22 ديسمبر، 2024 5:01 م

رواية أبناء وأحذية.. مبروك الحذاء الجديد

رواية أبناء وأحذية.. مبروك الحذاء الجديد

خاص: قراءة- بلال خاركوفيسكي

بعد فترة من القراءات المتنوعة في الأدب العراقي, الرواية على وجه الخصوص في نصف السنة الأخير جاءت النتاجات بمستويات متفاوتة إلا أن معظمها لم يكن ملبياَ لطموح القارئ الانتقائي، حتى إن بعض الروايات وجدتها تسبب جفاف الريق!! إلى أن صادفني منشور للكاتب “محسن الرملي” ينوه فيه إلى الإفراج عن روايته الجديدة (أبناء وأحذية) من المطابع وما إن اقتنيتها لم أنتظر طويلا, حيث سافرنا معا – أنا و الرواية- من مطار بغداد الدولي وصولا لمطار أسنوفا في خاركوف الأوكرانية و نحن نتجاوز الحدود, أنا بجواز سفر ورقي والرواية بجواز سفر أصدره “محسن الرملي” على مسؤوليته وذوقه الخاص, لتجيء الرواية بعد جفاف الريق كالشاي العراقي الضابط للإيقاع اليومي.

تستحق هذه الرواية أن توصف بأنها “جديدة” ليس فقط كونها آخر أعمال “الرملي”, بل نظرا للزوايا التي اختارها لطرح تساؤلات رغم أزليتها تبدو وكأنها تطرح للمرة الأولى, تختلف هذه الرواية عن سابقاتها-عند الرملي- فهي تبحث المصير الفردي للإنسان عبر جغرافيا واسعة لا تنحصر على العراق فقط . كأن الرملي قد عثر على نافذة سرية تطل على الفناء الخلفي للتساؤلات لينظر من خلالها إلى (الأخلاق, القدر, المصير, الخير, الشر, الظلم, الموت و مفاهيم أخرى) بنظرة مخالفة لما هو سائد ومُتَبَنّى ساعده في ذلك طريقته الفعالة في السرد التي أخذت بالتسلق من متنٍ إلى آخر بالترتيب فالقارئ الجيد سيجد إيذانات, ليست مفتوحة بل إن هنالك مردود لكل إيذان فلا صدفة في السرد.

أما “جغرافيا الإنسان” في (أبناء وأحذية) فجاءت غير خالية من الشجن محملة بأوصاف دللها “الرملي” واعتنى بها كاعتنائه بالجميلات المثيرات اللاتي شَكّلّنَ محورا مهما ” التحاما ” بالمحاور الأخرى هذا غير إن جغرافية الرواية العامة ممتدة لتستعرض أعماقا إنسانية تختلف تبعا لاختلافات ثقافية وتتشابه في كونها إنسانية ليُبقي الرملي على كلمة (إنسان) غير قابلة لتجزئة الفهم وبعيدة كل البعد عن الذيول التي تُلصق بها.

يستمر الإتقان ليتجلى واضحا في بناء الشخصيات, فالشخصيات لم تستيقظ لتجد نفسها داخل متن غريب بل إنها خُلقت قبل زمن الرواية وعاشت حياة استكملتها داخل الرواية بأريحية تامة، فلا شخصيات مفروضة على الحكاية ولا شخصيات مستغربة وجودها أو أخطأت العنوان، حتى إن دقة بناء الشخصيات ومقاربتها داخل المتن أقرب للأسلوب السينمائي (مدرسة الفعل الحركي)، الذي يتم عن طريق بناء (هيستوري) كامل فتعيش الشخصية خارج الفيلم (الرواية) قدر ما تعيشه داخل الفيلم(الرواية) أو أقل أو أكثر بقليل.

كقارئ فأنا مستعد للرهان على أن فكرة الرواية – رغم غرابتها وحداثتها- وأحداث الرواية هي أقرب لأكثر من واقع منفصل زمنيا و جغرافيا عاشه الرملي سابقا, ربما ليس بكل هذا الصخب ولا بكل تلك الدقة فأحداث الرواية ليست منسوخة بدقة من الواقع ولا مفتعلة ولا خيالية بحتة، بل هي – كما تبدو لي – أشبه بنتاج علاقة حميمة بين واقع الكاتب وخياله, حتى إن بعض المواضع داخل النص بدت لي وكأن خيال الكاتب التحم بواقعه بعنف مرغوب ومقدر من قبل الواقع، لينتج عن ذلك الالتحام مواقف أثرت النص وأكملت انسيابه.

عين العاشق المقدر للمرأة تبدو واضحة جلية, فالرملي لا يكتب المرأة ولا يصفها بل يتجلى ليخلقها في عالم الرواية حيث يُقَّدر للقارئ المنتشي بالجمال أن يشاهد نساء رواية الرملي يجلسن حوله أثناء القراءة بكل ذلك الدلال الذي دللهن به الرملي بين سطوره المثيرة. الكاتب الشاعر, فالوصف بأحسن حالاته يتخلل السرد أنيقا ويحسب اختيار بعض مرادفات الكلمات على حساب الكلمات الأصلية انتصارا لموسيقى السرد, فالموسيقى جاءت بمنتهى السلاسة فلا توقف أثناء القراءة ولا نتوءات كلامية تعرقل الانسياب، وهذا يعود للغة الشعرية العالية في الرواية وتحقيق المعادلة الصعبة بين الفكرة نفسها والوعاء أو القالب، الذي تطرح به تلك الفكرة دون أن نجد فكرة عرجاء أو مفردة أُدخلت رغم حروفها!.

موقع الراوي وانتقال الحكي داخل النص جاء بقدر جيد من السلاسة, والبناء العمودي ربما جاء مغايرا لما يدل عليه هذا المصطلح إلا إنه بطريقة أو أخرى قد حقق مفهوم المصطلح, فشخصيات مختلفة تكرر سرد حدث واحد, و شخصية واحدة تكرر سرد أحداث متعددة بوجهات نظر متفقة أحيانا ومختلفة أغلب المرات اختلافا صحيا ناتج عن أعماق مختلفة للشخصيات, كون أغلب هذه الشخصيات جاءت مختلفة عن بعضها البعض، إلا أنها تشترك بالأهم ألا وهو العمق الإنساني, حيث يحسب للرملي بناء شخصياته على المستويات الثلاثة, الخارجي, النفسي والتفاعلي, فكأن الرملي يسير دافعا عربة التسوق في أزقة البناء البشري يقتني مهنة من هنا, ملامح من هناك, عمق نفسي وخيال من على رفوف تبدو عالية بالنسبة للآخرين, فكل شخصية تختلف كليا عن الأخرى، ولكل شخصية ميزة أو أكثر تجعلها غير معرضة للنسيان أو الإهمال متجاوزا بذلك النظرة المطلقة النمطية للشخصيات.

فالمطلق الوحيد عند الرملي هو كون الإنسان إنسانا! فلا شر مطلق ولا خير مطلق, إنما هي شخصيات تراكمية متفاعلة مع الحدث ومع الشخصيات الأخرى بعيدة كل البعد عن النمطية وخارجة على المطلق. الرواية قابلة للتخيل واستحضار المشاهدة الآنية فهذا الكتاب ينتمي إلى مجموعة الكتب القليلة التي من الممكن اقتباسها للسينما أو الدراما، بعد معالجة بسيطة فهي رواية غنية بالشخصيات المختلفة بأعماق متفاوتة، وأحداث مطلية بعنصر التشويق وتمتد على جغرافيا واسعة بوصف دقيق يضمن المتعة البصرية سينمائيا أو دراميا.

ختام الرواية جاء- على مزاجي كقارئ- تصرفا ربما لم يكن منتظرا من البطل إلا إنه قرار منطقي جدا ومناسب جدا لدرجة النضج التي وصل إليها البطل في حافة السرد الأخرى، بعد تراكمات وتجارب غنية, أما الجملة التي قَدَّمتُ بها مراجعتي هذه (مبروك الحذاء الجديد) فهي تمثل- لي على الأقل- نقطة انطلاق الحكاية بشكل لا يقل عن إيذان الحدث الرئيسي وإعلانه الانطلاق الفعلي.

رواية ” أبناء وأحذية”
لـ Muhsin Al-Ramli محسن الرملي
عدد الصفحات : 196
دار المدى
#السرد_العراقي_بخير

 

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة