لا يناسب البصريون ارتداء السترات الصفراء التي يرتدوها المحتجون في فرنسا , فيكفي ويزيد أنّ وجوه الكثير من البصريين ” المتظاهرين وغير المتظاهرين ” تميل الى الإصفرارِ بما هو أشدّ اصفراراً من تلك السترات ! وهذه احدى سمات الكآبة المتعددة الأسباب الحكومية والحزبية , ولمْ يركّز الإعلام على اللون الذي يكتسي الوجوه حتى صار كشعارٍ للحركة الأحتجاجية البصرية ..
من جانبٍ آخر بات منَ المسَلّم به أنّ المتظاهرين البصريين اكثر وأشدّ وعياً من المحتجين الفرنسيين في باريس , فلم تشهد جميع تظاهرات البصرة اعتداءاتٍ على الممتلكات العامة ونهب المحلات وتهشيم زجاج السيارات وتحطيمها مثلما فعلوها الفرنسيون في تظاهراتهم , وبانَ أنّ البصريين يمتلكون شعوراً كاملاً بالمسؤولية والذوق الأجتماعي , وبالرغم من أنّ ثورة الغضب الجماهيري يصعب التحكّم والسيطرة عليها بالكامل , وإذ لابدّ لثورةِ الغضب من عمليةِ تنفيسٍ ” تحول دون الأنفجار الذاتي – الجمعي ” فأنّ المحتجين البصريين عبّروا عن غضبهم بحرق مقرات الأحزاب المتحكمة بالسلطة , والتي هي السبب المباشر بحرمان سكّان البصرة حتى من الحدود الدنيا لحقوقهم < وهل يوجد شعب في دول العالم يتظاهر ويطالب بتوفير مياهٍ للشرب وللغسيل .! > , بينما سلطات الأحزاب الحاكمة تحتفظ بأتّهاماتٍ جاهزة ضد ايّ تظاهرة بوجود المندسين فيها ” وهم مصنَّفون مسبقاً لدى هذه الأحزاب , بأنهم تكفيريون ودواعش ومن منتسبي حزب البعث , بالرغم أنّ العديد من المتظاهرين هم من جيل بعد عام 2003 ” .
بينما على الجانب الآخر الباريسي , فلم يتمكّنوا اصحاب السترات الصفراء من المتظاهرين من ايجاد أيّ رابط بين مطاليبهم المشروعة وبين اعمال الشغب والعنف التي مارسوها , وعلى الرغم من بعض التنازلات التي قدمتها حكومة الرئيس الفرنسي ” ايمانويل ماكرون ” لهؤلاء , لكنها كانت تنازلاتٍ لحفظ الأمن داخل باريس بالدرجة الأولى , وبالرغمِ ايضاً منْ أنّ الشرطة الفرنسية استخدمت الغاز المسيل للدموع ضد هؤلاء المحتجين بغية تفريقهم ” وهو أمر اعتيادي وتقليدي في مكافحة الشغب في كلّ الدول ” , لكنّ الأجهزة الأمنية في فرنسا لم تطلق الرصاص الحيّ على المحتجين كما حصل في البصرة , ولم تستخدم حتى الرصاص المطاطي ضدهم كما تستخدمه اسرائيل ضد الفلسطينيين , ومن اكثر من المحال وجود ميليشيات في فرنسا تتصدى ” بكلّ معاني التصدي ” للمتظاهرين وبما يفوق سطوة قوى الأمن الداخلي .!
ثُمَّ , على الرغم من أنّ الأوضاع المضطربة في العاصمة الفرنسية تتصدّر نشرات الأخبار في الوكالات والصحف والقنوات الفضائية , لكنّ تلك التغطية الإعلامية لا يمكن مقارنتها بالأحداث الجارية في محافظة البصرة , والتي تكاد تغدو بعيدة كلّ البُعد عن التغطية الأعلامية الدولية ولعلّ بعضاً من ذلك متعمّداً ومقصود .! فما يجري في البصرة اكبر واضخم من التظاهرات والأحتجاجات , فحسب نشرات الأخبار ومصادر المواقع الألكترنية فأنّ العمليات المنظمة لتهريب النفط العراقي تجري على سيقانٍ وأقدام وأذرع وبعلم الدولة العراقية التي لا تستطيع وقفها ! فأحزاب الأسلام السياسي المتحكمة بكل مفاصل الدولة وادارتها هي التي تقف وراء مجريات ما يجري هناك , وأنّ ما يحدث في باريس يكاد يضحى كريحٍ عابرة سرعان ما تزول قياساً لما في البصرة .. ولسنا هنا بصدد التعميم واتهام كافة الأحزاب بدون استثناء بالضلوع في ما يجري في هذه المحافظة وكأنها منشقّة عن سلطة الدولة .! , لكنّ ما يلفت الأنظار أنّ الزائرين والقادمين من البصرة ينقلون ويتّفقون على رأيٍ واحدٍ مفاده أنّ كلّ سائقي سيارات الأجرة هناك ” وبمختلف فئاتهم العمرية ومستوياتهم التعليمية والأجتماعية ” يتحدثون وينقلون برأيٍ واحدٍ ودقيق كلّ التفاصيل الدرامية والتراجيدية المؤلمة التي تمزّق الأعصاب عمّا يجري في تلك المحافظة , وقد اختزلنا الحديث هنا من مئةٍ الى أقلّ من 1 % 100 وفقاً لمتطلباتٍ ما في الإعلام وهي غير مضمونةٍ ايضاً .!