ليسَ مِنَ السَهلِ حُكمُ العراقِ، وفقَ التّصميم الدّيمقراطي، الذي تَحدَّدَ للعراق كنظام سّياسيّ واعد. وسطَ منّطقة تتألقُ فيها، نُظُم حُكم العوائل الوراثيّة، أو النُظُم الدّكتاتورية. وممّا يُزيدُ في تعقيدِ حُكم العراقِ صُعوبةً، تصدير البُعد الطّائفي من خارج العراق إلى داخله. أو تنشيطه في الداخل، من أجل خدمة أغراض سّياسيّة. والأصعبُ مِنْ هذا وذاك، أنّ هناكَ كمّاً مِنَ الجماهير، تَستجيبُ لنداءآت دُعاة الطائفيّة، وهُمْ على أصناف، (سياسيون، رجال دين، إعلاميون، متحدثون في وسائل الإعلام… الخ). هؤلاء الاشخاص أمّا أنْ تُغذيهم إرادات دوليّة، أو أنّ مَيلَهم الفِطري والسّلوكي، يمتاز بالتعصّب ضدّ الآخر، والخوّف منه. فاختلطت توجهات الخارج مع توجهات الداخل. ورُبَّ سائلٍ يسأل: ما مصلحة الدّول الإقليميّة، من استخدام الجانب المذهبي، وإدخاله ضِمن تكتيكها السّياسي، للتَدخُل في شؤون العراق، وإقلاق استقراره؟.
حَسبَ تَصوّري، لا يُمكن فصّل التّاريخ عن السّياسة. ومجتمعاتِنا العربيّة خصوصاً، والإسلاميّة عموماً. مرّت بتجارب حُكمٍ استمرت عشرات القرون، تستمدّ ديمومة بقائها في الحُكم، مِن قاعدة (التناحر والإحتراب) بيّن مكونات الشّعب الواحد. أو بيّن أبناء هذا الشّعب وشعب آخر، عملاً بقاعدة (فرّق تَسُدّ). ولَمْ تعمل تلك السُلطات، بقاعدة (التّحاور مع الآخر، والاقتراب منه). وقاعدة الحُكم تلك، أسّست على مرّ العصور مجتمعات، يَعيشُ التّناحر الطائفي أو القومي في داخل كيانها، فترسّخ فيها التناحر بصورة أشبه ما تكون بالعقيدة، هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني، يشكّلُ تصارِعُ الدّولِ وتنافُسِها لتحقيقِ مَصَالِحِها، أمراً شائعاً في كلّ دول العالم. وكلمّا كانَتْ الدّولةُ أكثرَ رقياً وتقدماً، كانَتْ أكثرَ شِدّةً في الإلتزام بمبداً الصِّراع والتّنافُس، والعكس صحيح. والدّولُ التي تُكافح مِن أجلِ تحقيقِ مصالِحِها، تنقسمُ في علاقاتها الدّوليّة إلى الأقسام التّالية:
1. دولٌ تريدُ تحقيقَ مصالِحَها، لكنْ بشكلٍ ودّيّ باستخدام (الدبلوماسية النّاعمة).
2. دولٌ تريدُ تحقيقَ مصالحها بأي طريق كان، وهذه سِياسة الدّول العدائيّة الاستعماريّة.
3. دولٌ تريدُ تحقيقَ مصالحها عن طريق الاستقواء، بدوّلة أو دول أخرى، أقوى منها. وتلك سِياسة التبعيّة للأقوى.
4. دولٌ تريدُ تحقيقَ مصالحها، لكنْ بالتحالف مع دول أخرى (سياسة تبادل المنافع) .
وبعدَ الاحتلال الأمريكي للعراق، ولِدَ في العالم عراقٌ جديد، يختلفُ في بُنيته السّياسية كليّاً عن العراق ما قبل الاحتلال. العراقُ الجديد يعتمدُ في بنائه على شكلِ هرمٍ مُعتدل، على عكس صورة العراق ما قبل الاحتلال، الذي كان بناؤهُ على شكلِ هرمٍ مقلوب، ويمسكُ الهرمَ شخصٌ واحدٌ فقط. هذا التغيّير أحدثَ خللاً في معادلة المصالح الدوليّة، التي كانتْ متوازنَة لحدّ ما، في زمن النّظام البائد. بالرغم من حالة العِدَاء الموجودة بيّن النّظام البائد، وكلّ من إيران ومصر والسعوديّة، والكويت وأمريكا وسوريا (قبل الانفراج مع سوريا بسبب التعامل التجاري، بعد تطبيق برنامج الأمم المتّحدة/النفط مقابل الغذاء).
كما أنّ الأنظمةَ المعادية للنظام البائد، كانتْ مرتاحةً في ظلِّ وجودِ نظامٍ دكتاتوري، يَحكمُ العراقَ لكنّه ضَعيف، بالقدر الذي لا يُشَكّلُ أيّ خطر، لا على الأنظمة العربيّة، ولا على أمريكا ولا على إيران أيضاً. وعند احتلال العراق، تغيّرت مُعادلة توازن القوى، فأصبح استقرار العراق مرهوناً بعدّة عوامل، منها عوامل خارجيّة، وأخرى عوامل داخليّة.
أولاً العوامل الخارجية:
1. أصبحتْ أمريكا بَعد احتلال العراق، قوّة ضاغطة بصور مباشرة على إيران، وهما العدوان التاريخيّان بعضهما لبعض.
2. أدركت إيران مُنذُ وقتٍ مُبَكّر، أنّ أمريكا إذا ما نجحت في احتواء افغانستان والعراق معاً، فإنّ وجودها سيكون في خطر شديد. مع أنّ إيران نجحت، بإيجاد دوّرٍ لها داخلَ حلف استراتيجي، ولكنْ بواجهة دبلوماسيّة يضم كلّ مِن: (روسيا والصين وكوريا الشمالية). وهذا الحِلْف يخشى مِن السَيطرة الكليّة لأمريكا، كقوّة عسكريّة واقتصاديّة، على منطقة الشَرق الأقصى، ومنطقة المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا.
3. الدّول الخليجيّة وعلى رأسها السعوديّة، تخشى مِن النفوذ الإيراني في المنطقة. لسببٍ مهم، يمكن اختصارة بما يلي: تعتقد السعوديّة ودول الخليج ودول عربيّة أخرى، أنّ إيران تحمل آيديولوجيا دينيّة ثوريّة. تخشى هذه الدّول، مِن وصولها إلى داخل مجتمعاتها. لذا يجبُ أنْ لا يَمُرّ العراق، بحالةٍ من الاستقرار تؤمّن لإيران، وضعاً تستطيع من خلاله، أنْ تُمَدِّدَ نفوذها باتجاه البحر المتوسط.
4. الشركات الأمريكيّة التي يُطلقُ عليها مصطلح، الشركات (العابرة للقوميات)، مثل (هالبيرتون، بكتل، أوكسن موبيل، تشيفرون، بلاك ووتر وغيرها). وَجَدَتْ مِن حالة الصِّراع في العراق، سُوقاً يحققُ مصالِحَها، على مستوييّن:
أ. أنْ تكونَ دُول منطقة الخليج سُوقاً، لشراء الأسلحة الخاصة بمكافحة الإرهاب، التي تُنتجها أو تتاجر بها بعض تلك الشركات.
ب. دَفْع هذه الدّول، لاستيراد الأسلحة لمؤسَساتِها العكسريّة، بنوعيّها الهجوميّة والدّفاعيّة. وكذلك التَحديث المُستمِر، للأسلحة الدّاخلة في الخدمة لدى هذه الدّول. إضافة إلى تسويق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، الدّاعمة للأمن الداخلي والأمن القومي لتلك الدّول.
5. كمَا أنَّ للشركات آنفة الذّكر، استثمارات في مجال صناعة النّفط وتأمين المعلومات الاستخباراتيّة. كما لا يفوتنا دور تركيا التي تلعب مع الجميع، مِنْ أجل الحصول على أكبر كميّة مِن المكاسب. خصوصاً أنَّ نفطَ إقليم كردستان، يؤمّنُ لها مصدراً قريباً، يَسدُّ جزءاً مِن احتياجها في الوقت الحاضر. وفي المستقبل ستكونُ حِصّتُها أكبر بالتأكيد، وبسعرٍ رخيصٍ أيضاً، لقُرب مصدره مِن الأراضي التركيّة.
6. هناكَ طرفٌ مستفيد من حالة الصِّراع في العراق والمنطقة، ويتمنى أنْ يدوم هذا الصِّراع أبدَ الدّهر. إسرائيل، الكيان الذي يَرى بقاءه بأبهى صوره، عندما يكون جميع المسلمين والعرب، في حالةٍ بائسةٍ مِن الخواء والضّعف والانقسام، جرّاء الصّراعات في المنطقة.
7. وكذلك الحال بالنسبة إلى دولة قَطَر، التي تمتلكُ كميات هائلة من الغاز الطبيعي، فإنّها تحلم بايصالِ بضاعَتِها، إلى منطقةِ البحرِ المتوسط، لتصديره إلى أوربا. وقسم منه يذهب إلى إسرائيل باسعارٍ مدعومة. والعراق يمتلك كميات هائلة مِن النّفط والغاز، بإمكانه أنْ يُنافس انتاج قَطَر.
أمّا العوامل الدّاخلية فهي:
1. غيابُ الوعي الجماهيري وهو نتيجة طبيعية، لحالة الفَقر والقَهر، التي عاشها الشّعب العراقي، إبّان فترة الحِصار الإقتصادي. وكذلك غياب وجود وتأثير الرأي العامّ.
2. في مرحلة العراق الدّيمقراطي دَفعتْ موجةُ التغيير، كمّاً كبيراً مِن الفاسدين والمتملقين، وأصحاب تقديس المصلحة الخاصّة، إلى مواقع المسؤوليّة، وإلى بعض المفاصل المهمّة في الدّولة. كما أنَّ شِيوع حالةِ استباحةِ المَالِ العامّ، مِن قبل المسؤولين المشبوهين، أمرٌ أدّى إلى إضعاف الرّوح الوطنيّة، عندَ الكثير مِن العراقيين، كردّة فعل من اليأس، أمام هذه الظّاهرة المُستشرية.
3. أخطاءُ العمليّة السّياسيّة كمنظومَةِ حُكمٍ، تحتوي على دُستورٍ لا يحظى بالقبول مِن بعض الجّهات، مُقابل تَمسك جهات أخرى بسريان موادّه. إضافة إلى أجهزة حكوميّة قضائيّة وتشريعيّة وتنفيذيّة، يستشري الفساد في بعض مفاصلها. كما أنّ المحاصصات الطائفية والحزبية تَشِلُّ مِن انشطتها.
4. عدم وجود موقف سياسي، يُجمِع عليه جميع السّياسيّين، وإنّما توجد دائماً، صراعات سياسيّة تُثار لأتفه الأسباب. الأمر الذي يعكسُ حالةَ عدمِ تناسُق العمل السّياسي، بيّن الأطراف السّياسيّة. وبالنّتيجة تحصل حالة فقدان ثقةِ المواطن بالدّولة.
5. تَوافُق القوى السّياسيّة على اختراقِ القانون، مِن أجل تمرير قضيّة معيّنة، يتوافق عليها الجميع، بكلّ سهولة ومرونة وبأقصر فترة زمنيّة.
هذه المعطيات تُقدّم لنا، إجابةً على السُؤال التّالي: لماذا لا يستقر العراق؟.
نعمْ لا يستقر العراق، مَالمْ يتمّ تَسويَة المواقف، المتعلّقة بالدول المحيطة بالعراق. عن طريق دور فاعل لدبلوماسيّةٍ عراقيّةٍ نَشِطةٍ، تَمتازُ بالحِنكة السّياسيّة، والكفاءَة العاليّة في ثقافَة الحِوار مع الآخر. واقناع الطّرف المُقابل، بضَرورة الإلتزام بالمواثيق الدّولية وحُسْنِ الجِوار. وبعكس ذلك اللجوء إلى المنظمات الدّوليّة، وتحكيم القانون الدّولي لحلّ الأزمات. هذا على مستوى معالجة الأزمات مع الخارج.
أمّا على مستوى معالجة الأزمات الداخليّة، فالأمر يتعلّقُ بإصلاح قوانين وإداراتِ مؤسّسات الدوّلة، بعمليّة أشبه ما تكونُ بالـ(بيريسترويكا/ أي: اعادة البناء). فالدّولة تحتاجُ إلى عمليّةِ إعادَةِ بناءٍ شاملةٍ، ولكنْ بطريقةٍ صحيحةٍ، لا كَمَا بناها الأمريكان على عَجَلْ. ويأتي قَولُ السيّد المالكي (في برنامج مقابلة خاصّة، التي أجرتها معه الفضائيّة العراقيّة، في الأسبوع الثاني من شهر نيسان2013): بأنّهُ يمتلكُ ملفات ضدّ ثلاثة عشر نائباً، صدرتْ بحقّهم مذكراتُ إعتقالٍ قضائيّة بتهمٍ ارهابيّة. أنْ تكونَ هي نُقطةُ الانطلاق للـ(بيريستروكيا العراقيّة). لكنْ الاستثناء الذي استدرك به السيّد المالكي حديثه السابق، وقال(بالمضمون): (أنَّ الدُنيا ستَنقلِبُ لو كشفتُ ماعندي مِن ملفات، ولكنْ حرصي على بقاء العمليّة السّياسيّة، كما أنّ الإئتلاف الوطني أوقفني عن ذلك أيضاً). يتنافى مع مبدأ الإصلاح (البيريسترويكي المرتقب) جملة وتفصيلاً.
وأقولُ للسيّد المالكي: إبدأ بعمليّة الإصلاح، فبدون ذلك سَيبقى العراقُ، يُقدِّم مزيداً من الدِّماء البريئةِ بدون أيّ مبرر. ولا قيمة للخوّف مِن تفكُكِ عمليّةٍ سِّياسيةٍ سَقيمةٍ، هي أصلاً بحاجةٍ إلى تفكيكٍ وإعادَةِ بناء.
[email protected]