خاص: إعداد- سماح عادل
“إحسان عبد القدوس” هو كاتب وروائي مصري، ويمثل أدب إحسان عبد القدوس نقلة نوعية متميزة في الرواية العربية، إذ نجح في الخروج من المحلية إلى حيز العالمية وترجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة. وهو ابن السيدة “روز اليوسف” اللبنانية المولد وتركية الأصل وهي ُمؤَسِسَة مجلة “روز اليوسف” ومجلة “صباح الخير”، أما والده فهو “محمد عبد القدوس” ممثل ومؤلف مصري.
حياته..
ولد “إحسان عبد القدوس” في1 يناير 1919، ونشأ في بيت جده لوالده الشيخ رضوان، والذي تعود جذوره إلى قرية السيدة ميمونة زفتا الغربية. وكان من خريجي الجامع الأزهر ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية، درس في مدرسة “خليل آغا” بالقاهرة 1927-1931، ثم في مدرسة “فؤاد الأول” بالقاهرة 1932-1937، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وتخرج منها عام 1942، وفشل في أن يكون محامياً، وعن هذا يقول: “كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعاً”.
تولى إحسان رئاسة تحرير مجلة “روز اليوسف”، وكان عمره وقتها 26 عاماً، وهي المجلة التي أسستها والدته. وقد استلم رئاسة تحريرها بعد ما نضج في حياته، ولكن لم يمكث طويلاً في مجلة “روز اليوسف” ليقدم استقالته بعد ذلك، ويترك رئاسة المجلة ل”أحمد بهاء الدين”، ويتولى بعدها رئاسة تحرير جريدة “أخبار اليوم” من عام 1966 إلى عام 1968، ومن ثم عين في منصب رئيس مجلس الإدارة إلى جانب رئيس التحرير في الفترة بين 1971إلى 1974.
وكانت ل”إحسان عبد القدوس” مقالات سياسية تعرض للسجن والاعتقالات بسببها، ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة التي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع، وقد تعرض إحسان لمحاولات اغتيال عدة مرات، كما سجن بعد يوليو 52 مرتين.
الكتابة..
كتب “إحسان عبد القدوس” أكثر من ستمائة رواية وقصة، قدمت السينما المصرية عدداً كبيراً منها حيث تحولت 49 رواية إلى أفلام، و5 روايات إلى نصوص مسرحية، و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، و10 روايات أخرى تحولت إلى مسلسلات تليفزيونية، إضافة إلى أن 65 من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية، ومن هذه الروايات (النظارة السوداء) و(بائع الحب) و(صانع الحب) والتي أنتجت قبيل ثورة 23 يوليو 1952. ويتحدث “إحسان عبد القدوس” عن نفسه ككاتب عن الجنس فيقول: “لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس فهناك المازني في قصة “ثلاثة رجال وامرأة” وتوفيق الحكيم في قصة “الرباط المقدس” وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب!! ونجيب محفوظ أيضاً يعالج الجنس بصراحة عني ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور.. أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية، دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى”.
وكذلك في روايته (شي في صدري) والتي صاحبتها ضجة كبيرة في العام 1958، والتي رسم فيها صورة الصراع بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشعبي وكذلك المعركة الدائرة بين الجشع الفردي والإحساس بالمجتمع ككل.
الدوار الذهني..
في حوار مع ابنه “أحمد إحسان عبد القدوس” أجرته “بسنت جميل” يقول عن نشأة والده: “بالطبع عاش والدي صراعًا كبيرًا في طفولته، وذلك بسبب تربيته في بيت عمته، وفى الوقت نفسه زياراته المعتادة لوالدته، وذلك بعدما انفصل والداه، لاختلاف نزعتيهما الفنية، حيث كان بيت عمته متدينًا للغاية، بينما كانت “روز” تعقد الندوات وتدير الجلسات بكل قوة، وسط العديد من الباشاوات والأدباء، لذا عاش في صراع بين عمته التي ربته تربية متدينة، وبين والدته المتفتحة التي تتعامل مع الآخرين بمنتهى الرقى والاحترام. يقول إحسان عبد القدوس عن ذلك : (كان الانتقال بين هذين المناخين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني، حتى اعتدت عليه بالتدريج، واستطعت أن أعد نفسي لتقبله في حياتي، لا مفر منه.. لقد استطعت التوفيق بين هذه المتناقضات في حياتي، بحيث لم تفسد شخصيتي كإنسان، ولم تقض على مواهبي كفنان وأديب بالحب.. الحب هو الذي أعانني على مواجهة كل هذه التناقضات في حياتي الأولى وطوال مسيرتي بعد ذلك.. كنت أحب جدي، وكان هذا الحب يفرض علىَّ كل أنواع الاحترام تجاه جدي، العالم المتدين الزاهد في الدنيا.. كنت أحب قيم جدي وأفكاره، بل كنت أعشق تقاليده التي كان يفرضها علينا، وعلى الجانب الآخر كنت أحب أبى وأمي، مدفوعًا أولًا بعاطفة البنوة، ولقد دفعني هذا الحب الذي كنت أكنه للقطبين المتنافرين في حياتي إلى التعمق في معرفة وإدراك وجهة نظر كل منهما، بحيث يمكنني الدفاع عنه في مواجهة الطرف الآخر)”.
وعن أول مهمة صحفية ل”إحسان عبد القدوس”يقول ابنه: “عندما أرسلته والدته “روز اليوسف” بجملة إلى رئيس الوزراء محمد محمود باشا قال له: “أمي بتسلم على سعادتك.. وبتقولك عاوزة شوية أخبار”!، بينما يقول إحسان: (لأنني ابن صاحبة مجلة روز اليوسف، فقد تميزت بالحرية الكاملة في كل ما أكتب، لأن والدتي كانت قد منحتني سلطة كاملة في النشر، وقد وصلت بحريتي إلى حد أنني لم أكن أقيد آرائي بالانتماء إلى أي حزب أو الانتساب إلى أي رئيس ولا حتى الارتباط بصداقة يمكن أن تقيد رأيي)”.
وعن طقوس عند “إحسان عبد القدوس”يواصل: “كان لدي والدي طقوس في الكتابة، فهو دائمًا يذهب إلى «روز اليوسف»، ويكتب قصصه في مكتبه وقت الفجر. وعندما بدأ كتابة قصصه من البيت كان يرتدى ملابسه كأنه ذاهب إلى العمل، فيجلس على مكتبه ويبدأ في الكتابة، ومن طقوسه أيضًا أنه كان لا يرد على أحد وقت كتابة روايته، فهو دائمًا كان منغمسًا فيما يفعله، وتقريبًا لا يسمع أحد، ومن الطريف أنه جميع رواياته التي كتبها بخط يده ليس بها «شخبطة» إلا في أشياء طفيفة لا تذكر”.
في بيتنا رجل..
وعن كون “إحسان عبد القدوس” بطلًا فعليًا لأعماله يضيف ابنه: “حدث أحيانًا، فبعد مقتل الوزير أمين عثمان، المعروف بأنه عميل للإنجليز، حيث قام حسين توفيق بقتله وضربه بالرصاص، وتمكن البوليس من القبض عليه، واتهم أنور السادات بأنه سهل عملية الاغتيال، وتمكن السادات من الهروب إلى الإسماعيلية، كما تمكن حسين توفيق من الهروب بمساعدة الضباط الأحرار، وقام الضباط الأحرار بالاتصال بوالدي، وعرضوا عليه استضافة حسين توفيق في بيته، وبالفعل رحب والدي بالطلب، لأنه وطني وشديد الحماس، وبالفعل دخل حسين توفيق البيت، وكانت هناك مكافأة قدرها 5 آلاف جنيه لمن يرشد عنه، وتداركت والدتي هذا الموقف الوطني، وتمت استضافته 10 أيام دون علم أي حد، وبعدها كتب أبى رواية «في بيتنا رجل».. ويقول إحسان عبد القدوس في «إحسان عبد القدوس يتذكر»: «لم يكن البوليس السياسي غافلًا عما يجرى.. كانوا واثقين تمامًا أنني ضالع في العملية، ولكن إلى أي مدى.. وهذا ما كانوا في حيرة منه.. كان البوليس السري يعلم صلتي بالتجمع الثوري المختفي وراء حسين توفيق، ولهذا قرروا مطاردتي بلا رحمة، وكنت أمارس حياتي المعتادة بلا أدنى تغيير يثير شكوكهم، فإذا تعبوا من المطاردة أقبل على كبيرهم الأميرالاى إمام في استعطاف حقيقي يدعو للسخرية: «أرجوك كفاية إذلال لنا».. وأضحك بسذاجة، وكنت أشعر بسعادة غامرة تجتاح كياني كله وتتحول من مجرد إحساس نفسي بالرضا إلى ما يشبه المتعة الحسية بالشماتة من الغول الذي طالما أرعب الثوار)”.
وفى حديث ل”إحسان عبد القدوس” تحدث عن علاقته بالزعماء السياسيين قائلًا: “اقترابي من الطبقة العليا الحاكمة كان اقترابًا مصنوعًا، فرضته الظروف التي عشتها في كنف أم تملك أكبر مجلة سياسية قادت أعنف المعارك السياسية ضد النظام الحاكم بكل مباذله وخطاياه.. ومواقفي العلمية تقطع كلها بالتوافق الكامل بين حياتي الخاصة كإنسان مصري، وأديب سجل قلمه موقفه الفكري من مجتمعه.. وعلمتني الحياة ألا أنظر إلى الأفراد باعتبارهم أشخاصًا قابلين للحب أو الكراهية، بل اعتبارهم تبعًا لمواقف إنسانية ذات تأثير اجتماعي مفيد أو ضار.. وهذه النظرة إلى المواقف ورفضها أو الحماس لها جعلتني أقرب إلى الموضوعية في حكمي على الحوادث والأشخاص، وحمتني من الوقوف موقف العداء الشخصي من خصومي في الرأي طيلة حياتي، الأمر الذي كان يصعب فهمه على الكثيرين ممن يعرفونني معرفة شخصية”.
كتابة الجنس..
وعن استقبال “إحسان عبد القدوس” النقد والهجوم على أعماله يقول ابنه: “تعرض والدي لهجوم كبير، ومن ذلك ما حدث في مجلس الأمة ضد رواية «أنف وثلاث عيون»، وكان الأعضاء يريدون تحويله إلى نيابة الآداب العامة، لكن جمال عبد الناصر أسكت الجميع، وهو في ذلك الوقت أنقذ والدي من أزمة حقيقية، ورغم أنه كانت تربطه علاقة قوية مع جمال عبد الناصر، حيث كان دائمًا يناديه بـ«جيمى»، فإنه سجنه لمدة ثلاثة أشهر، بسبب مقالة كتبها، وبعد الإفراج عنه دعاه جمال عبد الناصر لحضور حفل عشاء، وكان إحسان يناديه بـ «سيادة الرئيس»، فقال له ناصر «فين جيمى يا إحسان؟» فرد والدي: «لا مفيش جيمى يا ريس».. كما أكد إحسان عبد القدوس بنفسه واقعة الاتهام في مجلس الأمة، قائلًا: “أنا لا أكتب الجنس فقط، لكنني أكتب عن كل ما في الحياة التي يعيشها مجتمعي.. الجنس وغيره، وبالنسبة للجنس فإنني لا أخاف من الكتابة عنه، لأنه موجود في حياتنا ومؤثر فيها إلى حد كبير، وعندما أكتب عنه لا أتناوله لذاته، بل بهدف التحليل الواقعي لدوافع الإنسان التي تحركه نحو سلوك معين، فأنا لا أتعمد اختيار نوع معين من القصص أو اتجاه معين، لكن تفكيري في القصة يبدأ دائمًا بالتفكير في عيوب المجتمع، وفى العقد النفسية التي يعانيها الناس، وعندما انتهى من دراسة زوايا المجتمع أسجل دراستي في قصة.. إن نشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وسيؤدى بهم السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا، تتسع للتطور الكبير الذي نجتازه ونحمى أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التي يتعرضون لها نتيجة هذا التطور.. وهذا هو الهدف الذي حققته قصصي.. لقد بدأ الناس يسخطون، ولكنهم بدلًا من أن يسخطوا على أنفسهم، وبدلًا أن يسخطوا على المجتمع، سخطوا على الكاتب، أي سخطوا علىّ أنا، لكنني كنت مؤمنًا بأن استمراري وتصميمي سيقلب السخط علىّ إلى سخط على عيوب المجتمع، ومن ثم يبدأ الناس في التعاون على إصلاح ما بأنفسهم”.
تهميش أدب الطبقة الوسطى..
يقول الكاتب العراقي “علي شاكر” في مقالة بعنوان (عن إحسان عبد القدوس وتهميش أدب الطبقة الوسطى): “وجدت في روايات عبد القدوس امتدادا نابضا لواقعي الذي كنت أعيشه، فأبطال قصصه من رجال الطبقة الوسطى المتعلمّة كانت تتصارعهم ثقافتان مختلفتان، تماما كما كان الحال مع والدي، سليل المزارعين العائد بشهادة اختصاص في الطب الباطني وأمراض القلب من جامعة كولومبيا في نيويورك، كما وجدت في نساء رواياته العاملات ونضالهن في سبيل الحصول على حقوقهن صدى لشخصية والدتي مدرسة التأريخ المستقلة رأيا وماليا عن زوجها، وكذلك كان في تمرد الأبناء المتأثرين بنمط الحياة الغربي على سلطة ذويهم وتساؤلاتهم التي لا تنتهي عن الحب والجنس والسياسة والدين شبه تطابق مع الأفكار التي كانت تراودنا، أنا وأشقائي وسائر رفاقي.. لم يتردّد إحسان عبد القدوس عن تشخيص آفات مجتمعه، فدفاعه عن قيم مثل المساواة بين الجنسين تجلّى في الطريقة التي رسم بها ملامح الشخوص النسائية في رواياته “أنا حرة” المنشورة في عام 1952، على سبيل المثال لا الحصر، تروي رحلة حياة فتاة من الطبقة الوسطى وتحدّيها للسلطة الذكورية في عائلتها ومحيطها. أثارت الرواية ضجة وجدلا بمجرد ظهورها وخلعت على مؤلفها لقب “المترجم الكفوء لتطلّعات ومشاعر النساء العربيات المعاصرات” متأثرا بخلفيته الصحافية العريقة، بدا لي أسلوب عبد القدوس طازجا، غير متكلف وسينمائي على نحو تصعب مقاومته، ولذلك ربما تم تحويل العشرات من رواياته وقصصه القصيرة إلى أفلام تفاوتت في جودتها وعمق أطروحاتها.. شخوص عبد القدوس الروائية بجموحها وثورتها تعتبر تهديدا للسلطة الذكورية الغاشمة، وهي كذلك بالفعل! الآن وقد مرت ثمان وعشرون عاما على رحيل إحسان عبد القدوس عن عالمنا، مازالت رواياته متداولة (وإن كانت في معظمها نسخا رقمية مقرصنة) في شتى أرجاء العالم العربي والمهجر. الصراعات والتحديات التي واجهت بطلات وأبطال رواياته قلما اختلفت عما يواجهه رجال ونساء الطبقة الوسطى اليوم، ومع ذلك عندما حاولت البحث عن الترجمات الانكليزية لأعماله، تفاجئت بأنها لم تعد متوفرة في الأسواق.. الأمر للأسف لا يقتصر على إحسان عبد القدوس وأعماله، فهناك إقصاء متعمّد وتهميش لمجمل أدب الطبقة الوسطى. شخصيا، لا أستطيع تذكّر آخر مرة قرأت فيها رواية عربية عكست واقعي وملامحي، أو حتى واقع وملامح أشخاص أعرفهم”.
وفاته..
توفى “إحسان عبد القدوس” في عام 1990 عن عمر 71 عاما.