منذ زمن بعيد أدمنت القراءة , قرأت كل مايقع في يدي , ولدي فراسة في نوع الكاتب , فمن الكتاب يكتبون لاجل الشهرة , ومنهم لتحقيق الذات أو للتعويض عن احباط او انكسار داخلي , ومنهم وهم القليلون ممن تخنقهم الحقيقة ويشعرون بأن عليهم واجبا انسانيا ولابد من أظهاره , ومن هؤلاء الكتاب الشاعر والصحفي محمد غازي الاخرس , فبعد كتابه الرائع خريف المثقف العراقي والذي طرح فيه جملة أراء في المسكوت عنه حول حال الثقافة العراقية, يعود الاخرس ليقدم كتابا قل نظيره للقارئ العربي والعراقي بصورة خاصة الاوهو كتاب المكاريد. هذا الكتاب ما أن تقراءه حتى تصاب بلوثة من الوعي الممزوج ببكاء مر يخرج من مكانات خفية في الروح والقلب قبل أن يخرج من العيون . المكاريد وهم هؤلاء المساكين النازحين من أعماق الجنوب نحو بغداد الحلم . فيه من الشعبوية التي يستنكف الكثير من المتحذلقين من أدباء الحداثة والذين لاهم لهم سوى كتابة كتب لايقرأها أحد غيرهم وفي الغالب تذهب كحاجة مفيدة في عمل أكياس لعربات الكرزات . وفيه من الحقائق التي لانجرأ على قولها لان الكثير منا اعتاد على البطولات الوهمية , وأدعائنا المزيف بأننا ملائكة على الارض لكن الاقدار والنظام السابق هو الذي جعلنا نرتكب هذه الاخطاء . الاخرس يدافع عن أغلبيته الصامتة ويبين في هذا الكتاب أنهم ضحية لسوء فهم متعمد ومبرمج من قبل الحكومات التي حكمت العراق والتي لم تكلف عناء النظر لهؤلاء الناس الا كحطب للحروب , أو كعمالة بائسة , ومن خلال ذكرياته المؤسفة والتي تشابه ذكرياتنا , يفتح الاخرس النار على كل الاوغاد الذين أحتقروا وعذبوا المكاريد . بكيت وأنا أقرأ الكتاب أكثر من مرة لان هذا الكلام كان بود الكثير ان يقولوه ولكنهم لايجرؤون ربما لخوفهم ان يتهموا بالنزول للغة وعادات مجتمع المكاريد , تذكرت بكاء امي على أخوتي الراحلين وهي تقول ( يحفار كبره يامعدل حط المحامل صندل اخافن على لونه يتبدل ) كنت كلما أسمعها أدخل في نوبة بكاء هستيري لايتوقف الا بسكوتها . الاخرس في مجمل قوله يريد ان ينقذ المقتول كي يرتاح في قبره من البكاء المتواصل , ويمد حبل الانقاذ للقاتل كي يتوب وهي قمة الانسانية من كاتب خبر الحياة وعاش ويلات العراق , ويريد من الاخر أحترام وتقدير المكاريد لانهم أناس مثلما الاخر هذا اولا والثاني أنهم عراقيون وعرب أقحاح ولايمكن لاحد أن يزاود على وطنيتهم المغروسة بعمق الحضارة السومرية, في الكتاب حقائق مهمة عن سيطرة العشيرة على المجتمع ورصد أصلاحي لتصرفات كثيرة ونظم أجتماعية تعيد العشيرة أنتاجها جيلا بعد جيل , وهو بالطبع لايميل مع القول الذي طرحته البرجوازية البغدادية والذي أمن به حتى المكاريد بأتهامهم بأنهم ساهموا في تخريب بغداد وقيمها المدنية , الاخرس يريد من هؤلاء المكاريد الخروج من سلطة القبيلة الى حرية الفرد والايمان بالدولة كحاضنة للجميع. الاخرس أيها الصديق شكرا لك لانك جعلتني أفتخر بأحزاني , ومسقط رأسي دون أستحياء أو خجل , وشكرا لك لانك علمتنا ان نعض على جراحنا في درب أحزان العراق الطويل , انها عودة للذات واعادة بنائها وفق اطار وطني وانساني .