الفساد المالي والإداري هو من السمات الرئيسية للعملية السياسية الجارية في العراق بعد عام 2003 وهو ممتد عموديا وافقيا في كل مؤسسات الدولة وسلطاتها. واذا كان الكثير من العراقيين استبشروا خيرا بالحكومة التي تشكلت في الدورة البرلمانية الحالية (2018 – 2022) لكون المكلف بتشكيلها (عادل عبد المهدي) ،الذي حاز على ثقة مجلس النواب العراقي وترأس مجلس الوزراء، من خارج الأحزاب الفائزة بالانتخابات وغير منتمِ لأي جهة سياسية كما تم الترويج لذلك إضافة الى التصريحات العديدة التي اطلقها قادة الكتل البرلمانية وزعماؤها والتي بينوا بها مواقفهم بضرورة محاربة الفساد المالي والإداري وتقديم الفاسدين الى المحاكمة، الا اني أقول ان هذه الحكومة مثل سابقاتها ستمر على الفاسدين وتؤدي اليهم التحية وسيبقى الفساد من اهم واخطر الممارسات السياسية في البلد ولن نجد من يتصدى له بشكل فاعل ويوقفه عند حده وذلك لان واقع العملية السياسية يبين عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على محاربة هذا الفساد الذي هدم البلاد وأنهك العباد.
واسباب ذلك كثيرة، سياسية ومهنية، تنحصر جميعها ضمن إطار ثلاث عناوين، فمنها ما يتعلق بعموم منهج عمل السلطتين التنفيذية والتشريعية، ومنها ما يتعلق بالجانب القانوني الخاص بمعالجة حالات الفساد وأسباب أخرى ترتبط بهيكلية وآلية عمل الدوائر المعنية بمحاربة الفساد وهي هيأة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومكاتب المفتشين العموميين والمحاكم المختصة بالنظر بقضايا الفساد.
ومن خلال متابعتي المستمرة لعمل الحكومة والقضاء والدوائر الرقابية في ما يخص محاربة الفساد المالي والاداري فاني أشخص الاسباب التالية التي تجعل رئيس الوزراء الحالي السيد عادل عبد المهدي، كما كان سلفه حيدر العبادي، عاجزا عن محاربة الفساد بشكل صحيح وفاعل وابينها كما يلي:
أولا: فساد أحزاب السلطة
ان الصفة الغالبة والتوجه العام للعملية السياسية في العراق هو سعي أغلب الكتل، كل حسب مقدار قوتها العددية وتأثيرها في العملية السياسية، من اجل الحصول على المنافع الشخصية والحزبية بالدرجة الأساس والاستحواذ على أكبر ما يمكن من المال العام. ويلاحظ هذا الامر من خلال الصراع بين الكتل للحصول على المناصب العليا في السلطة التنفيذية التي تتيح لها فرصة تحقيق غاياتها من خلال المشاريع الوهمية والعقود الفاسدة والتعيينات الفضائية وغير ذلك بعيدا عن (المصلحة الوطنية) و (بناء الدولة) و (خدمة الشعب وتلبية مطالبه وتوفير احتياجاته).
حتى صارت مؤسسات الدولة أشبه ما تكون بالإقطاعيات الحزبية والعشائرية وصار المواطن البسيط يعرف العائدية القومية والمذهبية والحزبية لأغلب الوزارات.
وحيث ان رئيس الوزراء حسب العرف السياسي هو خلاصة التوافقات السياسية المبنية على المساومات والضغوط المتبادلة بين الكتل النيابية وهو المرشح المتفق عليه من قبلها لتولي منصبه فانه بالضرورة يكون ضعيفا امامها ومنفذا بقدر كبير لما تريده الكتل وخاصة الأطراف القوية منها وبالتالي يصعب عليه معارضتها.
ثانيا: عدم استقلالية الوزراء
لقد ملأ الصراخ السياسي بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلين أجواء العراق ومثل ذلك كانت تصريحات
اغلب الكتل بأنها ستمنح رئيس الوزراء المكلف الحرية باختيار كابينته الوزارية ولكن الذي حصل هو ان غالبية وزراء هذه الحكومة ممثلون للكتل السياسية بطريقة او أخرى وبالتالي فان اغلب الكتل ممثلة في الحكومة مما يعني كذبة ان الحكومة (حكومة مستقلين).
ان الانتماء الحزبي لوزراء الحكومة يعني توفير الحماية الكاملة لهم من قبل احزابهم لأنهم أذرعها في الفساد والممول لها بالمال العام لتنفيذ برامجها الحزبية والفئوية والشخصية. وكذلك يعني تكاتف الكتل بطريقة متبادلة لمنع محاسبة او اقالة أي وزير او مسؤول بطريقة (غطي لوزيري وأغطي لوزيرك واسكت عن وزيري واسكت عن وزيرك) وذلك بعدم تحقيق النصاب المطلوب لإقالة الوزراء تحت قبة مجلس النواب.
ان هذه الهيكلية الحكومية وآلية توافق الكتل النيابية تحرم رئيس مجلس الوزراء من ممارسة دوره المطلوب (المفترض) في اقالة وزراء حكومته وتقيده في عملية محاسبة او تقديم وزرائها والمسؤولين الكبار الفاسدين الى القضاء ولا حتى تبديلهم فهم محميون من كتلهم وممثلون لها في مجلس الوزراء ينفذون ما تريده منهم كتلهم وليس ما يريده رئيس مجلس الوزراء.
ثالثا: ضعف موقف رئيس الوزراء
لا اريد الخوض في موارد الضعف المرتبطة بشخصيته انما اذكر الموارد المتعلقة به إضافة الى وظيفته أي موارد ضعفه باعتباره رئيس مجلس الوزراء وهي كما يلي:
أ- افتقاره الى كتلة قوية عدديا في مجلس النواب تقدم له الدعم اللازم لتنفيذ برنامجه الحكومي وخاصة في ما يتعلق بمحاربة الفساد الإداري والمالي. اما القول بانه مرشح توافقي لأكبر كتلتين برلمانيتين وهما سائرون والفتح فانه ليس كافيا لان عدد نوابهما مجتمعين لا يزيد عن (105) نائب فقط ويبقى عدد يزيد عن (220) نائب من الكتل الأخرى وهذا العدد يكفي لإقالته حسب المادة (61) التي ورد في نصها:
(يختص مجلس النواب بما يأتي:
ثامناً ـ ب ـ
3 ـ يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بالأغلبية المطلقة لعدد اعضائه.
ج ـ تعد الوزارة مستقيلة في حالة سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء.)
مما يعني إمكانية اتفاق عدد من الكتل لإقالة عادل عبد المهدي في حالة عدم التوافق معها ومن ذلك مثلا عدم تساهله معها من ناحية عمل هيئاتها الاقتصادية العاملة في وزاراتها ويحتاج هذا الامر الى (165) نائب وهو ما يمكن تحققه بسهولة.
ب- تلويح عادل عبد المهدي بالاستقالة في حالة معارضة الأحزاب له وتقييد حريته في تنفيذ برنامجه الحكومي مما يعني توفيره فرصة ذهبية للكتل ان تطلب منه ما لا يستطيع تنفيذه لأجل دفعه الى تقديم استقالته وهذه نقطة ضعف واضحة على الرغم من ان الكثير من الكتاب والمحللين يعتبرونها قوة له؟! والقوي هو من يصمد اما ضغوط الأحزاب ويفضحها ويستند الى قوة الشعب والمرجعية وليس من يقدم لها استقالته على طبق من ذهب.
وهنالك أسباب أخرى تضعف موقف رئيس الوزراء امام الفساد والفاسدين من اهمها الحضور المعنوي القوي والمؤثر في الشارع العراقي للكثير من الشخصيات التي يتهمها الاعلام وبعض البرلمانيين بالفساد وقدرتها الشخصية على الوقوف بوجهه إذا ما حاول مجرد النبش في موضوع فسادها.
مع العلم اني كنت نشرت بتاريخ (26/9/2015) مقالة بعنوان (لهذه الاسباب لن يستطيع السيد العبادي محاربة الفساد المالي والاداري / رسالة هادئة الى رئيس الوزراء العراقي) وقد انتهت مدة وزارته من دون ان يحقق أي انجاز يذكر في مجال مكافحة الفساد المالي والإداري.