الزمن والتاريخ (نقد الاوهام الراديكالية و”المقدسة”)
كتاب جديد من تأليف البروفيسور ميثم الجنابي
عرض/ مازن لطيف
صدر كتاب (الزمن والتاريخ…في نقد الراديكالية والأوهام”المقدسة”) للبروفيسور ميثم الجنابي عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 198. وهو الكتاب الاول من سلسلة كتب صدرت عن الدار. ويحتوي هذا الكتاب الزمن والتاريخ (نقد الاوهام الراديكالية و”المقدسة”) على مقدمة، وستة ابواب وواحد وعشرين فصلا، يتناول فيها المؤلف مختلف جوانب واشكاليات الفكرة السياسية في العراق، وبالاخص ما له علاقة بنمطها الراديكالي. وقد اشار الجنابي في المقدمة الى ان مهمة هذا الكتاب تقوم في تفسير ما جرى ويجري في العراق والعالم العربي بأثر هيمنة الفكرة والتقاليد الراديكالية وأوهامها العادية و”المقدسة” بطريقة تتجاوز “الفكر السياسي” التقليدي. بمعنى أن مهمته المنهجية علمية تنويرية، ومهمته العملية تحرير الفكر من الخضوع للأحزاب السياسية، ومن توحيدهما العمل على إرساء أسس التفكير العلمي بوصفه منظومة متجانسة. واعتبر الجنابي هذه المهمة آنية ومستقبلية، انطلاقا من إن الأحكام السياسية عرضة للتغير والتبدل. وكذلك الحال بالنسبة “للكتب السياسية”. إذ لا شيء سريع التغير والتبدل أكثر من الأحكام السياسية ونتائجها، كما يقول الجنابي. من هنا وضعه لما دعاه بمهمة إرساء أسس التقاليد العلمية الرصينة والعميقة والواقعية في تناول كل ما جرى ويجري من أجل تأسيس المستقبل. وضمن هذا السياق نظرالى ما اعتبره تداخلا بين اشكاليات الواقع العراقي والعربي، رغم التمايز الفعلي بينهما فيما يتعلق بخصوصية هذه الإشكاليات، لكنها واحدة ضمن سياق إشكالية الزمن والتاريخ، التي تناولها بالبحث والنقد وتأسيس البدائل. وهي الصفة الملازمة لكل ما يكتبه الجنابي في نقد الواقع والفكر. بمعنى انه يجمع بين النقد وتأسيس البدائل.
ففي مجرى تحليله ونقده للواقع العراقي وتقاليد الهيمنة الراديكالية فيه، انطلق الجنابي من إن العراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى مسح شامل وتحليل مؤسساتي طويل ومديد من اجل أن يبلغ التفكير والفكر السياسي مستوى الوعي الذاتي وإدراك حقائق الأشياء كما هي. وهذه بدورها، من وجهة نظره، مهمة رجال العلم والأكاديميين ومؤسسات المعرفة والثقافة والمدرسة والتربية والتعليم والحياة المدنية وليست مهمة الأحزاب وأزلام السلطة ومختلف “السياسيين” الذين كشفت، بما في ذلك السنوات اللاحقة على سقوط الدكتاتورية الصدامية، عن طابعهم الهش. وهذا بدوره ليس الا بسبب هشاشة الزمن العراقي وانعدام تاريخ المؤسسات فيه، كما يقول الجنابي. وبالتالي، فان العراق بحاجة إلى إعادة تأسيس شاملة، بوصفها مهمة العراقيين أولا وقبل كل شيء. ولا يمكنها أن تكون شيئا آخرا غير تلقائية التطور الذاتي. ويستحيل تحقيق ذلك دون تأسيس وإرساء أسس ما يدعوه الجنابي بالمرجعيات الذاتية الكبرى، التي لا تصنعها قوى عابرة، ولا تؤسس لها قوى طائفية أو أقليات قومية لأنها جميعا قوى جزئية.
وقدّم لهذا الاستنتاج العام بمقدمة نظرية فلسفية عميقة تقول، بان تاريخ الأمم الكبرى هو دراما شنيعة الوصف ومأساة لا تتناهى إليها العبارة، ويعجز الفكر أحيانا عن تصوير خلجانها، لأنه عادة ما يتيه في تأمل الآفاق النائية لمحيطها. وهي المقارنة التي تقذفها الطبيعة في ترابط خلجانها وبحارها ومحيطها، بوصفها الوحدة المفككة للقرب والبعد عن الجسد. فالتاريخ يبرهن، كما يقول الجنابي، على أن اشد المراحل مرارة بالنسبة للعقل النقدي والضمير الحرّ هي تلك التي تختلط فيها دماء الأبرياء برياء الساسة ونزواتهم التي لا تكترث بشيء غير السلطة والجاه. ولا حول في هذه الحالة ولا قوة لغير الدجل والاستعداد للانغماس فيه بفعل تغلغل الرذيلة في الوعي والإرادة. وعادة ما تستفحل هذه الحالة زمن الانقلابات الحادة وغياب فكرة الدولة والقيم الاجتماعية في الفكرة السياسية. عندها تتكثف جميع القيم في بؤرة مستعدة لقبول مختلف أصناف الرذيلة والانغماس فيها. ويصبح الفعل والفاعل مجرد دوران في فلك التطويع المتفنن للغريزة. إذ لا عقل يحكم السلوك ولا حدود تحكم الإرادة! وحالما يصبح هذا النموذج الصيغة الأكثر انتشارا وسيادة في الوعي والممارسة السياسية، حينذاك تصبح رعشة الجسد المرتوية من لذة السفاح، وطعنة السكين، ومطالبة الدائن بدينه، ومواجهة النتائج المخيبة، وانتظار الأمل المفرح، أمورا متكافئة. وذلك لأن التباين في المشاعر والمواقف يفترض تكامل الرؤية وإدراك الأولويات. فإدراك وتحسس حمرة الخجل وصفرة الوجل يفترض تباين المشاعر تجاه النفس والعالم المحيط. لكنه تباين محكوم بتمايز العقل والوجدان وترابطهما في الإرادة الإنسانية، أي كل ما يهّذب ويشّذب القيم الأخلاقية ويرفعهما إلى مصاف المنظومة العملية القادرة على توجيه السلوك الفردي والاجتماعي صوب إدراك أولوية المصالح العامة والفعل بموجبها. وتشكل هذه الأخلاق من حيث الجوهر مضمون الأخلاق السياسية بوصفها أخلاق إدارة شئون المجتمع والدولة بالشكل الذي يضمن الحد الأدنى من تراكمهما بمعايير الدولة والمصالح القومية العليا.
ومن هذه المقدمة، توصل الجنابي الى حصيلة تقول، بانه حالما ننظر إلى واقع العراق الحالي وسلوك الخواص والعوام، أو النخب والجمهور، فإننا نقف أمام حالة تختفي معها اشد المفاهيم والقيم جلاء، كما لو أننا نقف أمام الفكرة التي بلورتها الفلسفة الإسلامية القائلة، بأن سبب خفاء الله هو لشدة ظهوره. وهي الحالة التي “يحققها” العراق ونخبه السياسية والمجتمع عموما، بحيث يصعب رؤية الانحطاط فيه لشدة انتشاره وظهوره في كل شيئ. وفي هذا تكمن فيما يبدو مرارة المرحلة وضرورتها في الوقت نفسه. بمعنى أن العراق والعراقيين ينبغي أن يمروا بطريق الآلام لكي يكون بإمكانهما التفريق بين دفئ النار وحريقها. وذلك لأن التحولات العاصفة التي تمس الأمم، كما يقول الجنابي، ما هي في الواقع سوى الوجه الظاهري لما يجري في أعماقها من تغيرات فعلية. وقد سبق وأن صور ابن عربي هذه الفكرة قبل قرون عديدة عندما قال، بأن ما يجري هو استعداد لما فينا، فما اثّر فينا غيرنا. وحالما ننقل هذه الفكرة من دهاليز الباطنية المتسامية إلى ميدان الحياة السياسية الخشنة، فإنها تبدو حكما اقرب إلى البديهة. لكننا نعرف جيدا، كما يستنتج الجنابي، بأن البديهة في ميدان السياسة ليست ذاتها في العلم والمنطق، مع أن السياسة لا تقل منطقية عن غيرها. إلا أن الذي يعطي للسياسي المغامر إمكانية تجاوز أمورها البديهية هو أن نتائجها ليست مباشرة بالضرورة. مع أنها تحتوي في كل فعل على نتائجه الملازمة. فالاستبداد مهما طال بسبب “منظومة” العنف والإكراه المقننة يؤدي بالضرورة إلى الانهيار والخراب.
ومع ذلك، يكشف التاريخ السياسي عن أن البديهيات في ميدان الحياة السياسية قد تكون أمور اقرب إلى الفرضية. وتشير هذه الحالة أما إلى واقع التخلف الشامل أو الانحطاط الشامل. وفي ظروف العراق الحالية، نعثر على تداخل وتضافر الاثنين. لكنها حالة لا تخص العراق فقط، كما يقول الجناابي، إلا أنها تتميز في ظل ظروف الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية بنزعة مخربة وهوجاء. وسببها الجوهري يقوم في ضعف وفقدان البنية التحتية للدولة الشرعية وتقاليدها السياسية، وانهيار المجتمع المدني وسيادة الرخوية في كل جزيئات وجوده الفعلي، وخراب الثقافة العامة. والحصيلة هو فقدان أو تشوه الفكرة الوطنية والقومية ومرجعيات تأسيسها الواقعية والعقلانية. وفي ظل هكذا ظروف يصعب تصور صيرورة النخب بشكل عام والسياسية بشكل خاص في غضون فترة قصيرة. إضافة لذلك أن تاريخ الأمم والدول يبرهن على أن البديهيات السياسية النظرية لا تغير شيئا من ذهنية ونفسية رجال السياسة المغامرين دون القضاء على مقدمات وشروط الانتهاك الممكن للبديهيات في السياسة العملية. ولعل المفارقة الكبرى بهذا الصدد كما يقول الجنابي، تقوم في أن تأمل تجربة العراق بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية تكشف عن أن بديهيات التاريخ السياسي العراقي ما زالت معضلة وإشكالية في وعي النخبة السياسية الحالية في العراق، كما نراه في استمرار زمن الخروج على قواعد المنطق السياسي وقواعد المصلحة الاجتماعية والوطنية. بمعنى أن النخب السياسية والأحزاب لم تتوصل بعد إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأن العمل من اجل المصالح الكبرى والعامة هو أيضا الضمانة الكبرى والأقوى للمصالح الخاصة والجزئية. أما عدم إدراك هذه البديهة والعمل بموجبها فهو مؤشر تام على انعدام الرؤية العقلية والعقلانية للفكرة السياسية. وأن مضمون السياسة عند الأحزاب والنخب هو العيش بمعايير الغريزة والجسد. بمعنى عدم استفادتها من تجارب التاريخ العراقي الحديث العامة منها والخاصة. وفي هذا يكمن كما يقول الجنابي سرّ الخراب الشامل للعراق. وعندما نتأمل تاريخ العراق العام والخاص في مجرى صيرورته الحديثة في القرن العشرين، فإننا نقف أمام انقلابين حادين فيه. الأول وهو سقوطه في بداية القرن العشرين تحت السيطرة البريطانية، والثاني سقوطه تحت السيطرة الأمريكية في بداية القرن الحادي والعشرين. ذلك يعني إننا نقف أمام تكرار السقوط كل مائة عام. بمعنى أن تاريخه بلا تاريخ، بل مجرد زمن، أي بلا تراكم ولا حكمة. مما يعكس واقع ما أطلق عليه الجنابي عبارة “غياب الفكرة العامة”، التي تجعل من القوى الجزئية أيا كان شكلها ومحتواها دودة تنخر أعماقه الباطنة بحيث تجعله صلب المظهر خاوي الباطن، كما نراها بجلاء على مثال وحالة سقوطه السريع والمريع تحت ضربات الغزو الأمريكي الأخير.
وإذا كان سقوطه الأول نتاجا طبيعيا لغياب الفكرة الوطنية المستقلة بسبب جزئية وجوده في السلطنة العثمانية، فإن سقوطه الأخير كان النتيجة المترتبة على فقدان الفكرة الوطنية العامة بسبب الطائفية السياسية، أي القوى الجزئية التي حولت العراق إلى جزء من مصالحها الضيقة. وبالتالي، لم يكن “تحريره” من السيطرة التركية ووقوعه تحت “الانتداب” البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم “تحريره” من السيطرة الصدامية ووقوعه تحت الاحتلال الأمريكي في بداية القرن الحادي والعشرين، سوى التكرار الفج للحقيقة القائلة، بأن ما حدث آنذاك وما يحدث الآن هو “استعداد لما فينا”، ومن ثم “فما اثّر فينا غيرنا”. وهو استعداد محكوم بغياب الفكرة الوطنية العامة، أي بغياب مرجعياته الذاتية الكبرى.
ومع ذلك لا يخامر الشك واليأس الفكرة السياسية التي يسعى الجنابي لتأسيسها وغرسها في الوعي الاجتماعي، والقائلة، بان الإحباط لا يحل مشكلة. وخاتمة الحياة الموت، بوصفه “الملجأ” الأبدي لانتظار الجميع. تماما كما أن وحدة الوجود والعدم هي الدورة الأبدية لنشوء الكائنات واندثارها. وفي حالة تطبيق هذه الحقيقة الجلية على الوعي السياسي العراقي، فإن سرّ هذه الدورة الخربة يقوم في وقوعه الدائم في أسر نفسية وذهنية الصراع وتقاليده الدموية، أي في دوامة فارغة. ومن هذه الحصيلة توصل الجنابي الى استنتاج عام يقول، بأن هذا كتاب (الزمن والتاريخ – نقد الاوهام الراديكالية و”المقدسة”) هو محاولة إضافية لما كتبه بهذا الصدد من اجل توسيع وتدقيق الرؤية الفلسفية البديلة للوعي السياسي الحالي، وكذلك من اجل تأسيس منهج للرؤية العلمية يهدف إلى تذليل ما دعوه الجنابي بنفسية وذهنية الخراب وتقاليدها الراديكالية السياسية (والحزبية).
وكشف الجنابي عن هذه الافكار العامة في جميع ابواب وفصول الكتاب. ففي (الباب الاول: مسرح الزمن الإمبراطوري ودراما التاريخ الفعلي للأمم) يتناول الجنابي بالتحليل والنقد ما اسماه بسيناريو “النظام العالمي الجديد” وإمبراطورية الفوضى). وقد حلل ماهية هذه الظاهرة الامريكية الحديثة ومقارنتها بالتاريخ القديم او فكرة الامبراطورية. وانطلق من أن التاريخ هو مسرح الإرادة والوعي. من هنا احتواءه بقدر واحد على مختلف نوازع العقل والوجدان، والتخطيط والجنون. ومن توليف هذه المكونات تتراكم تجارب الأمم وحكمة التاريخ الفعلي. الأمر الذي يجعل من التاريخ ميدانا يتمثل أفراح الفوز والنجاح، وكآبة الهزيمة والخسران، كما لو انه يمثل دراما الوجود التي تجعل من الدول والأمم مجرد لاعبين يمثلون أدوارهم على أخشاب الزمن، ما لم يجري التوصل إلى صنع مرجعياتهم الخاصة في التعامل مع النفس. فالإمبراطوريات القديمة، كما يقول الجنابي، عادة ما كانت تستند إلى فكرة كونية ومركز موّحد، بينما الحديثة لا يمكنها القيام بربط هذين المكونين في سلوكها العملي، بسبب أولوية وجوهرية الفكرة القومية فيها. من هنا تحول النزعة الإمبراطورية إلى سلوك كولونيالي بحت، لا قيمة ولا اثر لمشاركة “الأطراف” إلا بالقدر الذي يجعل منها مصدرا للاستغلال والربح، في ظل ثنائية عميقة الجذور أشبه ما تكون في أبعادها النفسية والثقافية بعلاقة مالكي العبيد بالعبيد. كما أن الإمبراطورية، كما يقول الجنابي، لا تنظر إلى المستقبل، بل إلى مستقبل مصالحها الخاصة فقط. بحيث يؤدي بها ذلك مع مرور الزمن إلى الخروج على منطق التوازن والاعتدال. مع ما يترتب عليه من شطط لا تصمد أمامه أكثر السيناريوهات تخطيطا وحبكة! وهذه ظاهرة ونتائجها، كما يقول الجنابي، هي فكرة خاطئة من حيث المنطق لكنها قابلة للتنفيذ بحكم القوة. من هنا عادة ما تصنع زوبعة العجاج العنيف الذي عادة ما يختنق فيه الكبار ويبقى الصغار يتلاعبون بذراته المدهشة والمثيرة لحب الاختباء فيه.
ووضع الجنابي هذه الحصيلة في صلب تحليله اللاحق لهذه الظاهرة في الفصل الثاني (أنشودة الإمبراطورية الخربة والسيناريو العراقي). اذ حلل فيه مقدمات ونتائج ما اسماه بظهور الاصوات الأربعة في أنشودة الأناشيد الجيوسياسية “للقرن الأمريكي” في موقفها من العراق. الصوت الأول ويدعو إلى الإطاحة بصدام وبناء نظام ديمقراطي فيه لإعادة بناء المنطقة؛ والصوت الثاني يدعو إلى القيام بفعل الدومينو في العالم العربي من خلال إحلال الديمقراطية في العراق، بمعنى تساقط الأنظمة فيه من خلال الهلع الذي يثيره احتلال العراق عبر “رسالة الكلمتين – أنت اللاحق!”؛ والصوت الثالث يدعو إلى أن تكون السيطرة على العراق من اجل جعل النفط سلطة، وليس طاقة. بمعنى استغلاله بطريقة قادرة على التحكم بآسيا وأوربا عبر وضع الأيدي الأمريكية على مفاتيح النفط؛ والصوت الرابع يتكلم عن “الرسالة الأمريكية” الكونية عبر تغيير العالم العربي والإسلامي بالقوة من اجل بناء الأنظمة الديمقراطية فيه. وقد صاغ وليم كريستول هذه الفكرة في عبارته القائلة، بأن الرسالة الأمريكية ومهمتها تبدأ في بغداد لكنها لا تتوقف فيها. وان الولايات المتحدة تقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، يبدو أنها لن تتوقف عند العراق. بل قد لا تقف عند حدود مستقبل الشرق الأوسط، وذلك لأن العصر القادم هو العصر الذي يرتبط بالدور الذي تنوي الولايات المتحدة لعبه في القرن الحادي والعشرين. وبحصيلة ذلك نقف،كما يقول الجنابي، أمام حالة عادية لسقوط الإمبراطورية ونزوعها غير العقلاني.
فالخرافة، كما يقول الجنابي، لا تصنع تاريخا. لكنها قادرة على تصنيع مختلف الأوهام والمآسي. وقد تكون التجربة العراقية، وبالأخص ما يتعلق منها بمقدمات الاحتلال الأمريكي ونتائجه الحالية والمستقبلية، الصيغة الأشد بشاعة لأحد نماذج السيناريوهات العملية “للقرن الأمريكي الجديد”. ومن ثم احد النماذج القبيحة للسيناريوهات السياسية الأمريكية تجاه العالم العربي. وهو أمر لا علاقة له بالنيات والغايات الأمريكية، بقدر ما انه ينتج من نفسية وذهنية الهيمنة الملازمة للنزوع الإمبراطوري في العصر الحديث. كما انه يعكس حالة الانحطاط التي تجعل من تاريخ الدولة والأمة مادة لتجارب الآخرين الخشنة. بينما السيناريو الجميل هو الذي يجري وضعه على أساس تأمل التجارب الإنسانية العميقة، على أن يجري تمثيله أولا وقبل كل شيء على مسارح الأمم الذاتية. حينذاك يمكن لصداها أن يفعل في عقول الأمم الأخرى وضمائرها. أما التجربة الأمريكية، فإنها عاجزة عن أن تكون قدوة بهذا الصدد.
وتنال في الباب الثاني (في نقد الراديكالية السياسية) مختلف جوانب هذه الظاهرة في ثلاثة فصول تهدف جميعها للرهنة على خطورة هذه الظاهرة واثرها التحخريبي الهائل بالنسبة للواقع والمستقبل. وكشف كيف ان زوال الراديكاليات الدنيوية قد ادت الى صعود السلفيات الإسلامية. فصعود السلفيات الإسلامية بمختلف نماذجها ومستوياتها هو الاستكمال الطبيعي لسقوط الراديكاليات الدنيوية. والسلفية الإسلامية هي التعبير الأيديولوجي والعملي عن الرغبة المسطحة ببلوغ اليقين الأبدي، تماما كما هو الحال بالنسبة للعقائد الراديكالية الدنيوية التي تجعل من تصوراتها المبتذلة ذروة الحق والحقيقة. وكما كانت الراديكالية الدنيوية تشكك بالماضي وترفضه ولا تؤمن إلا بمستقبلها التجريبي، فإن السلفية الإسلامية تكرر نفس المضمون بعد إسباغ مسحة اليقين المقدس عليه. من هنا التقاءهما في مواجهة الشكوك المحتملة، أيا كان شكلها ومضمونها ومستوياتها، بما في ذلك أكثرها عقلية وعقلانية. وتؤدي هذه الحالة بالضرورة إلى التقائهما في صراع دام لكي يندثرا كما لو أنها الموجة الأخيرة من طوفان الزمن الراديكالي. وتوصل في معرض تحليله ونقده لظاهرة صعود وهبوط الراديكالية السياسية الى استنتاج دقيق يقول، بان التاريخ لا يعرف النهاية إلا بمعنى اضمحلال مكوناته في الوعي والواقع، أي حالما ينتصر الزمن ويسود بوصفه التيار الساري في عبث الوجود وبعثرة التراكم الطبيعي لتجارب الأمم. وقد جّسد العراق هذه الحالة بصورة نموذجية في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين، التي انتهت بتآكله الداخلي واحتلاله الخارجي. كما تناول الظاهرة التي اطلق عليها الجنابي عبارة “الزمن الراديكالي”. وكتب بهذا الصدد ما يلي:”للزمن الراديكالي مظاهر عديدة ومتنوعة، لكن الجامع بينها هو طاقتها التدميرية وعنفوانها اللاعقلاني وفقدانها للرؤية العقلانية، أي للرؤية المستقبلية الحديثة. ويمكننا العثور على هذه الظاهر في كل انعكاساتها المشوهة لمرآة الواقع والحياة. الامر الذي يدفعها الى اتهام المرآة بعدم الصفاء مع ما يترتب عليه من حماقة كسرها. وفي هذه النتيجة تبرز الملامح الفعلية للزمن الراديكالي في الاوجه المشوهة لحالتها وممثليها”. واستوفى الجنابي في تحليله ونقده لهذه الظاهرة من خلال تناوله ثلاثة مظاهر كبرى لها وهي كل من الطائفية السياسية، وظاهرة الغلو “الجديد”، والحروب الدينية.
وطبق الجنابي هذا الاسلوب في تحليله ونقده لظاهرة الراديكالية بمختلف اشكالها ومستوياتها ومظاهرها وآثارها في ثلاثة أبواب متلاحقة هي كل من (الراديكالية السياسية وتبذير الرأسمال التاريخي) و(أوهام الزمن “المقدس” وأحلام المستقبل) و(نهاية الزمن السائب وبداية التاريخ الفعلي). وفي الباب الاخير، يتبع الجنابي أسلوبه العام فيما يكتب من ابحاث ودراسات وكتب سياسية، باختتامها بفكرة البدائل. بمعنى انه يتوج نقده للواقع ببدائل فكرية فلسفية وعملية. اذ يتوصل في نهاية بحوثه بهذا الصدد الى كثرة من الافكار الجوهرية فيما يخص العالم العربي بشكل والعراقي بشكل خاص. وقد تكون من بين اكثرها اثارة للعقل النقدي هو تأسيسه لفكرة “قراءة الماضي” بوصفها “قراءة مستقبلية”. إذ اعتبر ان من الضروري قراءة الماضي بالشكل الذي يجعلها جزء من قراءة المستقبل، لكي يكون بالإمكان التحرر من اجترار الزمن والارتقاء إلى مصاف التاريخ. فالعالم العربي ما زال يراوح في مكانة لمدة قرنين من الزمن. وأغلب ما فيه مستورد، بما في ذلك رموز الملابس العربية الأصيلة! وسبب كل ذلك يقوم في عدم إدراك الحقيقة البسيطة القائلة، بأن حقائق التاريخ الكبرى هي مرجعيات متسامية لا علاقة لها بالأحزاب والمذاهب والطوائف. وأن حيويتها الفعلية والحقيقية تقوم في استعدادها وقدرتها على تنظيم وعي الذات القومي (العربي). وبالتالي، فإن قراءة صراع الآراء والمواقف والمدارس القديمة ينبغي أن يتحول إلى جزء من قراءة الأفكار، أي إلى جزء من بناء العقل النقدي ومنظومة القيم الثقافية مثل الإقرار بالتعددية والتنوع والاختلاف بوصفها مرجعية فكرية روحية كبرى. بمعنى النظر إلى كل الاختلافات القديمة على أنها اجتهادا. والأهم من ذلك التحرر منها بوصفها حلولا ورؤية “عصرية”. وذلك لأن تجارب الماضي جزء من الماضي، أي جزء من الزمن المنصرم. والتاريخي فيها فقط يقوم في قدرتنا على توظيفها العقلاني بالشكل الذي يخدم تطوير الرؤية الإنسانية وفكرة الحرية والتقدم الاجتماعي. فتحويل القراءة المتفلسفة للتاريخ، على سبيلالمثال، إلى قراءة مغلوطة لتاريخ الفلسفة والأفكار، كما يقول الجنابي، يعادل المساهمة في إثارة مختلف أشكال اللاعقلانية والهمجية. فإذا كانت هذه القراءة عن دراية فهي ارتزاق وتخريب للعقل والضمير القومي، وإذا كانت عن غير دراية فهي ليست فكرا. بينما تفترض الدراية والفكر التأسيس الحي للتاريخ القومي بوصفه تاريخيا ثقافيا، أي نفيا لزمن الانحطاط، وفي الحالة المعنية لزمن الطائفية بمختلف أصنافها، والسياسية منها بشكل خاص. فالتاريخ الثقافي للأمم (والعربي أحدها) وحدة متناقضة لا تخلو من دموية. ومهمة المثقف بشكل عام ورجل الفكر بشكل خاص تقوم في تنشيط حركة الدماء في قلوب وشرايين الوعي القومي الثقافي وليس في سكبها على أسياف المعارك الهمجية!
اكتفي بهذا الحد، وأترك البقية كما يقال للقارئ من اجل إن يقرأ ما فيه بطريقته الخاصة. فهو ليس بحثا في التاريخ ولا في الفكر ولا في الفلسفة، بل هو فلسفة هذه الجوانب جميعا. بل هو كتاب فلسفي بامتياز. وقد تكون الفكرة السياسية ونقدها هي مجرد احد مظاهره. فالجوهري في مؤلفات الجنابي، وهذا واحد منها، يقوم في السعي الدءوب لـتأسيس الرؤية الفلسفية العقلانية بنزوعها الوطي والقومي الانساني. وهذه بدورها فلسفته الخاصة.