ما وقع لغيدان أبو الراس وفاتنا التذكير به:
أو قل الصورة النمطية لسجون العالم الثالث بعد المئة
في غرفة معتمة، خَلتْ تماما من أية نافذة بإستثناء كوة صغيرة جدا، صُممت بطريقة خبيثة، لتكون مصدرا لتسلل بصيص من الضوء إن استطاع اليها سبيلا، ولدخول ما سُمِحَ له من الهواء بعد خنقه بشبكة معدنية شديدة الإحكام. هناك كان قد قضى أبو داود ليلته، بعد أن أفرغت جيوبه من كل محتوياتها. على أصوات صراخ وأنين لا يعرف مصدره صحا من نومه ليسائل نفسه وبلغةشديدة الدهشة والتعجب: إذن هو ليس وحده في هذا المكان! كيف نام ليلته على فراش ممزق من هنا وهناك، أريد له أن يُرتق وبأي شكل من اﻷشكال الاّ انه إزداد تمزقا واهترائا، مليئا ببقع من الدم الناشف ومنها ما زال رطباً، هل هي لبشر مثله أم ماذا!، عدا عن بقايا حشرات مختلفة اﻷنواع واﻷحجام، كانت قد تلقت مصيرها المحتوم بسبب ما يلف الغرفة من روائح كريهة قاتلة، أو ربما جيء بها عن قصد وﻷغراض لا تخلو من دناءة.
بعد هنيهة من الوقت والإستغراب على وقع المفاجئة، بالكاد تمكن من تحريك جسده المتعب والمتشنج في آن، مبتدأ بطرفيه السفليين وليعقبها بالعلويين، متلمسا ما استطاع بعض من أجزاء جسده ليطمئن عليها. تطلع الى جدران الغرفة اﻷربعة وإذا بها ملأى بشعارات ورسوم، أصحابها كما يبدو يتبعون العديد من الجهات والمنظمات الحزبية والإنتماءات السياسية، قسم منها محضور عليه ممارسة أي نشاط يمس (سلامة أمن الدولة)، موزعة على أزمنة وحُقب تأريخية مختلفة، إبتداءا من اليميني المتطرف وصولا الى اليساري المغامر مرورا بالملحدين وَمَنْ جرت تسميتهم بالقوميين الشوفينيين ومن كل مكونات المجتمع. كذلك منهم مَنْ يعود بإنتمائه وميوله الى العهد الملكي، فضلا عن مؤيدين ومؤازرين للحكم الجمهوري اﻷول وقليل منهم يتبعون للحكم الجمهوري الثاني، مشفوعة بأسماء وعناوين وأعمار مختلفة، كلها تعود لرجال كانوا قد مرّوا من هنا، من هذه الغرفة، دون أن تخلو هذه الجدران كذلك من كتابات إحتجاجية لبعض فتية مروا من هنا أيضا، بإستثاء الإناث، فلربما التزم المشرفون على هذا المكان بقاعدة الفصل بين الجنسين ففي إختلاطهم مفسدة كما يقولون، وخشوا حضور الشيطان الرجيم بينهما، فالعوذ كل العوذ منه ومن أساليبه الخبيثة، الماكرة. هكذا تقول القاعدة الفقهية التي آمن ولا زال البعض بل قل اﻷكثرية المنافقة منهم.
وما لفت نظر أبو داود أيضا هو خلو الجدران من الشعارات التي تحمل دلالات إعتقال بعض من منتسبي أو أصدقاء أحزاب وتكتلات سياسية أخرى، والتي ما إنفكت أجهزة النظام، المرئية والمسموعة والمقروءة تصدع بها رؤوسنا كل يوم بل ومع كل نشرات اﻷخبار والبرامج الخاصةر. فإنك مثلا لن تجد من بين التعليقات ما يُنبأ بوجود مَنْ هو محسوب على قوى الإستعمار وأذنابهم، ولا مَنْ يمثل الجواسيس والخونة وأتباع الطابور الخامس وسارقي قوت الشعب؟ بل ليس هناك مَنْ ينوب عن اللوطيين واللوطيات، والسحاقيين والسحاقيات، والمثليين والمثليات؟ وليس هناك من دليل يؤشر الى إعتقال أو حبس أو توقيف أو حتى إستدعاءأحد المنتمين الى اﻷحزاب الشوفينية أو بعض من قادتها، والتي ما انفكت يوما عن إدعائها بأن في ارومتها إمتيازا اصطفاه الله عن سائر خلقه؟ بل ليس من بين المحتجزين كما تشير جدران الغرفة اﻷربعة الى وجود من يمثل إرادة مجموعة المعممين والمعممات( إستدرك سريعا، ليس هناك معممات فالشرع لا يسمح لهن بالتفقه ولا بإمامة المصلين على رأي أكثرية أئمة هذا الزمان) والتي ما توقف لسانها وصوتها يوما، ومن على منابر الدولة عن القول بأن حزب الله هم الغالبون أمّا اﻵخرين فإلى جهنم وبئس المصير.
المفاجئة اﻷكبر والتي لم يكن يتوقعها أبو داود على الإطلاق، أن من بين الشعارات المكتوبة على الحيطان ما يعود تأريخها الى فترة أربعينات القرن العشرين واﻷقل منها الى الثلاثينات، والتي جلّها وكما تشير الى النزاعات العشائرية التي كانت تدور رحاها في تلك الحقبة، إذن السجن ذات السجن رغم تبدل الطغاة والبغاة وَمَنْ يمثلهم ويتبعهم من السجانين، والحبل على الجرار. هذا ما توصل اليه أبو داود. آخ يا وطن،كم بك من اﻵلام واﻷوجاع، كم بك من …. . صوت أحدهم قطع عليه ما أراد إضافته، مما دفعه ليصغي اليه. بدأ الصوت بالإقتراب شيئا فشيئا. الآن بات أكثر وضوحا بعد أن خفتت قليلا أصوات الوجع واﻷنين اﻵتية من الغرف اﻷخرى، لعلهم ينتظرون كما أنتظر أن ينادى عليهم كي يتخلصوا من هذا الجب الذي ليس له قرار ولا أفق رحمة.
قال في سرّه، عليك يا أبو داود أن تركز أكثر وتصغي جيدا الى مصدر الصوت، فقد تكون أنت المعني بهذا النداء. إقترب صوت المنادي حتى بات على مشارف غرفته. الموقوف غيدان أبو الراس، أعادها المنادي مرة ثانية وربما ثالثة ورابعة، الموقوف غيدان أبو الراس. مع وصول النداء اﻷخير مسامعه أخذ أبو داود بالتلفت في كل الإتجاهات بما فيها العليا والسفلى، فليس من أحد اعتاد على مناداته بإسمه الصريح ومنذ زمان بعيد. إذن بات من المؤكد بأنه هو المعني، لذلك راح مهيئا نفسه وبسرعة، على أمل ملاقاة ذلك الزائر الغير مرحب به، والذي لا يعرف ماذا يريد منه أو الى أين سيمضي به.
فُتح الباب بقوة وبشكل أوحى بأن الهدف من وراء هذه الطريقة هي مباغة مَنْ هو بداخل الغرفة. إفترضت ان الرجل المناط به مهمة إقتيادي الى المجهول سوف يمدَّ برأسه من أعلى الباب أو النصف العلوي منه على أسوء تقدير، الاّ أن قصر قامته الفاضح كما سيتبين لاحقا، لم تسعف أبو داود على توجيه نظره وبردة فعل سريعةوطبيعية صوب المكان الصحيح من الباب، حتى ظنّ في بادئ اﻷمر أن لا أحد سيدخل الغرفة، وإن ما جرى لا يعدو أن يكون الاّ واحدة من تلك اﻷساليب الماكرة التي اعتادت على إتباعها هذه اﻷجهزة، بهدف إقلاق نزلائها، لذا لم يتأكد أبو داود من دخول (الزائر) فعلاً الاّ بعد أن إستبق هذا الكائن حضوره بمدِّ عينيه الجاحظتين، المليئتين بالفضول والإحتراز معا، وبمسكه قبضة الباب بيساره ودفعها الى الداخل وإتكائه باﻷخرى على جدار الغرفة. نادى عليَّ متسائلا وبإسمي الصريح: هل أنت غيدان أبو الراس والملقب بأبو داود، أجبته بنعم. لم يتكلم الرجل أكثر من ذلك، ملتزما كما يبدو بتلك التعليمات الصارمة، التي كان قد تلقاها بكل تأكيد من مسؤوله المباشر. هذا ما خرجت به تجارب السجناء والمعتقلين والمحتجزين، من الذين كانوا قد سبقوني في الوصول الى هذه اﻷمكنة.
قال لي رجل اﻷمن أو الشرطي أو سمّه ما شئت، أن أدور بجسدي ﻷكون بمواجهة الحائط وأتطلع بثبات الى الكوة الصغيرة ومن دون القيام بأية حركة، فما كان عليَّ الاّ الإستجابة. أخرج من جيبه دون أن أراه شيئا ما لم أتبينه وليقول لي إثبت في مكانك ولا تتحرك ولا ترمش عينيك بل أغمضها والاّ ( كانت نبرة التهديد واضحة على لغته). قطعة قماش سوداء كما تبينتها بعد أن رمشت من غير ان ينتبه إليَّ مَنْ قام بشدَّ عيني، ليحجب عني الرؤيا. بعد أن أمسك بيدي اليمنى خرجنا سوية من الغرفة، طالبا مني ان لا يصدر أي صوت فأجبته بالإيجاب. تعثَّرت قليلا في مشيتي في بادئ اﻷمر حتى إستقر بي الحال على نحو أفضل. في الممر او الطريق المجهول الذي سيأخذني اليه، بدأت أسمع بعض اﻷصوات، مثلا ما قاله أحدهم: لا حول ولا قوة الاّ بالله، الى جنان الخلد. قال آخر: أمانة عليك أن تسلم على فلان، ثم تبعه ثالثا: كُن رجلا ولا تلين، وقال رابع وقال خامس وقال…. . صحيح لم أنبس ببنت شفة، يقول أبو داود، غير اني تأكدت وبالأدلة القاطعة بأني وسط سجن كبير، يضم مختلف المكونات والتشكيلات المعارضة وبكل تلويناتها، ما عدا تلك القوى التي لها بعض العلاقات الخاصة والملتوية مع النظام.
طلب مني الرجل الذي يوجه مشيتي أن أحذر فهناك عتبة على باب الغرفة التي سندخلها( ربما تكون لفتة حانية من قبله لكني استبعدتها)، حاولت تجنبها غير أني عثرت حتى أوشكت على السقوط لولا المحاولة التي بذلتها ونجحت اثرها في أعادة توازني. الاصوات التي كنت أسمعها قبل قليل ومن السجناء أو من الموقوفين ممن هم على شاكلتي، قد خفتت حتى تلاشت مع دخولي المكان الجديد. بالرغم من قطعي بضعة أمتار داخل المكان الجديد، الاّ اني ولحد اﻵن لم أستطع تبينه بإستثاء مؤشر واحد فقط وهي رائحة العطن النفاذة، التي بدأت تخترق منخراي بسرعة فائقة، تنم عن إن أحدا ما لم تمس جلده قطرة ماء منذ ما يزيد على الشهر، لتتماهى مع رائحة عطر من النوع الردئ جدا، كدت بسببهما أن استفرغ ما في جعبتي على الرغم من خواء معدتي منذ البارحة وحتى اليوم.
أعاد عليَّ الرجل الذي رافقني طيلة المسافة التي قطعناها سوية أوامره بأن لا أتحرك ففعلت، ثم تبعها بفك وثاق عينيَّ، وإذا بي واقفا أمام رجل خمسيني العمر، بشاربين كثّين، يستطيلان نزولا على جانبي شفته العليا، كان قد صبغهما على عجل لتظهر من بينها كتلة واضحة من الشعر اﻷبيض، والتي كما يبدو لم يوفق في صبغها، ليظهر وكما أراد وخطط بالشكل الحسن. مقتعدا هذا الخمسيني كرسيا فخما بنّي اللون، دائري الحركة وهزازا في ذات الوقت. تنتصب أمامه طاولة صغيرة الأبعاد، فاقعة الإحمرار، موضوع عليها علبة دخان من النوع الفاخر وثلاثة نظارات، بألوان وموديلات مختلفة، سوف لن يستعمل أي منها طيلة فترة التحقيق التي أجراها معي، ربما تعمَّد الرجل أن تكون طاولته بهذا الحجم، ليتفاخر به أمام زائريه وهو يدور في كل الإتجاهات. ستائر الغرفة متعددة اﻷلوان، لا يجمعها جامع، وعلى اﻷرجح فقد تم اختيارها على وفق عقلية هذا الرجل الجالس أمامي. الشيء الوحيد الذي يميز هذه الغرفة هو إنارتها الساطعة، وهذا ما لم أجد له تفسيرا.
بمجرد أن تمكنت من الوقوف تماما وبثقة على رجليَّ وحرَّكت ناظري بمختلف الإتجاهات، لفت إنتباهي ان هناك ضيوفا في داخل الغرفة، هي ذات الوجوه التي رافقتي في مسيرة الحافلة التي قادتني عنوة الى هذا المكان، حيث اعتقدت بأنهم سيواجهون ذات المصير الذي أنتظره، فهم أيضا موضع سخط ورفض من السلطة الحاكمة ولكن!. كانوا يتهامسون فيما بينهم وأحيانا يتضاحكون ويرتشفون بمتعة من فناجين، أعدت خصيصا لشرب القهوة غير ان رائحتها إفتقرت لنكهة القهوة الحقيقية. تطلع بي أحدهم وبعيون وقحة، وأول ما تنبهت اليه وتأكدت منه، هو ان هذا الرجل ومن بصحبته، لم يكونوا من زبائن المقهى الواقع في سوق المعيدي، ولا هم كذلك من رواد محل بيع الطيور، بل لم يسبق لي أن رأيتهم. أشار لهم الرجل الجالس خلف كرسيه الدوار والهزاز بالمغادرة ففعلوا، ولم يبقَ في الغرفة الاّ نحن الأثنين.
أخرج من تحت الطاولة كيساصغيرا ثم قام بإفراغ محتوياته على الطاولة الصغيرة الموضوعة أمامه، صدرت بعض اﻷصوات بسبب تساقط وتدافع ما كان في داخل الكيس من محتويات، حاول الرجل ترتيبها لتبدو أكثر وضوحا. بادرني القول: هذه ساعتك اليدوية، وهذه هوياتك الشخصية، وهذه نقودك، وهذه مفاتيح بيتك وهذه ..وهذه.. كل هذا ليس مهما، اﻷهم هو أن تحدثني عن سر هذه الورقة وما مكتوب فيها. ( عند هذه اللحظة وقف الرجل وبكامل قامته، ماسكا بالورقة السميكة التي كان قد خطها لي الخطاط ناطق شكر ورفعها عاليا)، أجبته بإمكانك قراءتها يا أستاذ، ردَّ علي لا تقل أستاذ بل نادني بكلمة سيدي، فأنا سيدك وسيد الذين خلفوك… هل فهمت، أجبته نعم سيدي. أعاد طلبه بقراءتها.
قلت في سرّي ربما الرجل لا يحسن القراءة، وأضفت ربما سيتلعثم وهذا ما سيحصل فعلا، فمرة يمدُّ الحروف اﻷخيرة بإسترخاء تام ومرة يكتم عليها ومرة يرفع الحروف وينصببها ويجرها بفوضى عارمة، ليفقد متلقيها وضوحها وبالتالي فهمها. أمّا طريقته في الكلام فهي تدلل على جهله باللغة العربية النظيفة، وعن لكنته فهي هجينة، متشكلة من مجموعة لهجات، فلا يمكنك أن تصنفها وتضعها على أهالينا في مناطق الشمال أو الجنوب أو الوسط أو الغربية أو الشرقية أو الفرات اﻷوسط، من أين أتى بها، هل ولَّف فيما بينها ليخرج بهذه النتيجة، العصية على الفهم.
شرعت قراءتها وبصوت منخفض نسبيا لينهرني القول وليطلب مني برفع وتيرة صوتي ففعلت: النظرية رمادية اللون، جامدة يارفيقي، أمّا شجرة الحياة فهي دائمة الخضرة. بعد أن انتهيت من قراءتها ظل لبضع ثوان متواصلة يتطلع في وجهي بل قُلْ محدقا. لست أدري ما الذي أراده هذا المحقق بالضبط، الاّ اني وعلى ما اعتقد وقد أكون مخطئا في تقديري، بأنه لم يفهم على نحو صحيح مغزى ودلالة ما هو مكتوب على الورقة، فنظرات عينيه لا تدل على سرعة الإستيعاب ولا على التفاعل.
أعقب ذلك بأن طلب مني إعادة قراءتها، قلت لا بأس فربما الرجل بدأ يستجيب ويتفاعل مع ما هو مكتوب، ولكن تكرر الحال مع حدوث بعض التغيير، فمن كل ما ورد فيها لم يسترعِ إنتباهه منها سوى كلمة واحدة وهي كلمة رفيقي التي جاءت في منتصف الجملة، وُضعت داخل دائرة فاحمة اللون، كي يستطيع تمييزها وبالتالي عرضها عليَّ. لم أجد تفسيرا مقنعا لهذه الحركة التي قام بها الرجل سوى انه ربما يكون قد أخطأ في التعليمات الصادرة اليه من قبل مسؤوليه وإشتبك عليه اﻷمر وذهب في تحقيقه الى كلمة اخرى. أمَّا دلالة ما قرأت وما مغزاها ومَن يقف وراءها وفي أية مناسبة قيلت وما جدواها وغير ذلك من اﻷسئلة، كل تلك التساؤلات لم تثر اهتمامه، وبسبب من هذه الإشارة الصادرة منه فقد أعطتني إحساسا بالإطمئنان، وهذا ما تأكدت منه من خلال مجرى التحقيق، والذي تمحور وﻷكثر من نصف ساعة على جملة مواضيع واهية.
يقول أبو داود: ما جرى لاحقا لم يكن كما إفترضت، حيث أُحلت الى محكمة خاصة للبت في قضيتي