18 نوفمبر، 2024 2:33 ص
Search
Close this search box.

فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي

فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي

لابد من الإقرار بداية بأن الوضع الذي نعيشه في العالم العربي والإسلامي يعتبر من أكثر الأوضاع قسوة على الصعيد العالمي إزاء قضايا التسامح والحريات المدنية والسياسية والقهر السياسي والنقص الفادح في المعرفة والتخلف المريع في ميدان العلوم والتكنولوجيا والموقف من قضايا تحرر المرأة ومعالجة مسألة الأقليات وحقوق الإنسان بشكل عام . ولعل هذه الأوضاع كانت سبباً رئيسياً في تفشي ظاهرة اللاتسامح خصوصاً – الأسباب الداخلية – الفكرية والثقافية وانعكاساتها اقتصادياً واجتماعياً ، إضافة إلى – الأسباب الخارجية – المتمثلة في محاولة فرض الاستتباع وإملاء الإرادة والهيمنة … قادت إلى ادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة واعتبار الآخر المختلف الخصم العدو محرماً أو مؤّثماً أو مجرماً.
إن الفكرة الأساسية للكتاب الذي نحن بصدد مراجعته تدور حول التسامح ، وقد توقف الكاتب عند فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي. ذلك – كما يشير – لأننا لانعرف في حياتنا اليومية والسياسية والثقافية أفكار التسامح التي اعتمدها فلاسفة وفقهاء إسلاميون ، وكانت حلقة مركزية في السياسة المحمدية وفي جوانب من الإسلام الراشدي ، أي مقدمات الثقافة والدولة الإسلامية الأولى.
فالكتاب يستهدف قراءة جزء من تاريخ الفكر العربي الإسلامي من خلال رؤية معاصرة . ويسعى للكشف عن الحقيقة وقيم العدل والجمال والحكمة والإنسانية ، فكتابة تاريخ الأفكار المعاصرة تعني البحث في شؤونها الثقافية المتيسرة.
يبتدأ الكاتب كتابه بالتركيز على مفهوم التسامح الذي أصبح على حد تعبيره مسألة جوهرية في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية ، بل حاجة ماسة وضرورة ملحة بعد أن شهدت حياتنا أنماطاً من التفرد والتسلط والاستئثار وإلغاء الآخر وإقصائه خصوصاً في ظل سيادة الآراء المسبقة وادعاء الافضليات والتشبث بالنص القطعي ، الحرفي ، اليقيني ، الاطلاقي ، الأيديولوجي ، بعيداً عن التعددية والنسبية والتنوعية التاريخية والاجتهادية ووجوه الحقيقة . فالحوار مع الآخر والتعايش معه والاعتراف به – كما يقول الكاتب – خطوات أولية للإقرار بمظلة التسامح وتشجيع التنوع في مجال الفكر والممارسة بما يساعد في تعميق الوعي خلال الواقع الراهن … ولايعتبر ما سواه انحرافاً وشذوذاً وخروجاً على ما هو سائد وحاكم ومستقر أو ساكن إلى درجة تجعل الآخر/المختلف وربما المريب يستحق الإدانة والتجريم والتحريم والتأثيم أحياناً …
ولعل التشويش إزاء مفهوم التسامح وسيادة الفكر الواحدي والسعي لعزل الآخر وعدم الاعتراف بحق الاختلاف … هي أبرز الأسباب التي دفعت الكاتب للكتابة في هذا الميدان ، بمقاربة الفكر العربي – الإسلامي من خلال الراهن والآتي والاستشراف المستقبلي.
كما أن الرغبة في الكتابة في هذا الحقل إنما نبعت أيضاً من نزوع الكاتب الوجداني والنفسي والبيئي بحكم تكوينه وتنشئته الأولى ، وبخاصة الروافد الروحية والمصادر الفكرية التي تأثر بها وهو يخطو خطواته الأولى في حياته السياسية والثقافية والفكرية.
إننا لانعرف التسامح في مابيننا لا على المستوى الجماعي ولا الفردي سواء من جانب جهات أو جماعات أو منظمات ثقافية وفكرية أو أحزاب سياسية أو علاقات فردية بل إننا أشد ما نكون خصومة بعضنا لبعض في التيار الواحد والحزب الواحد والمجموعة الواحدة والقومية الواحدة والدين الواحد والطائفة الواحدة أحياناً . وقد شهدنا تصفيات واحترابات وإقصاءاً ، ومحاولات محو آثار وتأثيرات لأسباب تتعلق بعدم التسامح وفرض الرأي وتهميش الآخر وتغييبه.
إن فكرة التفاهم والعقلانية مسألة ملحة وضرورية بما تمثله من نقاش وحوار لتصحيح الأخطاء بغية الوصول إلى ما هو صحيح وما هو خطأ أو ما هو حقيقي وما هو مزيف دون الإغراق في البحث عن من هو المخطئ ومن هو المصيب ؟ وإنما ينصب البحث حول إمكانية التعايش والتسامح دون أن يعني ذلك عدم تحديد الحقوق بل الاعتراف بها من خلال التمسك بها والدفاع عنها.
فالتسامح يعني القبول بالتعددية والاحترام للتنوع الثقافي ولأشكال التعبير عن الصفات الإنسانية ، ولهذا فإن التسامح يفترض المعرفة بالآخر والانفتاح عليه والاتصال به والحرية في التعامل والتعايش معه . كذلك يفترض الأمر بالاختلاف بين البشر بطباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم ، لهذا يقتضي قبول الحق في العيش بسلام معهم.
فمبدأ التسامح يتخذ منابع متعددة دينية وسياسية وقانونية وعرقية وأخلاقية واجتماعية وفكرية وفلسفية لكنه يواجه عقبات اللاتسامح بسبب التعصب الذي يتخذ أحياناً شكل حروب أو عدوان أو أعمال إبادة أو انتقام أو تحريم آراء أو تجريم وجهات نظر أو تكفير فكر بل إنه يمتد إلى الحياة الشخصية ليقف حائلاً أمام الشريك …
كان الإسلام ومايزال حيوياً وحياتياً ومعاصراً رغم محاولات بعض المفسرين والمؤولين تطويع أحكامه بطريقة مؤدلجة تماشياً مع القيم السائدة وخدمة للطبقات الحاكمة وبعض الأفكار المتعصبة والمنغلقة . وساهمت مثل تلك التنظيرات في كبح جماح العقل وتحويل بعض تعاليمه إلى مجرد تعاويذ أو أدعية بعيدة عن الحياة حيث قدمت لنا صورة أقرب إلى التحنيط والجمود والصنمية عبر وصفة جاهزة ومعلبة لاعلاقة لها بالراهن والواقع الحياتي في حين أن القدسية في الإسلام تضفي عليه نوعاً من الإيمانية التواصلية والرمزية … لذلك لن تضيف إلى الإسلام شيئاً إن كنت مُجلاً له أو متلقياً أو سارداً ومكرراً ، لكن الإضافة مهما كانت جزئية تتم من خلال النقد للظواهر السكونية الضارة والخاطئة خصوصاً ما علق بالإسلام من ترهات بعيدة عن روحه وتعاليمه السمحاء فضلاً عن يقينيات لاتقبل الجدل وترفض كل ما هو جديد باعتباره بدعة وضلالاً . فالأمر يقتضي معالجة عصرية وبروح انفتاحية ومن خلال التراكم والتدرج والمعرفة وذلك باستخدام نعمة العقل التي وهبها الله إلى بني البشر.
لقد استطاع الكاتب أن يتحدث عن المسيحية بما هي لاعنف في عدل كامل في بحثه النصوص وفي الكمال نفسه في استكشاف التاريخ المسيحي ، فعرض ما تراه هي نصاً إلهياً وكان حراً ككل مؤرخ من انتقاد الممارسات التاريخية التي كثيراً ما أتت كل عند كل القائلين بالتوحيد خارجة عن المشيئة الإلهية.
كما استطاع أن يبين جذور التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأفلح في هذا ، وكان عليه أن يطرح على نفسه سؤالاً عما يبدو في التنزيل عنفاً بحق المشركين وهذراً من أهل الكتاب ، فعالج ذلك بروح من يقرأ النص قراءة تاريخية ، أي متصلاً بوضع العلاقات التي قامت بين النبي وأوائل المسلمين من جهة وأهل مكة من جهة أخرى ، الذين كانوا لايزالون على الشرك . أجل إن أحداً لايستطيع أن يخرج من هذه الصعوبة بموقف دائم التفعيل بحق المشركين إلى الأبد لئلا يباد نصف البشرية الراهنة كما لاحظ الكاتب.
ويؤكد الكاتب أنه لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم ، لكن الشريعة الإسلامية ذهبت إلى ما يفيد معناه ، وقد جاء بما يقاربه أو يدل على معناه حين تمت الدعوة إلى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف وكلها من صفات التسامح مؤكدة حق الاختلاف بين البشر – والاختلاف آيات بينات – وإن كان لايلغي الائتلاف . وبالعودة إلى القرآن الكريم الذي يشكل المرجعية الأساسية للشريعة الإسلامية ، إضافة إلى السنة النبوية ، فإن متابعة بعض آيات القرآن تعطينا صورة مشرفة ومتقدمة لجهة التسامح الذي اعتمد عليه الإسلام … فقد جاء في الذكر الحكيم:- “واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” / “لاإكراه في الدين” / “فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر”/ “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
إن هذه الآيات/المنطلقات أعطت زاداً فكرياً ونظرياً لممارسات إسلامية متقدمة خصوصاً في عهد الرسول والخلفاء بشأن اعتماد التسامح ، وقد وردت تطبيقاته في العديد من الاتفاقيات والمواثيق والنصوص السياسية:- كحلف الفضول، دستور المدينة ، صلح الحديبية ، العهدة العمرية … وفي هذا الصدد قسم الكاتب الوثائق الإسلامية إزاء فكرة التسامح والمتضمنة بعض مبادئ حقوق الإنسان تاريخياً إلى ثلاث مراحل:
الأولى – مرحلة النبوة ، وهي مرحلة الدعوة والتبشير وفيما بعد التشريع والتدوين وما اتسمت به من تشريعات كثيرة وحديثة جاءت في أعقاب المجتمع البدوي وحثت على التآخي والتآزر والتواصي والرحمة والتآلف والتعارف والعفو وغيرها . وكانت السور والآيات التي تنزل على النبي بمثابة المنهاج الفكري والسياسي للمسلمين في مواجهة خصومهم وأعدائهم وسلاحاً بيدهم لنشر تعاليم دينهم ومبادئه.
الثانية – مرحلة الخلافة الراشدية ، وهي مرحلة التأسيس والبناء للدولة الإسلامية، وفيها يمكن رصد حركة تطور المجتمع الإسلامي الجديد الآخذ بالتوسع بعد غياب صاحب الرسالة الإسلامية . وقد اعتمدت تلك على تشريعات وقوانين وقرارات استلهمها الخلفاء الراشدون من القرآن الكريم والسيرة المحمدية واجتهدوا في حدود ذلك بما أملته الحياة من تطور وتغيير وتجديد خصوصاً الاختلاط بشعوب وأمم من خلال الفتوحات ودخول العديد من الأقوام في الإسلام.
الثالثة – مرحلة التقنين والتفصيل ، وهي المرحلة الممتدة منذ انتهاء الخلافة الراشدية مروراً بالدولة الأموية حتى تفكك الدولة العباسية ونهايتها.
الكتاب جاء في خمسة فصول تناول فيها:- الغرب وفكرة التسامح خصوصاً بعد أحداث 11/أيلول /2001 ، التي حدثت في الولايات المتحدة وتأثيراتها السلبية وانعكاساتها الخطيرة على حال حقوق الإنسان في العالم أجمع وبخاصة على العالمين العربي والإسلامي وبالتحديد بعد الحرب على أفغانستان والعراق . كما تناول جذر فكرة التسامح عبر فلسفة التنوير كأساس للمقارنة والاسترشاد حين نبحث الفكرة في الإسلام ومقابلها في حياتنا المعاصرة . وناقش مسألة التسامح في الفكر العربي – الإسلامي في أحد مباحثه ، حيث قدمه بدراسة أولية لمسألة اللاعنف والتسامح في المسيحية التي هي أقدم من الإسلام سعياً للبحث عن المشترك الإنساني وتمهيداً لدراسة التسامح في الإسلام . ودرس الكاتب الخطاب العربي – الإسلامي المعاصر بشأن التسامح ، حيث عرض آراء وأفكار بعض المصلحين العرب والمسلمين منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عبر قراءة الفكر الديني والليبرالي ثم وقفة للمراجعة من خلال أسئلة للنقد لبعض المراجع الأساسية.
إن نشر ثقافة التسامح وتعزيزها بحاجة إلى الانفتاح وإلى بيئة مناسبة تتسم بفضاء الحرية وحق التعبير وحق الاختلاف دون خوف من العقاب وإلى مجتمع مدني يكون شريكاً فاعلاً مع الدولة التي لابد لها أن تعمل وفقاً لسيادة القانون وبالمساواة بين المواطنين . ويتطلب ذلك إعادة النظر في الكثير من القوانين والأنظمة السائدة والمناهج التربوية والتعليمية وأسسها لتخليصها من النزعات الاستعلائية والعنصرية أحياناً وبخاصة إزاء الآخر وتأكيد الحق في المعارضة . وإذا بقينا بعيدين عن ذلك فإن التسامح يبقى بعيداً وغاية صعبة المنال ، وقد يؤدي إلى العنف والاحتراب.
إن نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف يتطلبان إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة ، وذلك كله مسؤولية جماعية وفردية في آن ، فليس هناك مجتمع بمعزل عن إغراء الإقصاء أو اللاتسامح إلاّ إذا ثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
ليس مبدأ التسامح لصيقاً بتراث أو مجتمع ، إنه يمتد عبر العصور ، فلا هو غربي ولا هو شرقي . ورغم أن الأديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ حتى باسم الدين أحياناً.
لقد تحدث القرآن الكريم عن حرية التدين في نحو كذا آية ، وهو ما يؤكد أن التسامح شكل الأساس في الإسلام الذي يؤكد حرية العقيدة لغير المسلمين وحرية التعبد وعدم الإكراه أو الإجبار والتزام احترام الآخر.
هل أعدنا النظر ؟ وهل أحكمنا العقل ؟ يتساءل الكاتب في خاتمة كتابه ويقول:- إذا كان دعاة التسامح قليلين أو هكذا توحي عوامل الكبح ، لأنه الطريق الأصعب خصوصاً في ظل سيادة نمط الواحدية والإطلاقية وادعاء امتلاك الحقيقة، لكن الأمر يتطلب أيضاً رياضة نفسية وروحية ، كمعيار أخلاقي ، مثلما يتطلب قوانين ومؤسسات ضامنة وراعية … وهكذا يمكننا أن نردد (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) كما قال الإمام علي ابن أبي طالب.

الكتاب:-
عبد الحسين شعبان – فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي ، الثقافة والدولة ، ط1 ، دار النهار ، بيروت ، 2005

[email protected]

أحدث المقالات