غادرتنا قبل ايام العزيزة والمناضلة الشيوعية بثينة حكيم شريف بعد معاناة اثر تعرضها لحالة صحية الزمتها البيت. رحلت والوطن الذي قدمت اغلى ما لديها واسمى ما يجود به المرء يأِن تحت فعل واثار الاحتلال وادواته. كان حلمها بعراق جميل بسعادة ابنائه ورفاههم وتقدمهم ليكونوا بمصاف الامم المتقدمة اكبر مما يتصوره الكثير حتى من القريبين اليها. بعد تخرجها من الجامعة الامريكية اواخر خمسينيات القرن الماضي، عملت في جامعة بغداد قسم الكيمياء، وكان لأجواء الحرية النسبية التي سادت العراق بعد الاطاحة بالنظام الملكي قد ساعد على مزاولة العمل السياسي العلني الحزبي والرابطي، الامر الذي اغاض تلك القوى الداخلية والخارجية التي خسرت مصالحها والتي عُبئت لاحقا لتكون حربة الحلف الذي قادته ال سي آي ايه من اقطاعيين، بعثيين، قوميين ورجال دين. تزوجت من المناضل محمد باقر الجلبي الذي كان عضو لجنة بغداد للحزب الشيوعي ومدير صحة المدينة. لم يمض على زواجهما اسبوعان حتى حصل انقلاب شباط الاسود، وكشرت القوى الخادمة للغرب واحتكاراته عن انيابها حيث اعتقلت ام سعد مع زوجها مع عشرات الاف الشيوعيين. اطلق سراحها بعد فترة دون ان تعلم عن مصير زوجها اي شيء، وخابت كل المساعي لمعرفة مكان اعتقاله الى ان سافر والدي الى بغداد حيث استثمر علاقاته ومكانته رغم دوس الانقلابيين على كل القيم والمعاير والاخلاق وسحقها تحت شعار البعث العربي. تمكن من معرفة السجن الذي يقيم به الشهيد محمد واستطاعت بثينة من مقابلة الشهيد ولمرة واحدة وكان اخر لقاء بينهما حيث قال لها: لم اكن اعلم ان لدى الانسان طاقة هائلة من قوة التحمل والجلد لما يتعرض له. حيث كان الجلادون من البعثيين والقوميين قد حولوا سرة الشهيد الى منفضة سكائر. استشهد تحت التعذيب عمها عضو اللجنة المركزية عبدالرحيم شريف واعدم ابن عم والدها المحامي والشخصية الوطنية واحد مؤسسي مجلس السلم الشهيد توفيق منير حيث كانا مثلاها في المبدئية ومناصرة الكادحين والقيم النبيلة السامية. لم تثنها تلك المأساة وذلك المصاب الجلل ويفل من عزمها على مواصلة النضال في سبيل المبادئ والاهداف التي ضحى في سبيلها اعز واحب الناس لديها والاف المناضلين من الشيوعيين والوطنيين ضحايا جرائم الشركات الرأسمالية التي نفسها من خطط واحتل ودمر عراق اليوم. نشأت في بيئة عائلية يسودها روح العلم والافكار المتنورة. حيث قتلت السلطة العثمانية 1904 جد ابيها عبدالحميد الفقيه وخطيب وامام جامع ابي حنيفة النعمان لوقوفه الى جانب الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال العثماني. عندما القى والدها الدكتور حكيم شريف كلمة في المتظاهرين من الطلبة والكادحين في مدينة طويريج ضد النظام الملكي خمسينيات القرن الماضي، استدعاه مدير شرطتها لتحذيره من مغبة ذلك العمل، مهددا اياه من احتمال فقدانه لوظيفته اذا هو استمر في دعم المتظاهرين والوقوف الى جانبهم. اجابه بعد ان اخرج سماعة الفحص الطبي: اذا فقدت وظيفتي لدي هذه السماعة التي بواسطتها سأخدم ابناء القرى والارياف فاحصل على بيضة من هنا ورغيف خبز من هناك وادبر امر معيشتي. لكن كيف لك ان تدبر امرك اذا حصل امر تفقد فيه وظيفتك. وكان جدها لامها قد نجح في تأسيس ثانوية في مدينة عنه. كذلك كان وراء تأسيس وادارة مكتبة عنه وجعل من احد بيوته اولى المدارس الابتدائية للبنات. وكان مع جدها الفقيه الاخر شريف وشقيقه منير والد الشهيد توفيق من ابرز وجوه المدينة ورجالها. في هذه البيئة وتلك الاجواء نشأت المرحومة بثينة وتشربت بروح الوطنية الحقة وامتلأت روحها بآمال لم ينهها الا الرحيل الى فضاءات ذرى الكون حيث ستنعم روحها بالسكينة الابدية.
قدمت وعلى امتداد السبعينيات اقصى ما يستطيع المرء من بذل وعطاء. فاشتركت في محافل دولية ونشاطات اممية وفعاليات لا تحصى دعما للسلم العالمي ولنشاطات الشبيبة العالمية وجهود المرأة في سبيل التحرر والانعتاق من اسر العبودية، اضافة الى نشاطها الغير محدود داخل الحزب ورابطة المرأة. لذلك كان نصيبها من الحملة الارهابية التي شنها النظام ضد كل القوى في الساحة ومنهم الشيوعيين تمهيدا لسلطة التفرد والاستبداد كبيرا. حيث اعتقلت والدتها مساء يوم 23 كانون الثاني 1979 فألى هذا التاريخ والبيت لم يكن معروفا لدى الاجهزة الامنية. لكن احد اعضاء محلية مدينة الثورة (ابو محمد) والذي رُحِل للعمل داخل صفوف رابطة المرأة كان قد تعاون مع الاجهزة الامنية. سلم هذا الشخص مئات الشيوعيات الى ايدي اجهزة الامن واستشهد الكثير منهن. قدم (ابو محمد) وكان ملثما بصحبة رجال امن ظهيرة نفس اليوم واشار الى البيت بعد ان خففت السيارة سرعتها. مساءً حين توقفت سيارة رجال الامن هرعت الى بثينة ووالدتها واخبرتهما بان هناك ثلاثة رجال ترجلوا من سيارتهم وعدت الى غرفة المكتبة. سألوا: من هي مقبولة احمد. تقدمت شقيقتي واخبرتهم بانها هي. قالوا لها: رافقينا. ما ان ذهبوا حتى هرعت المرحومة بثينة والتقطت وثائق واوراق على عجل واوصلتها الى بيت احد الجيران في المنطقة وعدت لأغلق الابواب وارتب بعض الامور. كانت والدتها قد تعرضت مباشرة للتعذيب بواسطة الكهرباء وهي في عمر 62 لكن حين اكتشف رجال الامن انها ليست الشخص المطلوب عادوا سريعا، كانت الابواب الخارجية موصده فقرروا كسرها عندها هربت عبر الحديقة الخلفية واختبأت الى الصباح على سطح ملحق للبيت لا تؤدي اليه الا درج الجيران. نصبوا كمينا في البيت، مزقوا دواليب السيارة وحجزوا البيت وصادروا الاموال في البنك. لم يكتف (ابو محمد) بتسليم الشيوعيات وبيوتهم لأجهزة الامن، وانما جند العديد لصالح هاذا الجهاز، وتسلل بعضهم الى صفوف الحزب عبر منظمات عديدة. بل ان بعضهم في قيادة الحزب اليوم. بعد عام من الاختفاء استطاعت ام سعد الهروب الى سوريا حيث ابتدأت مرحلة جديدة من العمل والكفاح ومسيرة اخرى من المعاناة. امتثلت لقرار الحزب في الذهاب الى كردستان لخوض الكفاح المسلح كأغلبية الشيوعيين. ذلك القرار الذي لم يناقشه شيوعي واحد من بين كل الشيوعيين خارج اللجنة المركزية ومكتبها السياسي. عملت هناك ضمن صفوف الانصار وتنقلت بين القواعد العسكرية للحزب. توجهت برفقة رفيقات الى الداخل صيف 82 للعمل التنظيمي عادت بعد عام. اواخر 83 ارسلها الحزب الى سوريا حيث سافرت بعدها بمهمة الى السويد 84 لترتيب اوضاع الشيوعيين المبعثرين هناك. ورغم مشاركتها في المؤتمر الرابع الذي كان مفترقا في حياة ومصير الحزب الشيوعي الا انها واصلت كفاحها في سبيل الافضل والتزامها بالضوابط والمبادئ الداخلية للحزب، ومع ذلك لم تستثنيها تلك السياسة التي انتهجت ممن قبل مجموعة تعي تماما تنفيذها اهداف سياسة هدم وتدمير الحزب والتي قادت لاحقا الى الارتماء بأحضان الامريكان والامتثال لتعليماتهم عشية احتلال العراق وبالتالي المساهمة في تدمير البنى التحتية التي حرم منها ملايين الفقراء من العراقيين. منحت دراسة حزبية في بلغاريا وهناك اقصيت من التنظيم دون سابق انذار كغيرها من الاف الشيوعيين. عملوا المستحيل لعزلها كما حاولوا مع الجميع. صيف 88 كنت في زيارة للمرحوم عامر عبد الله، في نفس الوقت قدم لزيارته نديم عبدالصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني والذي كان قد عاد لتوه من بلغاريا. سأله المرحوم عامر عن بثينة: اجابه: التقيتها وهي جيدة. رد عامر: اريد منك الحقيقة. اجابه نديم: جلست معها فترة طويلة، وكانت قد التقت عبدالرزاق الصافي الذي سالته عن وضعها فلم يجبها ـ لأنه نفسه لا يعلم ولا يعلم انه لا يعلم ـ واصل نديم عبدالصمد انها بكت امامه للأساليب التي مورست بحقها وحق الاف غيرها من قبل مجموعة هي في الحقيقة من الد اعداء الحزب والشيوعية.
ستبقى ذكراك بثينة خالدة في قلوبنا وقلوب رفاقك ومحبيك
ولتخلد روحك الطاهرة الى الطمأنينة والتنعم بالسكينة وهي تعانق ذرات الكون الابدية