تأتي العملية السياسية بكل جديد وغريب على العراقيين، فكل الملاعب مفتوحة. لكن المؤسف جداً أن يستغل البعض مواقع الإتصال الجماهيري المفتوحة، وأهمها “كتابات” الغراء، ليشوه الحقيقة، لا تعبيراً عن آمال الجماهير العريضة البائسة، بل إستعداءاً لطرف على طرف. وقد كتب السيد عبد الكريم السعيدي مثلاً مقالاً يوم الجمعة الماضي يتناول فيه إحدى القضايا الساخنة اليوم، وهي ما يجري فعلاً في كلية الهندسة بجامعة البصرة، ويتخيل القاريء الحريص على مستقبل أبنائه خطورة ما أتى به السيد السعيدي أولاً، ولكنه حين يعيد القراءة ويتأمل قليلاً يجد أن الأمر لا يخلو من دسيسة على العلم والعلماء، وكأن السعيدي قد أدخل عصّه في شيء لا يخصه، بل هو لا يفهم فيه أصلاً، ولا يقدر نتائجه. ولكي لا نطيل، لنرى ماذا يقول الكاتب، وكيف يدس السم في العسل. والمسألة تبدأ بقلع الأشجار في الباحة الرئيسة لكلية الهندسة، حيث ينسب إلى السيد عميد الهندسة قوله إنها جاءت لمنع الطلاب العاشقين، ولا ندري هل صرح العميد بذلك إلى كاتب المقال، أم استخلصه من الأقوال التي تتداولها الألسن هنا وهناك؟ وهل يعقل أن عميداً يتفوه بمثل هذا الكلام حتى لوجاء من مدرسة في أقاصي الأرض ومجاهلها؟ هل عمداء جامعة البصرة بهذه التفاهة حتى في صياغة الأعذار لما يفعلون؟ أمر لا يصدقه ذو عقل. أما “أحد مسؤولي الكلية” ، ولا يخبرنا الكاتب من يكون هذا، هل هو مساعد العميد أم رئيس الغفراء مثلاً، فقد وصل به الأمر إلى “تهديد الطالبات تهديداً مبطناً،” الخ. هنا نفهم أن عدد الطالبات المهددات قد يفوق العشرة، أو حتى العشرين، فهل سمعتم برجل يهدد جمهرة من الطالبات؟ وهل يعتقد كاتب المقال أن أبناء عشائر هؤلاء الطالبات سذج حتى أنهم لا يفرقون بين الوشاية والإبتزاز؟ ثم لماذا هذا “التهديد المبطن”، كما يصف الكاتب؟ هذا ليس تهديداً مبطناً، بل صريح وواضح. على إثر ذلك، على إثر ذلك: قام طلاب كلية الهندسة بالتجمهر وإعلان العصيان !
لا أبداً، واضح تماماً أن أطرافاً أخرى قد ساهمت بشكل فاعل ومؤثر للإستفادة من الوضع الراهن وهو، ولا أدري إن كان كاتب المقال يعرفه أو لا، إن عميد كلية الهندسة هو المرشح الأول لرئاسة جامعة البصرة، بلا منافس. هذه حقيقة لا بد من أن يعرفها كل قراء “كتابات” العزيزة، وعلى ضوئها يقرأون ويحللون ما يجري في بلدهم، وأهمه ما يحصل في قلب العراق، وهو المسيرة العلمية.
صحيح إن مشاكل الشباب لا تحلها مشاكل البيئة، لكن مشاكل العراق الهندسية لا تحلها الإضرابات على البيئة، ويعرف أبناؤنا الأعزاء في كلية الهندسة العريقة أن كل نخيل أبي الخصيب قد قطع بالكامل، وتحولت أبو الخصيب من جنة وارفة على الأرض إلى قصور للذوات في العراق الجدد، وستصبح عاجلاً أم آجلاً أرضاً سبخة. هنا لا بد من أن يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: أين كان طلبتنا الأعزاء كل هذه الفترة حتى يطالبوا الآن فقط، ولم يبق على إنتهاء السنة الدراسية غير أسابيع قليلة، بتطبيق القرار القاضي بمنحهم مائة ألف دينار؟ معنى هذا إنها قد تكون الورقة الرابحة في قلب مجرى الإنتخابات القادمة، لا بالمطالبة المشروعة باتجاه القنوات الرسمية المعروفة، وهي كثيرة، ولكن بالإضراب، فهل هذا معقول؟
ونسأل أيضاً: ما هي الحقوق المدنية التي يطالب بها طلاب كلية الهندسة بخاصة غير دعوى الأشجار المقطوعة؟ والجواب غير واضح أصلاً، مبهم تماماً.
أما إذا جئنا إلى التعليقات المنشورة بذيل المقال، فندهش للمستوى المتدني فيها، إذ لا يعقل أن طالباً سيتخرج في كلية الهندسة هذا العام لا يعرف كتابة سطرين بالعربية الفصحى! أي مستوى علمي هذا، يا سيادة العميد؟ “شنو انته.. من وين.. هيج.. بس عفية.. وبافو.. راح نطيح حظك… “!!! وهكذا مما يعف عن سماعه طلبة العلم في كل زمان ومكان، لكننا نعجب كيف جاز “لكتابات” العزيزة نشر مثل هذا؟
لكن المدعو عبد الله يعقب نافياً نفياً قاطعاً حكاية قطع الاشجار، وإن إضرابات الطلبة جاءت بسبب السياسة التعسفية للسيد العميد. أما ما هي السياسة التعسفية فلا يذكر مثالاً لها، لكن المشكلة أنه يعود إلى حكاية قطع الاشجار فيؤكدها: تخريص في تخريص، ودعاوى غير مترابطة، غوغائية. وينادي بعودة ” الكيرف”. أما هذا الكيرف فليعلم كل العراقيين إنه الطامة الكبرى على مسيرة العلم، وهو ليس قانوناً أصلاً، ولا يلجأ له إلاّ في الضرورات القصوى، ومعناه زيادة في الدرجات للطلاب بحسب المتوسط العام. الكيرف ليس حلاً علمياً، ولا تربوياً أبداً.
أما الدسيسة الإنتخابية، الحزبية، فتأتي واضحة تماماً من صاحب التعليق الثالث الذي لا يحسن كتابة سطرين بالعربية الفصحى وفي موقع جماهيري معروف كموقع “كتابات”، فيقول إن مطالبهم بسيطة، وهي “تغيير العميد” !!! هكذا لا بد من تغيير العميد بكل بساطة. العميد، لا الغفير.
ربما يحق لي أن أعرض على السيد عميد كلية الهندسة إقتراحاً أنا مؤمن به، وهو أن يقوم بتعليق الدراسة في الكلية، وحتى إشعار آخر، وأنا واثق من أن خيوط المؤامرة الدنيئة على جامعة البصرة العتيدة ستنكشف يوماً بعد يوم، وحالما يعود المهيجون من غيهم، يجد طلبتنا وأبناؤنا الأعزاء أن عميدهم الماثل أمامهم أرحم بهم من ألف يد خفية تعمل في ظلام العملية السياسية.
أليس كذلك يا أولادنا الأعزاء. إنصرفوا إلى دروسكم. إلى العلم. وكونوا جداراً منيعاً، شباناً وشابات، ضد كل مندس وحاقد على بلدكم. أنتم نور عيوننا وأملنا الباقي في الحياة.
وفقكم الله لما فيه كل الخير.