يختلف المصطلح بين (كورد) العائدة إلى (كور) السومرية التي تعني الجبل ، وهو مايفضّله الكرد دليلاً على عمق حضورهم وتاريخية وجودهم ، وبين (كرد) التي ينسبها بعض الباحثين إلى كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن ، وبالتالي فبعض قبائل الكرد ربما تعود بأنسابها إلى أصول عربية ، فيما ينسبهم آخرون إلى الميديين الذين ظهروا في قرون ماقبل الميلاد وانشأوا من ثم دولة لم تعمر طويلاً ، وربما جاء هذا التفسير من بعض مفكري الحركة الكردية تحديداً، لإيجاد حافز تاريخي يسهم في السعي نحو إعادة إحياء ماطمره التاريخ القديم .
أيّاّ تكن أسباب التسمية ومقدار صدقيتها ، فالثابت انهم أقوام مختلفة جمعتهم هجرات متتالية استمرت عبر قرون طويلة ، فتمازجت بخصائصها وتقاليدها تبعاً لخصائص المناطق الجبلية الوعرة التي استقروا فيها أو استوطنوها ، لذا لم يستطع احد من المؤرخين إثبات انحدارهم من أرومة واحدة يمكن أن تشكلّ جذراً لتسمية قومية ، ومما زاد في تشوش الصورة عند الباحثين ، هو ندرة محطات التاريخ التي تتحدث عن الكرد كأمة سياسية قائمة ، رغم إن شخصيات كردية لعبت دوراً مهماً في التاريخ الإسلامي كصلاح الدين الأيوبي،وإن لم يُقدم باعتباره كردياً ، بل قائداً بارزاً ضمن إطار الدولة الإسلامية .
كما ان غياب لغة مكتوبة يمكن من خلالها كشف النقاط المجهولة في سيرورة الكرد السياسية أو الاجتماعية ، ترك ثغرات كبيرة أفسحت في المجال أمام اجتهادات وتفسيرات لاحصر لها ، وعلى ذلك لم يُثبت ان هناك أواصر قومية (عرقية) تجمع بين سكّان المناطق الموزعة بين العراق وتركيا وإيران وسوريا ، ولا تاريخ مشترك أو علائق اقتصادية خاصة أو غيرها من العوامل التي ترافق في العادة تعريف القومية في العصر الحديث ،إلا ان ذلك لايمنع من قيام امّة كردية إذا توفرت الإرادة السياسية والأهداف المشتركة بين السكّان هناك ، خاصة مع توافر البيئة الجغرافية المتقاربة ومايمكن أن تشكّله من مشتركات .
لكن العوائق الرئيسة التي تواجه قيام امّة الكرد ، يكمن أساساً في استثنائية قيامها وعسر ولادتها ، حيث يتطلب ذلك تفكك أربع دول إقليمية كبرى إثنتان منها على الأقل – تركيا وإيران – تشكلت فيهما امّة تعتبر الكرد جزءاً لايتجزء منها وبالتالي لاتظهر أدنى استعداد للتخلي عن ارض كانت على الدوام من أملاكها ، لصالح حركات ترى فيها خطراً يهدد وحدتها كدولة وامّة .
أما العراق ورغم ان الأغلبية الأعظم من شعبه ، تعتبر نفسها منتمية إلى أمّة تاريخية كبرى ( العرب) على علاّت ذلك الإنتماء وإشكالاته ، إلا أن التاريخ يشير إلى ان العراق بحدوده القائمة ، هو ذاته ماعرف بوادي الرافدين منذ آلاف السنين واستمر يحكم من قبل دولة مركزية واحدة أو يدار في ولايات ارتبطت كذلك بوحدة سياسية مركزية ، وبالتالي فهي المرّة الأولى التي يمكن ان يفقد العراق ليس تسميته التاريخية وحسب، بل وحدته الجغرافية والسياسية كذلك ، حين يبتر منه جزءاً رئيساً في عملية مؤلمة .
في سوريا يختلف الأمر بعض الشيء فقد اجتمعت ثلاثة كيانات كانت قائمة حتى الثلث الأول من القرن العشرين (علوية في الشمال الغربي وعربية سنية في الوسط ودرزية في الجنوب ) لتشكلّ معاً سورية الحديثة بمساعدة وتخطيط فرنسيين ، وهذا ماقد يسهل في إعادة سوريا إلى مكوناتها الأولى قياساً بالدول الثلاث المذكورة أعلاه .
ويبدو ان الحركة الكردية في العراق التي حققت نسبة عالية في سعيها نحو قيام الأمةّ وبناء الدولة الكرديتين ،أدركت الصعوبة الكامنة في توسيع الدولة الناشئة لتحوي الكرد في إيران وتركيا ، اما إقامة كيان كردي في العراق وحده ، فسيجعله مطوقاً ومعرضاً للأخطار كما انه يفتقد إلى منافذ حيوية للاتصال بالعالم ،لذا قد يتركز السعي بداية إلى إعلان الدولة بعد ضمّ المناطق الكردية في سوريا ، مايعني إضافة مجموعة سكانية تقدر بمليونين ونصف المليون كردي سوري إلى حوالي ستة ملايين كردي عراقي ، مايجعل الدولة العتيدة أكثر قابلية للحياة انتظاراً لأوضاع مناسبة يمكن فيها التمدد نحو بقية الأجزاء في تركيا وإيران .
ربما كان ذلك حلماً طموحاً بالنسبة للكرد ، لكن قيام دولة كردية على هذه الشاكلة ، لن يكون ممكناً إلا بقيام أمم أخرى على أنقاض الدول القائمة ، فإذا كان اجتماع الكرد على مشروع سياسي وتقارب جغرافي من دون عمق تاريخي أوانتماء قومي أو ماشابه ، فأن هناك مجموعات بشرية تمتلك من عوامل التقارب أكثر مما يمتلكه الكرد ، والمرشح من ذلك قيام ثلاث (أمم ) أخرى بدولها ومقوماتها السياسية وهي على التوالي : عربية شيعية تمتد من بغداد شمالاً حتى مضيق هرمز جنوباً مروراً بعربستان والكويت والبحرين وشرق السعودية ، وهي (امّة) تجتمع على روابط قومية وقبلية وطائفية ولغوية وثقافية إضافة إلى التقارب الجغرافي ، كما انها تحوي كافة المقومات اللازمة للدولة (ثروات طبيعية متنوعة – انهار – منافذ بحرية – سهول خصبة – مساحات شاسعة – سكّان يزيدون عن ثلاثين مليون نسمة ) لكن ذلك يتطلب انهيار خمس دول وكيانات قائمة (العراق – إيران – الكويت – السعودية – البحرين ) .
(الأمة) الثانية عربية سنيّة تتشكل من مقومات تتشابه أوضاعها مع (العربية الشيعية) في عواملها المكونة ، وقد تمتد من الموصل وحلب شمالاً ،إلى جدة والرياض جنوباً مروراً بدمشق وعمان والانبار وتكريت وسواها ، وقيامها يتطلب كذلك انهيار أربع دول هي : العراق – الأردن – سوريا – السعودية .
اما (الأمة ) الثالثة (العلوية ) فهي الوحيدة التي لا يتطلب قيامها سوى انهيار دولتين فقط – تركيا وسوريا – وبالتالي قد تبدو نظرياً أقلّ صعوبة من (الأمم ) الأخرى .
الملاحظ أن (الأمتين العربيتين) – في حال نشوئهما – ينتميان إلى أرومة قومية لاخلاف كبيرعليها، إضافة إلى لغة عريقة قدست بنزول القرآن ودونت فيها علوم وفلسفات وثقافات انتشرت بين شعوب وأمم شتى ، كما انها تعتبر ثالث لغة من حيث عدد المتكلمين بها وإحدى اللغات الخمس المعتمدة في الأمم المتحدة إلى جانب الانجليزية والفرنسية والاسبانية والروسية ، لكن (الأمتين ) المذكورتين ، لايحمل أيّ منها مشاريع من هذا النوع – أقله في المنظور- وبالتالي لايطمح إلى إنشاء (أمتّه) الخاصة كما يفعل الكرد ، لذا غابت من بينها ،الحركات أو الأحزاب السياسية التي تتبنى طروحات كهذه ،عكس الحركات والأحزاب الكردية التي تحاول إيجاد جذور قومية مشتركة تكون أكثر متانة في تحقيق الهدف من مفهوم الأمة ، لكن المفارقة التي تظهر في إقليم كردستان العراق ، هي محاولة الفصل بين كردستان كمنطقة جغرافية والكرد كقومية ، كي يصار من ثم إلى تجاوز معضلة وجود قوميات أخرى غير كردية تقطن المنطقة ذاتها رغم ان التسمية (كردستان ) تعني بلاد الكرد حصراً من دون لبس ، وبالتالي لايستطيع التركماني أو العربي من سكان الإقليم ، هضم ذلك التناقض بين التشدد الكردي واقعاً ، والمناداة بعكسه قولاً.
ان غموض المعنى المحدد لمصطلح (كرد أو كورد ) وسعة معناه ،أفسح في المجال أمام الحركة الكردية لمحاولة استثماره في ضمّ اثنيات لها خصوصياتها الثقافية والطائفية واللغوية كالفيليين والشبك والازيديين ،ودفعهم للاعتقاد بأنهم ينتمون إلى ( القومية ) الكردية بعد تجاوز مفهوم الأمة (1) لكن تلك المحاولات لم تحرز سوى نجاحات محدودة ، إذ مازالت الأغلبية من الشبك والايزيديين تتمسك بخصوصياتها رغم المحاولات الحثيثة لاحتوائهم وتذويبهم في (قومية ) كردية مفترضة ، أما النجاح الأوضح للحركة الكردية ، فكان مع الفيليين الذين يستبقون التعريف عن هويتهم بمصطلح الكورد الفيليين ، رغم تميزهم اثنياً وطائفياً وثقافياً، واختلاف لغتهم عن المتداول في لغات الكرد الآخرين .
المؤشرات في التوجه الكردي تظهر انهم يسعون إلى الحصول على مناطق الفيليين الخصبة التي تشكّل مايشبه الاختراق في المناطق العربية ، خاصة في محافظتي ديالى وواسط المحاذية للحدود الإيرانية ، وهو توجه جيو سياسي ،سيجعل الفليين يتحولون من كونهم جزءاً من أكثرية طائفية في العراق ، إلى أقليّة إثنية وطائفية في (كردستان ) وجسد شبه غريب مزروع فيه ، وبالتالي لا يستبعد القيام بتهجيرهم لاحقاً بعد ضمّ مناطقهم إلى الكيان الكردي المنوي إنشاؤه على أسس من التجانس .
قد تكون تجربة العرب الشيعة مثالاً واضحاً في هذا الجانب ، فرغم انحدارهم من قبائل عربية تنتسب الى الجذور القومية ذاتها ووحدة لغتهم وثقافتهم وتاريخهم المشترك ومساهمتهم الفاعلة في صنع ذلك التاريخ ، إلا أن اختلافهم المذهبي طالماً وقف حائلاً بينهم وبين الاندماج الكّلي في الجسد العربي ، فكيف بإثنية فيلية مختلفة يجري سكبها في كيان جديد لم تتوضح معالمه واتجاهاته اللاحقة .
الخلاصة ان السعي الحثيث لبناء قومية كردية تقيم دولة متجانسة على مقومات ربما ليست بالمتانة المتخيلة ، لابد سيصطدم بعوائق مانعة ، لها من القوة مايمكنها من إجهاض مشروع يرتبط بتغيير اشمل يعمّ المنطقة برمّتها- بل وربما العالم – وبالتالي فهو بحاجة الى روافع دولية ترى في تغيير بهذا الحجم والأهمية ، بما لايؤثر على مصالحها كدول عظمى ، مايعني انتظاراً لأزمنة طويلة ومتغيرات مفصلية قد لاتحصل ، خاصة إن التجارب المعاصرة في تفكك الدول ونشوء كيانات جديدة على انقضاها ، لم تكن كافية لتعميمها ، فيوغوسلافيا السابقة انشطرت بحرب دموية مرعبة لايبدو العالم على استعداد ليرى شبيها لها، وجمهويات الاتحاد السوفييتي السابق ، دخلت فيما يشبه السبات ، وبالتالي لم تسهم في رفد الحضارة بانجازات واضحة اقتصادية أو سياسية أو علمية أو ماشابه ، كذلك الحال في سولفينيا وتشيكيا رغم انفصالهما سلمياً .
أما جنوب السودان – وهي احدث منتج للانفصال – فمازالت تعاني من إضطرابات داخلية وتوترات عرقية قد تجعل المشروع باهض الكلفة وغير جدير بالتماثل ، فيما دخلت إسرائيل في حيرة بين صفائها الديني والعرقي كأمّة أنجزت تشكلها وأقامت دولتها الخاصّة من دون ان تتجاوز ذلك إلى طرح نفسها كقومية (2) وبين واقعها المحاصر والمنبوذ في منطقة لم تستطع التفاعل معها أو تفعيلها.
(1) :الامّة كمفهوم سياسي اجتماعي،هي أكثر رحابة واتساعاً من القومية ، وبالتالي قد لاتشكل دوافع كافية لإنشاء دولة تنبثق من رحم دول قائمة يمكنها القول ان الكرد جزءاً من أمتّها ،مادامت الأمّة لاتشترط النقاء القومي أو التجانس الديني أو الطائفي أو المجتمعي بالضرورة ، ما قد يعيق الحركة الكردية في سعيها نحو بلورة مشروعها في دولة متجانسة ، وهو مايتطلب المناداة بالقومية حصراً كي يكون المشروع أكثر قوة وقدرة على الجذب ، إذ سيبقى مجال القول بان الكرد قومية لاتنتمي سوى إلى نفسها ، وبالتالي فهي ليست جزءاً من الأمم التي تنضوي تحت لوائها قسراً .
الطريف في هذا الجانب هو زعم الخطاب الكردي بإمكانية أن يكون العربي أو التركماني أو الكلدو آشوري،جزءاً من الأمة الكردستانية ، رغم خصوصيته القومية أو الدينية أو الطائفية، فلماذا ليس بإمكان الكردي إلا أن يكون جزءاً من دولة قومية كردية صافية ؟.
(2) الملاحظ ان الاسرائيلين لم ينادوا بكونهم قومية قائمة بذاتها رغم استنادهم الى دعاوى دينية وتاريخ قديم لدولة أقامها أنبياء ، بل اعتبروا انفسهم دولة / امّة ، وهو ما مكنهم من الادعاء بأن غير اليهود في إسرائيل ( الفلسطينيين والدروز والمسيحيين ) هم جزءاً من الدولة الإسرائيلية باعتبارها امّة تشكلت لا قومية انبعثت، كذلك الأمة الأمريكية التي لم تطرح كونها قومية لتنوع مكوناتها .