19 ديسمبر، 2024 12:12 ص

الأصوليات الإعلامية : أجنحة الطائر المحنط -4

الأصوليات الإعلامية : أجنحة الطائر المحنط -4

رافق مصطلح “الأصولية” بشكل عام،  الحركات ذات المنشأ العقائدي أو الديني، خاصة تلك التي يؤمن أصحابها أو مريدوها، بأن كل ما يمكن مواجهته من مستجدات في مختلف شؤون الحاضر أو قراءة اتجاهات المستقبل، لابد  له من العودة إلى أصل النص الديني أو العقائدي للمقارنة والقياس، ومن ثم معالجة الموضوع على ضوء الأصل وما ينتج عنه أو يتفرع منه.
وفي التاريخ الحديث، تحولت “الأصولية” إلى نوع من هوية أيديولوجية سياسية، تعني الجمود العقائدي ورفض الحداثة بكل أشكالها، بدعوى المحافظة على العقيدة من الانحراف، والدعوة إلى سلوك الطرق ذاتها التي سلكها السلف الصالح للوصول من ثم إلى الحلول الأفضل لمشكلات واقعنا.
لما كانت الأصوليات تبحث عن وسائل تعبيرية لترويج خطابها، فقد دخلت الإعلام بتعدد أشكاله وتنوع مصادره، كأحد أهمّ وأخطر أسلحة الإستخدام في مواجهة الآخر ودحض  خطابه، وعليه تتزايد بإطراد، الأهمية التي يلعبها الإعلام في حياتنا اليومية  المعاصرة، وبات الفضاء  يشهد ولادات جديدة تأخذ مكانها إلى جانب تلك المولودات المتناسلة باستمرار في ما يمكن تسميته “فوضى الصورة”، فهل إزدادت تبعاً لذلك مساحة الحرية التي تساهم في خلقها وسائل الإعلام هذه؟ وهل كان لذلك مردود إيجابي على تجلي الحقيقة و سيادة خطابها؟ وتالياً الحديث من خلالها عن سيادة العقل وحسن الإدراك؟ أم إنها لعبت دوراً سلبياً في خلق متلق سلبي وعقل مصادر؟
 لقد سحبت ” الأصولية ” العقائدية، مفردات خطابها إلى وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، تجلى ذلك في العديد من الظواهر التي شكلت سمات عامة يمكن من خلالها رصد تحولات البنية الأساسية التي اعتمدتها ما يمكن تسميتها بـ ( الأصولية الإعلامية “).
المتابع للقفزة التي حققها الإعلام العربي مثلاً، سيجد أنها وقفت عند سقوف معينة ثم بدأت رحلة العودة إلى قاعدتها الأولى، فهذا الأعلام الذي إنتفض على ماكان سائداً من إعلام الأنظمة والنخب الأيديولوجية التي إجترّت نفسها وتقولبت ضمن أطر ضيقة ذات بعد واحد وأفق محدود ـ في إعلامها كما في خطابها ـ وبالتالي قدّم ذلك الإعلام مدارس إعلامية متطورة كمّاً وكيفاً، كان من أهم مظاهرها، القدرة على إدارة حوار حضاري برؤية وأداء طالما إفتقدناهما في مسلكياتنا وتوجهنا، فتعددت تبعاً لذلك مصادر المعلومة وتنوعت زوايا قراءتها وإستخلاصاتها، الأمر الذي منح المتابع مستويات متتابعة لحرية الإختيار ومساحات رحبة للوعي،  هذا ما بدا عليه الأمر في المراحل الأولى،  لكنه سرعان ما أنتكس تحت ضغط الثابت ” التليد ” في الخطاب العربي الذي أظهر قدرة في الصمود لا يحسد عليها .
لقد آلت عملية ” الإصلاح ” في الإعلام العربي، إلى النتيجة ذاتها التي آلت إليها دعوات الإصلاح في الفكر العربي، فمفردة الحوار في ذلك الفكر تبدو، مفتقدة أصلاً أو بلا معنى، ذلك لأن الحوار يفترض إمتلاك كلّ من أطرافه، جزءاً من الحقيقة ـ أياً كان مقداره وأهميته ـ وأن الحقيقة ذاتها تبحث عن إكتمالها وتفاعلها ومن ثم توالدها وإرتقائها من خلال معنى الحوار/ الوسيلة، الذي تخرج منه الحقيقة وحدها منتصرة دائماً، ما يتطلب بالضرورة وجود رافعتين أساسيتين هما: حسن الإصغاء وصدق الكلام، وبغيابهما ينهدم سقف الحوار، أو يهبط الى مستوى آخر مختلف يدعى ( السجال ) وفيه يتمترس كلّ طرف خلف مسلّمتين متلازمتين: كلّ يمتلك حقيقة مطلقة، وليس لدى الآخر ما يمكن سماعه ـ لذا يتحول السجال إلى حرب كلامية ضروس يحشد فيها كل طرف ما يتمكن من حشده، ويلجأ إلى ما يمكنه اللجوء إليه، من أجل هزيمة خصمه.
في حرب كهذه تغيب جملة من المعطيات  منها:
 1ـ حسن الإصغاء، حيث لا يعود له من دور الإ بمقدار إلتقاط الهفوات التي قد يقع فيها الخصم.
 2ـ سلامة الإدراك وانخفاض منسوب الوعي.
 3ـ منطق العقل، الذي يخلي الساحة للغرائز والأحقاد لتنطلق بكامل عدتها وعتادها، ومن ثم تكون الغلبة لصالح منطق الإلغاء المعنوي، الذي يحاول كل طرف إلحاقه بالآخر.
 ومع إستمرار وشيوع هذا النوع من (حوار ) تخرج  فيه الحقيقة وحدها مقطعة الأوصال، ويفقد الفكر أهم قيمه وعطاءاته، يتلاشى الحوار الحقيقي، ويسودالسجال الضارب بقبضته المتحجرة على عصب الحس والوعي السليمين، ليشكّل من ثم حاضنة للهستيريا واللامعقول، الأمر الذي يجرّ وراءه سلسلة لا تنتهي من الإخفاقات والدوران في حلقة مفرغة .
لكن ما سبب هذه ” الردة ” في الإعلام العربي؟ وهل هي كذلك حقاً؟ أم أنها مجرد عودة إلى حضن  “الأصول”؟
يبشر خبير إعلامي: ( بأن الإعلام الناجح يسأل نفسه قبل أطلاق رسائله: ما الذي يدعو الجمهور من إستقبال رسائلي وقبول محتواها؟ وماذا تعني رسائلي لجمهوري المستهدف ”  أو ان (إهتمام المعلم الاعلامي، يجب أن ينصبّ على الجماهير المؤيدة لقضاياه أو التي يسهل كسب تأييدها )
القاعدة الإعلامية المذكورة، تبعثر أجزاء مهمة من حقيقة وأهمية دور الإعلام، فالصحيح ان  بوصلة الإعلام ينبغي ان تتوجه نحو إظهارالحقيقة، وهو ما يسهم في نشر الوعي الحضاري وتهذيب الذوق وسيادة العقل والرؤية الفكرية السليمة لطبائع الأشياء والوقائع المحيطة، أي عن كل ما يجعل الإنسان يقترب من حقيقته الإنسانية.
ولا يشذ عن تلك القاعدة ظروف الحرب ومتطلباتها، إذ ينبغي ألا يقدّم الإعلام مجموعة من الأكاذيب أو أنصاف الحقائق تحت شعار التعبئة ورفع مستوى الإستعداد المعنوي أو ما شابه، لأن إنكشافها ستترتب عليه نتائج سلبية تطال الجمهور والإعلام معاً، وقد جربنا ذلك في صوت ” تجوع ياسمك لأكل الصهاينة ” عام 67 حين كانت الطائرات المعادية تتساقط بالعشرات من فم طيب الذكر أحمد سعيد،ثم من علوج محمد سعيد الصحاف .
نعم أن على الإعلامي ـ في ظل التنافس الحاد لإجتذاب المتلقي ـ البحث عن أنسب الطرق وأكثرها سلاسة لنقل الرسالة الإعلامية، على الّا يهبط إلى ما دون الحدّ الذي تفرضه المهنة ذاتها.
أما اقتصار الإعلام على مخاطبة ” من هم معنا ” فسوف يحوّله من وسيلة تواصل ،إلى أداة توصيل، أي انه سيأخذ دور الكاهن ورجل الدين في الوعظ والإرشاد بما يظنه من إمتلاكه (حقيقة مقدسة ) يقدمها إلى رعية، ماعليها سوى قبول ما يفرضه ” المعلم ” الإعلامي  المفوه والعبقري.
ثم ما الذي  يمكن أن نقدمه لمن هم معنا؟
لا شك أن إعلاماً من هذا النوع، سيضطر إلى تقديم ما يداعب مشاعرالجمهور ويرضي دواخله، وعليه فليس مهماً أن كان بربع حقيقة أم بنصفها، ولنا  في بعض برامج الضجيج المرتفع شواهد حية، حيث تأتي نتائج الإستفتاء المبرمجة لصالح من يلتقط اللحظة /الحدث، في إتجاهات التوتر لمشاعر الجمهور المتابع، حتى لو بنى كلامه على الخلط والتناقض، فيما ينخذل من يتكلم بمنطق متماسك وقراءة موضوعية لطبيعة الحدث وإشتقاقاته.
أن من يؤيد ذبح الاطفال وتفجبر المدارس والمستشفيات والمساجد، مبرراً ما يجري، بقوله “ان كل شيء جائز في الحرب”، يتجاهل ان منطقه هذا يبرر في الوقت عينه، للآخر جرائمه ضدنا،  ومع ذلك فصاحب هذا المنطق هو من يلقى التأييد والدعم، أما الذي يحاول تفحص المسألة بحيثياتها المختلفة لرؤية ما فيها من خطأ وصواب، فليس سوى القلائل يقفون معه.
ثم لو نمنا على فرضية أن الإعلام  سيلتزم بقاعدة “الأصولية الإعلامية “، وأقتصر على مخاطبة “من هم معه”، فهل سنصحو على العالم وهويشهد حقيقة بعض ممارسات الإحتلال الأمريكي في بعض المدن العراقية، أو جرائم الإحتلال الصهيوني في فلسطين؟ 
لكننا رغم ذلك كله، لسنا بحاجة إلى إعلام متطور ومنفتح يحترم وعينا وحريتنا ويقيم معنا علاقة تواصلية نتبادل من خلالها المعرفة والمعلومة والفكرة والمسؤولية، بل نحن أحوج مانكون للعودة إلى إعلام البعد الواحد المتجه من (المعلم) الإعلامي مباشرة إلى القطيع المتلقي، الذي يتحول والحالة هذه، من مُتلَقّن  يسهم في صنع الخطاب الإعلامي وتطويره، إلى “مُلَقَن فتح اللام” عليه أن يسمع وينفعل وحسب،  أليس هذا ما يمكن استنتاجه من طغيان خطاب “الأصوليات الإعلامية”؟
 لقد إنتهت مغامرة إعلام الحرّية، الذي بدأ بفضاءات الحوار وإتساع وعوده، ثم تراجعت إلى خنادق السجال ودهاليز وعيده، لتنحشر من ثم في دائرة أضيق، طائفية أومذهبية، بل وحتى عائلية، فأصبحت كل وسيلة إعلام تنتقي جوقتها الخاصة، يحلّون عليها ضيوفاً دائمين بالحرف المكتوب أو بالصورة والصوت، ليقلبوا الحائق أو يجيروها لصالح وجهة نظرة أحادية لا ترى نفسها معرضة لمساءلة أو انتقاد .
لكن المشكلة أن خطابنا الإعلامي، يفتقر الى مهارة خطاب “مارك أنطونيو” الذي استطاع التلاعب بمشاعر روما، فحول ” بروتوس ” ومن معه، من أبطال أنقذوا حرية روما من إستبداد ” قيصر ” إلى قتلة متآمرين على معبود روما وصائن حريتها ” قيصر “، فماذا نصنع بإعلامنا ليكتسب تلك المهارة والقدرة؟ 
هل  نطالب الإعلام بالمزيد من التقوقع وضيق الأفق، لينتج المزيد من التعصب المصادر لسلامة الوعي وموضوعات العقل ؟ بعد ان تحول الكثير من الإعلام، الى مجرد أجنحة لطائر محنّط، تمثل حركة الطيران، لكنها في المكان ذاته.
الأصولية الاعلامية، لم تقتصر في مفرداتها على الإعلامي العربي ـ وان كان السباق في هذا الجانب ـ فقد اتخذتها بعض وسائل الإعلام العراقية نهجاً ثابتاً في أدائها ومنطلقاتها السياسية والإعلامية على السواء، لكن أصولية الإعلام العراقي، كانت بمعظمها  من طبيعة منفعية آنية، أكثر من كونها ذات أبعاد إستراتيجية ذات ديمومة وثبات كما في أكثر سلوكيات الإعلام العربي تجاه العراق على وجه أوضح.
أما في الصحافة المكتوبة، فظهر عند الكثير من الكتّاب العراقيين، ذلك الميل نحو الإطالة والاستعراض، إذ انه يبدأ الكتابة بسلسلة من المجاملات والاعتذارات المسبقة والشروحات التي لاتعني شيئاً، وبعد أن يثقل جسد المقالة ويرهق من يحاول قراءتها، يأتي على ذكر الفقرة الأساسية في مطولته، وبمرور عابر في السطور الأخيرة، من دون إشباع الفكرة والتعمق في مضامينها لإيجاد مبرر لما يكتبه، كذلك يخلط بعض الكتّاب بين التقرير والتحليل والاستعارة، لذا تمتلئ مقالاتهم بعرض إخباري لأحداث من هنا وهناك ، دون رابط تحليلي لما يمكن قراءته من خلال هذا الإيراد، ما يؤدي بمحصلته إلى ضياع المعنى وفقدان الخصوصية عند الكاتب ومقاله على حدّ سواء.
ذلك مايظهر كسمة عامة في إعلامنا العراقي الذي يعمل وفق نظرية سينما الخمسينات المصرية، من دون أن يلامس الحقيقة القائلة بأن الأذواق تتطور وفقاً لتطور المجتمع، وبالتالي يمكن للجمهور أن يتقبّل الجديد والمتطور ولو بعد حين، لكننا لم نملك بعد،  المؤسسات الإعلامية ذات النظرة (الإستراتيجية) التي يمكن أن تسهم في تطوير وخلق الذائقة الجمالية ، لا أن تخضع لما هو سائد.