارعة الإحباط… الإحباط شرك نصبته لنفسي يجب أن أخرج منه بنفسي.. أشعر بأن الحياة محتملة رغم كل الشرور، لا أفكر في الموت مطلقًا الآن، الموت يعني النهاية، كيف تأتي النهاية قبل البداية، كيف يموت من لم يعش، أحس بأني ولدت للتو، وأريد أن أحيا كما ينبغي.
هناك الكثير يجب أن أفعله، والدي، عبير، سلامة، زينوبة، هارون أبوكديسة، كلهم ينظرون إليَّ بترقب.
أشعر برغبة في الحياة أكثر من أي وقت مضى، لا أريد أن أموت قبل أن أكون شاهدًا على مراسم تشييع العتمة إلى مثواها الأخير، فالفجر يأتي بعد ظلمة، والظلمة قد طالت وحان موعد انبلاج الفجر وبزوغه، أريد أن أعزف قيثارة حياتي كما أريد وأرقص على أنغام الأمل، سأمضي بشجاعة إلى الأمام ولا آبه بالماضي الذي يجرجر ذاكرتي، ولا أبكي مرة أخرى على جثث أحلامي المذبوحة، فمثلما ماتت تلك الأماني ستولد أماني أخرى.. سأحرز هدفًا في مرمى الإحباط وسأحتفل بطريقتي التي أجيدها، سأعزف قيثارتي، سأغني، سأرقص.
بدأت تنمو في قلبي بوارق الحنين، أشجان الحب تغازلني من جديد، قلبي لا يزال مفعم بحب عبير، الوردة السوداء، لا بد أن أعود إليها مرة أخرى، فأنا بحاجة إلى عيونها لأرى المسافات البعيدة، قسوتُ عليها بالفراق طوال هذه السنين، لكن أعلم جيدًا ستمنحني صكوك غفرانها، كل طقس التوقعات يشير إلى أنها ستغفر لي سيئات الفراق، فهي عاشقة نبيلة، وقلبها رحب، ومن يحب بصدق لا يكره أبدًا، ستقدم نفسها لي قربانًا كيرويل التي قدمت نفسها قربانًا للنهر من أجل عشيرتها. صورتها تتوهج في ذهني، أبصر طيفها أمامي، أراها كومضة قادمة من الأمل، أسمع صدى خطواتها وهي تخطو بتمهل، أستنشق عطرها الفريد.. لابد أن تأتي، أحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى، كسحابة في صحراء العتمور. لا بد أن أعيد ترميم العلاقة من جديد، نعم قد خسرت جولة ولم أخسر بقية الجولات، ربما أن سمعتي ملطخة عندها بعار الهروب لكنني لم أنهزم، أنا بكل عتادي.
أشعر برغبة أكيدة في الذهاب إلى النهر، النهر يعيد ترميم ما تبقى من الأمل، الساعة تشير إلى الخامسة مساء، موعد ورود الفتيات اللاتي يقفن على تخوم البلوغ، لكن في هذه المرة لا تستهويني ثمار نهودهن التي تطل برؤوسها، ولا أفخاذهن الوارفات. هرولت مسرعًا إلى النهر، أرى صورة عبير في كل شيء، كما اللقاء الأول حينما أكدت لي حبها، كنت أرى صورتها متجسدة في كل ما أراه أمامي، أراها تبتسم ابتسامتها المعهودة، لكن في هذه المرة، تبدو حزينة بعض الشيء وفقدت بعض نضارتها، كلما أرى طيفها الذي يلمع في النهر، تضيء خيوط السعادة عتمتي، يطلق فجر الأمل زغاريده. أسمع صدى كلمات والدي تتردد.. كن كالنهر نشطًا تضعف أحيانًا لكن سرعان ما تعود أكثر قوة، تتحمل أذى الناس، ويحصلون علي ما يريدون منك، تتحمل المشقات وتجتاز الصعوبات التي تعترض مسيرتك حتى تصل إلى هدفك.
تنتابني رغبة أن أبحر إلى الضفة الأخرى، أرى جزيرة أحلامي ترقد في الضفة الأخرى، بدون أن أشعر قفزت في الماء، أخذت أبحر مصارعًا الأمواج، أحس بأني غير قادر على الإبحار، لكن كلما أتذكر عبير تتولد في نفسي طاقة لا أعرف مصدرها… أخذت أبحر ثم أبحر ثم أبحر.