الى محمد عارف وفرات محسن وكفاح السوداني وصادق حسين وضياء العبادي وبقية الاصدقاء الاعزاء.
ض.ن.
استلمت تعليقات عديدة ومتشعبة جدا حول مقالتي بعنوان ( تدريس العلوم باللغة القومية ) , و لهذا اود ان اعود الى هذا الموضوع المهم – من وجهة نظري – بالنسبة لمسيرة التعليم في عالمنا العربي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص , اي بالنسبة لمستقبل اجيالنا اللاحقة , واؤكد على كلمة ( اللاحقة) , لأن هذا موضوع بعيد المدى ويرتبط بالمستقبل البعيد ويتطلب مناقشات طويلة و مستفيضة وشاملة وهادئة وموضوعية , وان يشارك فيها المتخصصون في العلوم كافة , ولا يخضع الى اجتهادات فردية وانطباعات سريعة ليس الا.
لم استطع ( ولم اخطط طبعا) ضمن مقالتي الوجيزة المشار اليها في اعلاه ان اوضح كل ابعاد هذا الموضوع الواسع جدا , ولكن التعليقات تركزت على تفاصيل كثيرة ومتشعبة جدا لم اتناولها اصلا, اذ تحدث البعض , مثلا ,عن التجربة السورية حول تدريس العلوم الطبية بالعربية والتي تجري منذ زمن بعيد , واعتبرها ( بجرّة قلم كما يقول التعبير العربي الطريف) فاشلة تماما, دون التعمق بدراسة هذه التجربة من جوانبها المتعددة, وهي نظرة متسرعة جدا وتفتقد الى التحليل الموضوعي الشامل , الذي يحدد ما لها وماعليها , وبالتالي يخرج باستنتاجات علمية محددة عن هذه التجربة الفريدة , والتي – اكرر- انها تجري منذ سنوات طويلة, وتساهم بها اجيال من المتخصصين السوريين , وليس من الضرورة هنا تكرار هذه التجربة حرفيا , ولكن يجب دراستها بامعان . وتحدث بعض المعلقين عن عمق اللغة العربية وعظمتها وقابليتها على الاشتقاق والتكييف , وهو موضوع قديم طبعا , ومتشابك – ان صح التعبير – واقول متشابك بالذات لانه يرتبط بالنظرة القوميّة المتطرفة في عالمنا العربي ( والتي عانينا منها الكثير في مسيرة حياتنا كما هو معروف !), وقد تذكرت حادثة طريفة حدثت في كلية اللغات مرة , اذ قال أحد اساتذة اللغة العربية ( والتي تقوم كلية اللغات بتدريسها بمعدل ساعتين اسبوعيا في اقسام اللغات الاجنبية كافة) قال , ان اللغة العربية هي ( ام اللغات) , فسأله أحد الظرفاء ( اذا كانت العربية ام اللغات , فهذا يعني ان هناك بالضرورة زوج لها , اي أب لهذه اللغات , فمن هو هذا الاب ؟) , وقد غضب استاذ العربية ذاك غضبا شديدا , واعتبر هذا السؤال اهانة للغة العربية ( المقدّسة !) واعتداء صارخ عليها , وقد حاولنا جميعا – بالطبع – تهدئة الموقف المتوتر ذاك , والذي كان يمكن ان يؤدي الى نتائج وخيمة جدا, واطلقنا بعدئذ على تلك الحادثة الغريبة و الطريفة تسمية – (معركة عشيرة اللغات!).
ان مقالتنا حول تدريس العلوم باللغة القومية تنطلق من مفاهيم اخرى , واهمها , ان لغة الثقافة ولغة العلم واحدة في معظم مجتمعات العالم المتقدم وشبه المتقدم ايضا, فالفرنسي والانكليزي والالماني والروسي و الامريكي والصيني والبلجيكي والياباني والبلغاري والكوري والتركي والبولوني والاسباني والبرتغالي والارجنتيني والنمساوي ووووووو… , كلهم يدرسون العلوم كافة في مدارسهم وجامعاتهم بلغتهم القومية , وكلهم وصلوا الى هذه المرحلة الطبيعية تدريجيا , وليس طفرة واحدة كما يقال , و انما نتيجة لعمل طويل ومسيرة علمية استغرقت عشرات السنوات الكثيرة والطويلة جدا من البحث العلمي المعمق , ففي روسيا مثلا , ابتدأت هذه العملية العلمية منذ زمن العالم الروسي الموسوعي الكبير ميخائيل لومانوسوف في القرن الثامن عشر , الذي خاض نضالا ( وليست هذه كلمة طنانة ابدا , ولكنها حقيقة موضوعية فعلا!) ضد هؤلاء الذين كانوا يؤكدون ( في تلك الفترة) على عدم قدرة اللغة الروسية على القيام بذلك الدور ابدا , وهذا الموقف يذكرنا طبعا بما يقولونه الان في مجتمعاتنا حول اللغة العربية وعدم امكانياتها بالتعبير عن المصطلح الفلاني في العلم الفلاني.
يجب الاقرار والاعتراف, وبلا اي تردد , بوجود لغة بارزة في كل عصر من عصور تاريخ البشرية , لغة سائدة اولى , وكانت العربية واحدة منها في زمن مضى وانتهى عندما كانت بغداد (منارة المجد التليد) , وان اللغة الانكليزية في عصرنا المعاصر هي اللغة الاولى بلا شك نتيجة ظروف مسيرتها التاريخية عبرعدة قرون , دون ادخال هذه المسألة في اطار ( المؤامرآت الامبريالية !!!) , وقد طالبتني اكاديمية العلوم الروسية عندما قرر معهد الاستشراق الروسي التابع لها ان ينشر كلمتي في كتاب ضمن بحوث مؤتمر المستعربين الروس ( انظر مقالتنا بعنوان – حول اول معجم روسي – عربي للامثال الروسية في العراق) طالبتني بموجز قصير للكلمة باللغة الانكليزية كشرط من شروط النشر في اصدارات اكاديمية العلوم الروسية , وعندما اعتذرت لهم عن ذلك لعدم امكانيتي كتابة هذا الموجز بالانكليزية , أخذت الدكتوره الميرا علي زاده على عاتقها تنفيذ هذه الفقرة اعتزازا منها بتلك الكلمة , وذلك لانها كانت رئيسة لتلك الجلسة العلمية, التي القيت فيها الكلمة , وهذا ما تم فعلا.
تدريس العلوم باللغة القومية يعني اولا الاقرار بهذا المبدأ باعتباره ضرورة علمية تعكس تقدم البلد وتعددية لغاته والوحدة العضوية بين لغة العلم ولغة الثقافة فيه , وتدريس العلوم باللغة القومية يقتضي عملا علميا هائلا لكل فئات الامة من اختصاصيين ومثقفين ولعشرات السنوات , وتدريس العلوم باللغة القومية عملية اجتماعية كبيرة و تدريجية وبطيئة جدا جدا , ولا تتم بين ليلة وضحاها .
دعونا نتكلم عن تدريس العلوم بلغتنا القومية الان , ونبذر بذورها في تربتنا الان , ونتهيأ للانتقال التدريجي اليها الان , فقد نضج العراق حضاريا بفضل ابنائه في كل مكان بغض النظر عن الاحداث المأساوية التي تجري في عراقنا الحبيب , ومن الضروري ان نلحق بصاروخ التقدم العلمي العالمي.