في كل أمة أسماء من ذهب ، تثني عليهم المؤسسات ، وتبجلهم الأجيال ، إذ تتقن المجتمعات الحية التعامل معهم، فإن رأوا من عظائمهم خيرا أذاعوه وإن رأوا شرا دفنونه! أما نحن فمبدعون في تضخيم الأخطاء إن وجدت، واختلاقها إن لم يكن لها وجود ، بل نهدم وبمهارة ممتزجة بسذاجة غريبة أمجاد عظمائنا ، بعد أن نصدق فيهم الشبهات ، والنتيجة لن يكون لنا تاريخ ، فبقينا في عراء موحش لاتظلله سقوف قيم خالدة ، وواقع يخلو من قدوات عظيمة وأسماء لامعة، فانحدرنا إلى سفوح موحلة وساد فينا الأقزام والإمعات .
في تاريخنا القديم والحديث مفكرون مصلحون خدموا الأمة عبر ماتهيأ لهم من مواهب وطاقات ، عرفوا مشكلة عصرهم الحضارية وأسهموا في طرح الحلول المناسبة لعلاجها والبدائل اللازمة لتجاوزها، يأتي في مقدمتهم موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام رائد النهضة في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني (1839 – 1897م) الذي وهب نفسه وعقله وقلبه لخدمة العدل والإنسانية ، يقول في وصف نفسه ( إنني كصقر محلّق يري فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه ، وإنني لأتعجب منكم ، إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الصغير) .
الشاعر الكبير محمّد اقبال ت 1932م عده حلقة الوصل الحية بين الماضي والمستقبل، وانّه لو طال به العمر لحقق العالم الاسلامي انجازات ضخمة، وقد تناوله في العديد من قصائده متحدثاً عن جوانب العظمة في شخصيته.
الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان Renan أكبر فيه عبقريته ، وسعة علمه وقوة حجته وقال : (كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا ، أو ابن رشد ، أو واحد من أساطين الحكمة الشرقيين).
قال عنه مالك بن نبي ت 1973م (في هدأة الليل , وفي سُبات الأمة الإسلامية العميق , انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد , ينادي : حى على الفلاح ! .. فكان رجعه فى كل مكان . إنه صوت ” جمال الدين الأفغاني ” .. موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة , ويوم جديد).
الأفغاني نذر نفسه لإنارة العقول ، وتبصير الناس بمالهم من حقوق وما عليهم من واجبات، ومن أجل ذلك قال كلمته المشهورة: (الشرق .. الشرق.. لقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه).
الدور العظيم الذي قام به الأفغاني عندما جاء الي مصر كان دورا سياسيا ولم يكن دورا معرفيا أو علميا ، أسس لحركة ذات طبيعة سياسية ، وبدأ يطرح أطروحات ضد الاستبداد وما له من آثار سلبية على تقدم الشعوب وكان يقول للمصريين ( قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد ، أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق وتقوم بأود العيال فلماذا لا تشق قلب ظالمك ) هذه الدعوة ضد الاستبداد بدأت تستقطب عدد من المصريين حولها ، منهم محمد عبده ، وسعد زغلول .
أما الجانب الفكري عند الأفغاني فكان متعلقا بفتح باب الاجتهاد في الدين ، وهذه الفكرة التي تأثر بها من بعده محمد عبده ، وبعد احتلال الإنجليز لمصر بعد الثورة العرابية 1882م، أيقن الأفغاني أن الاشتغال بالسياسة والتركيز علي المسألة السياسية أورث مصر الإستعمار، ومن هنا رأى أنه لا تغيير سياسي دون تهيئة ذخيرة فكرية وثقافية .
عاش فى القاهرة مدة ثمان سنوات ، وكان لا يسأم من الكلام فيما يذهب بالنفس إلى معالي الامور أو يلفت الفكر إلى النظر في الشؤون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها,وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف الى بلادهم,والزائرون يذهبون بما ينالونه الى أحيائهم,فاستيقظت مشاعر,وتنبهت عقول, وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد، في هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب,ولكنها كانت روحاً مشعة تبدد دياجير الغفلة,وتحيي العزائم الميتة,وتلهب الإرادات الخامدة وتفتح الأذهان المغلقة.
الأفغاني نسيج وحده في عزة النفس وسعة الأفق ، حسبه من الشرف أنه قضى حياته منافحا عن وحدة المسلمين ، داعيا لإستنهاضهم ، خلّف خرائط فكرية ، تتقن التعامل مع التراث وتستجيب لتحديات العصر. تدعو إلى تحويل القيم إلى آليات ، والفكر الى معادلات عبر استثمار وتوظيف خزائن الفكر المستنير.
إضاءة : قال الجواهري في رثائه.
ترفَّعْ أيُّها النجم المُسَجَّى وزِد في دارة الشَّرَفِ اتّقادا
ودُرْ بالفكر في خَلَدِ الليالي وجُلْ في الكون رأياً مُستعادا
جمالَ الدين ، يا رُوحاً عَليّاً تنزَّلَ بالرسالة ثمَّ عادا
تجشَّمْتَ المهالكَ في عَسوفٍ تجشَّمَهُ سواك فما استَقادا
طَريقِ الخالدينَ ، فمَنْ تَحامى مصايرَهُمْ تَحاماه وحادا
وجَدْتَ اللذَّةَ الكُبرى فكانت طريفَ الفِكرِ والهِمَمِ التِلادا