خاص: إعداد: سماح عادل
“معاوية محمد نور” قاص وباحث وصحفي وناقد أدبي سوداني، يعتبر من رواد القصة في السودان، ولد في عام 1907 في “أم درمان” بالسودان، من عائلة ميسورة الحال، فقد كان أبوه من الأثرياء. وكان جده لأمه محمد عثمان حاج خالد أميراً من أمراء المهدية وخاله هو الدرديري محمد عثمان، من الرعيل الأول من المتعلمين في السودان وأول سوداني يتقلد منصب قاض بالمحكمة العليا، ومن رواد الحركة الوطنية في السودان والذي اختير بعد استقلال السودان عضواً في مجلس السيادة. وقد تربى في كنف خاله هذا بعد وفات والده، وهو صغيرا في العاشرة من عمره.
حياته..
بدأ “معاوية نور” تعليمه في الخلوة حيث درس مبادئ القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة “أم درمان” الأولية ومنها إلى المدرسة الوسطى، وبعد اجتيازه امتحان الدخول بتفوق اختير للدراسة الثانوية في كلية غوردون (جامعة الخرطوم حاليا)، ثم الدراسة الجامعية في الكلية نفسها حيث دخل كلية الطب عام 1927، وكانت له ميوله الأدبية فأخذ يكتب العديد المقالات والتراجم من الأدب الإنجليزي في الصحف والمجلات بالسودان، ومن ضمنها جريدة الحضارة السودانية تحت اسم مستعار هو «مطالع». وبعد عامين من دراسة الطب سافر إلى مصر، إلا أنه أعيد منها بناء على طلب من خاله باعتباره لا يزال صغيرا، وتحت إلحاحه سمح له خاله الالتحاق بكلية الآداب التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت.
وإثناء إقامته ببيروت كان “معاوية نور” يراسل الصحف والمجلات المصرية مثل “مجلة المقتطف” و”الهلال” و”الرسالة” و”البلاغ الأسبوعي” و”جريدة مصر” وغيرها ويبعث إليها مقالاته الأدبية ودراساته النقدية والاجتماعية والفلسفية وبعض قصصه، وبدا من خلال ما كتبه تأثره العميق ب”أميل زولا” و”برناردشو” و “تولستوي” و “دستويفسكي” و”هيمنغواي” و”تشيكوف” و”ميلتون” و”شكسبير” و”العقاد”.
انتقل “معاوية نور” إلى القاهرة بمصر ليعمل بالصحافة، وعين محرراً بجريدة مصر ومشرفاً على صفحاتها الأدبية والتي تضمنت الكثير من مقالاته وأبحاثه وقصصه. وتعرف هناك على الأديب المصري الشهير “عباس محمود العقاد”.
الكتابة..
كان “معاوية نور” يطبق في كتاباته القواعد الغربية في النقد الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة، إلى أن ساهم في التأسيس لنقد الغربي في كل عمل أدبي تناوله، وكان غزيراً في إنتاجه الذي شمل مختلف ضروب القصة والشعر والمسرحيات. وقد تميز أسلوبه في النقد بالتجرد والموضوعية وعرف عنه تناوله أعمال كبار الأدباء بالجرأة نفسها التي تناول بها أعمال الناشئة من الكتاب. فانتقد أعمال كتاب أمثال “سلامة موسى” و “إبراهيم المازني” ووصفها بأن فيها تكلف وصناعة، وعاب على “سلامة موسى” عدم الحزم والنهائية في كتاباته النفسية.
وإلى جانب النقد كتب “معاوية نور” القصة الطويلة والسيرة وترجم الكتب. وتميزت كل كتاباته بالواقعية، وتحتل قصص “معاوية نور” ودراسته موقع الريادة والصدارة في الأدب السوداني، ويرى القاص والناقد “مختار عجوبة” أن (معاوية هو أول من كتب قصة قصيرة مكتملة من الناحية الفنية).
ثاقب الرأي..
في مقالة بعنوان (معاوية محمد نور: كبرياء البُرْءِ من عقدة الدونية) يقول ” د. النور حمد” : “يتميز معاوية على سائر أبناء جيله بكونه القلم الذي ظل يشغل الساحة الفكرية السودانية، حتى بعد مرور قرابة السبعين عاماً على موته المأساوي المبكر. خرج معاوية على الحياة الفكرية السودانية في عشرينات القرن الماضي كما الشهاب، متوهجاً، مندفعاً في قوةً، وكما الشهاب أيضاً، انطفأ، وتفتت، وتناثرت طاقته الجبارة، في ظلمة السديم الشاسعة. كان معاوية محمد نور نسيج وحده، وأظنه لا يزال، إلى اليوم، نسيج وحده! فهو من جنس العباقرة الذين يعيشون وحيدين، ويموتون وحيدين.. فكر معاوية بشكل مختلف، في وقت مبكر جداً، في بيئة لا ترحب بالتفكير المختلف. نحت معاوية لنفسه من خامة اللغة الصلبة العصية على التشكيل، أسلوبَ كتابةٍ مُمَيَّزٍ. فعل ذلك في وقت كان فيه الكتاب غارقين، حتى آذانهم، في التزويق اللغوي وفي افتعال حشر المحسنات البديعية في نصوصهم. لا يكاد المتأمل في كتابات معاوية يلمح ميلاً إلى تقليد أحد ممن سبقوه أو عاصروه، أو إعادةٍ لتدوير الأفكار، أو الرؤى، أو الأساليب التي كانت سائدة في زمانه. كان معاوية، فرداً، أصيلاً، منمازاً عن القطيع، في فكره، وفي نهج حياته، وفي أسلوبه للكتابة.. أميز ما يميز معاوية عندي، هو أنه لم يحس بالدونية تجاه أحد من العالمين. نعم، كان معاوية كما وصفه الطيب صالح، (ثاقب الرأي في كثير من الأمور). ولقد كان معتدا بنفسه”.
كاتب متعدد..
في مقال بعنوان (معاوية محمد نور.. ألا يمر بكم الدكتور هنا؟) يقول “يحيى فضل الله”: “معاوية محمد نور كاتب متعدد، عقل متسع، يعمل فكره في كل ضروب المعرفة، يكتب عن مختلف المواضيع، يكتب عن مواضيع فلسفية معقدة، يكتب في النقد الأدبي، يمارس كتابة القصة، ويكتب عن أمور اجتماعية تستحق الالتفات إليها. إن قدرات معاوية نور في التأمل والكتابة تستطيع أن تجعل من أبسط التفاصيل موضوعاً له ثقل جوهري، ويصبح الموضوع في حيوية التأمل.. كتب معاوية محمد نور في جريدة الجهاد في 25 مارس 1933م بعنوان (الأهالي بين المرض والصحة) نتجول في هذا المقال ونرى كيف أن اهتمامات هذا الكاتب المفكر بأمور وطنه كانت جادة في تلمس تفاصيل الحياة، لا سيما إن علمنا أن جريدة (الجهاد) جريدة مصرية، كتب في هذا المقال: (ما أعرف أمة تشقى بالمرض والألم الجسماني مثل ما يشقى السودان، وما أعرف شعباً سرقت منه حيويته ومقدرته على العمل والإنتاج مثل الشعب السوداني، فالملاريا والدوسنتاريا والبلهارسيا وخلافها من الأمراض المضعفة للجسم، المنهكة للقوى ما زالت تعمل بين جميع أهالي السودان عملها، وخاصة بين الفلاحين عمود الأمة الفقري ورجالها العاملين وقد ازدادت الأمراض في الأعوام الأخيرة ازدياداً وانتشرت أمراض جديدة لم تكن معروفة بهذا القدر في سابق الأيام وعندي أن الفاقة وما ينتج عنها من سوء التغذية ورداءة السكن هي السبب الأول في انتشار الملاريا والدوسنتاريا والجدري بطريقة وعلى منوال مفزع في مديرية دارفور، فقد توفي من الجدري وحده في مديرية دارفور في أعوام ثلاثة نحو1293 نفساً، هذا هو الإحصاء الرسمي، من يدرينا؟ فلعل ما لم يُحص أو ما لم يُستطع إحصاؤه كان أكبر من هذا العدد)”.
ويواصل: “إن معاوية نور يعري الواقع الاجتماعي والاقتصادي للإنسان السوداني في فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وفي كلماته ثورة واضحة ضد هذا الوضع المتدهور، ويربط ذلك بقدرة هذا الإنسان على الإنتاج: (زرت أثناء الصيف الماضي بعض مدن وقرى النيل الأزرق بمديرية الفونج، ورأيت الفلاح السوداني عن كثب يعمل بصبر عجيب وهو يكاد من الجوع والمرض لا يستطيع الحراك، وقد رأيت أولاده يسكنون معه في كوخ صغير من القش لا نوافذ له وليس به أثاث، رأيت هذا الرجل يعمل والعرق يتصبب من جبينه وسط المستنقعات الموبوءة بالبعوض، فإذا فرغ من عمله أوى إلى كوخه منهوك القوى، يتناول طعامه، وما طعامه سوى الذرة المسلوقة فحسب، ورأيت أولئك الأبناء تعصف بهم الملاريا؛ فإذا ببطونهم منفوخة وارمة، وإذا بلونهم شاحب حزين، التراكوما هي الأخرى تكاد تودي بأبصارهم، وهم عراة الأجسام، ضعيفو البنية، ويغدون ويروحون تحت ذلك الهجير الملتهب، كيف نطلب إذن من هذا الرجل الميِّت أن يعمل فيجيد العمل وينتج الثروة لبلاده ونحن لا نهيئ له مسكناً صالحاً ولا طعاماً مقبولاً ولا صحة في بدن أو أملاً في راحة مقبلة أو سعادة منتظرة).. إن قلم معاوية محمد نور يغوص عميقاً في تفاصيل مأساة الإنسان السوداني، ويقدم إدانته واضحة للاستعمار الإنجليزي: (لقد رأيت بعض الشباب في قرية من قرى مركز سنار، مرضى بالملاريا والتراكوما، فلما تحدثت إليهم: «ألا يمر بكم الدكتور هنا؟»، أجابوا بصوت واحد مليء بالرجاء والاستعطاف: «كلم المفتش يا جناب الأفندي»، ثم سألت وقد رأيت في بعضهم ذكاء ونشاطاً رغم مظاهر الفاقة والمرض: «أليس عندكم كتاب، مدرسة أولية هنا؟»، أجابوا: «كان زمان في مدرسة هنا وبعدين شالوها والعمدة طلبها تاني من المفتش، لكن لسه ما جابوها». هؤلاء هم السودانيون العاملون دافعو الضرائب وزارعو الأرض الذين من أجلهم ذهب الإنجليز إلى السودان لنشر الحضارة والتقدم بينهم، يعيشون في فقر مدقع ومرض متواصل وفقر روحي وجهل لا يوصف).. قبل ما يزيد عن ستين عاماً، وفي ما قبل منتصف القرن العشرين، كتب معاوية محمد نور هذا المقال”.
وفاته..
توفي “معاوية نور” في سنة 1941، بعد صراع مع المرض.