اخيرا سنحت لي الفرصة ان التقيه وادردش معه حول الزمن الجميل الذي قضيناه معا في جامعة موسكو ايام الدراسة فيها في ستينيات القرن العشرين , اي قبل حوالي (60) سنة مضت , اذ كنّا معا في العام الدراسي 1960/1961 فصاعدا , هو طالب عراقي شاب في كليّة الجيولوجيا بجامعة موسكو , وانا في كليّة الفيلولوجيا بنفس الجامعة , وكنّا نعيش في القسم الداخلي للطلبة معا , كل في الطابق المخصص لطلبة كليته , وغالبا ما كنّا نلتقي في المطعم الطلابي او في الممرات… انه صديقي القديم الدكتور ديكران يوسف كيفوركيان.
لقد تحدثنا كثيرا عن تلك الذكريات المشتركة في مرحلة ( الصبا والجمال ) , ولكن الاحاديث تمركزت طبعا و
قبل كل شئ عن زملائنا الذين رحلوا , وكان آخرهم المرحوم الدكتور عدنان عاكف ( انظر مقالتنا بعنوان – عراقيون مرّوا بموسكو / د. عدنان عاكف ). قلت له , اني ذكرت في تلك المقالة أسماء بعض الزملاء في كليّة الجيولوجيا , الذين درسوا معه , ومنهم الشهيد الدكتور حامد الشيباني , وأعرف انك كنت تعمل معه في شركة النفط الوطنية في بغداد آنذاك , فكيف حدث اعتقاله وهو في عمله بالشركة ؟ أجابني د . ديكران قائلا – نعم , هذا صحيح , كنّا نعمل معا , وقد برز المرحوم د. حامد في عمله , واصبح عضوا في لجنة تابعة لوزارة التخطيط مسؤولة عن خطط النفط والغاز في العراق , حيث كان يمثّل الشركة , وقد تعرّض الى ضغوط المنظمة الحزبية للبعث من اجل التسجيل لديهم , وكان يرفض بشدة هذه الضغوط , بل ويستهزأ بهم , وكانوا هم يعرفون طبعا انه يرتبط بالحزب الشيوعي , اذ ان نشاطه هناك كان شبه علني , فقد كان مسؤولا عن احدى اللجان المحلية , وكم حاولت – بحكم الصداقة القريبة معه – ان اثنيه عن الاستهزاء بهم , اذ انني كنت أخشى عليه من غدرهم وحقدهم نتيجة مواقفه الحادة ضدهم , لكن سبق السيف العذل كما يقولون . سألته – وكيف حدث هذا ؟ فقال – جاءت في احد الايام مجموعة كاملة واغلقت جميع ابواب الشركة , وقد علمنا جميعا بذلك , وجاء المرحوم د. حامد اليّ واعطاني مفتاح سيارته , وقال لي , اني أشعر بانهم سيعتقلوني , وطلب منيّ ان اعطي مفتاح سيارته الى أخيه في حالة اعتقاله , وهذا ما حدث بالضبط , اذ انهم أخبروه , انه مطلوب في وزارة التخطيط , ولكنه قال لهم , انه لا يوجد اليوم اجتماع اللجنة هناك , فأصرّوا على ذلك الامر وأجبروه على الذهاب معهم , وهكذا اضطر الى الخروج من الدائرة معهم ولم يعد ابدا , وكم حاول اهله ان يعرفوا مصيره , ولكن عبثا , ومنذ عام 1974 وطوال فترة حكم البعث لم يستطيعوا معرفة اي شئ عنه , وبعد سقوط النظام حاولوا ايضا , ولكنهم لم يحصلوا على اي نتيجة , وهكذا أقاموا له عندئذ مجلس الفاتحة ( اي بعد ثلاثين سنة من اعتقاله !) , وحضر فيها بعض الزملاء الذين كانوا في بغداد , ومنهم المرحوم د. عدنان عاكف . وهكذا خسر العراق واحدا من كبار الاختصائيين الجيولوجيين في مجال استكشاف النفط والغاز. وقد حدثني د. ديكران , كيف حصل الشهيد حامد على شهادة الماجستير في كلية الجيولوجيا بجامعة موسكو بجدارة , وكيف اقترح عليه مشرفه العلمي بضرورة الاستمرار بدراسته لاكمال بحثه العلمي وتطوير النتائج التي توصل اليها عند اعداد اطروحة الماجستير, وكيف استطاع المرحوم ان يبرر اقتراح مشرفه العلمي , وكيف انه كان ( رفعة راس) العراقيين في كليته آنذاك , وحصل على شهادة الدكتوراه فعلا , وكيف انه عاد رأسا الى العراق وتم تعينه في شركة النفط الوطنية , وكيف برز في عمله واختصاصه المهم للعراق …الخ . لقد ترك الشهيد د. حامد زوجته الشابة واهله وكان في ريعان شبابه . قلت لديكران , أليس من الضروري ان نسجل كل هذه الاحداث والوقائع في تاريخ الخريجين العراقيين من الجامعات الروسية , وان نتحدث بها وحولها للاجيال الجديدة ؟ قال – طبعا , رغم ان مصائب العراق اصبحت كثيرة جدا منذ اكثر من نصف قرن الاخير في مسيرة تاريخنا . واتفقنا معا , ان نسجل هذه الاحداث , ا لتي حدثت للشهيد د. حامد الشيباني وللشهيد د. عبد الرزاق مسلم وللشهيد الفنان د. شمس الدين فارس وبقية الزملاء من خريجي الجامعات الروسية , وانه من الضروري العمل معا من اجل تخليدهم , ولو في كتاب يضم كل هذه التفاصيل المهمة والرئيسية , التي حدثت لهم , والتي يمكن ان تتكرر مع الآخرين , وكم اتمنى ان تتبنى الجمعية العراقية لخريجي الجامعات الروسية في العراق هذه الفكرة وتحاول تنفيذها وتحقيقها .