مثل أي مدينة ولدت الناصرية من خلال حلم جغرافي لوالٍ عثماني قيل انه اصلاحي ومتنور ويحب الجرائد ولديه اربعة نساء وليس بينهن عربية ، وحين اختار واحدة من البلاد التي يحكمها ( العراق ) أختار خادمة شركسية في واحدة من بيوت بغداد العريقة اسمها ( شهربان ) وهي الوحيدة التي كتبت اليه بشوق عندما تم سجنه في الحجاز بأمر من السلطان ثم قتل غدرا في سجنه خنقا بلف الحبل حول رقبته .
وفي رسالتها اليه هذا الغرام الروحي المسكون وقد ترك المدن التي بنائها ونسى لحظات غرامه معها وانتظر مؤامرتهم من أجل التخلص منه :
((لقد اعدت ملابسك بعد ان عطرتها ووضعتها في درج خزانة الملابس. كما وضعت في البوفيه، فناجين القهوة التي تحمل صورتك، والاقداح الصغيرة التي كنت تتناول فيها الكونياك. لا تزال نصف قنينة الكونياك نصف مليئة كما تركتها في تلك الليلة المشؤومة، وكأنك ستعود غدا. ))
لا ادري أن كانت شهربان سعيدة حين اخبرها مدحت باشا انه يفكر بتأسيس مدينة ولا ادري ان كان الوالي يعرف أنه يؤسسها قرب انقاض واحدة من اشهر مدن التأريخ الحضاري ( أور ) واشك انه يعرف ذلك ،لأن العثمانيين لم يكونوا يهتمون بالأثر وإلا لما تركوا اثار النمرود واوروك وبابل وأور وسواها عرضة لسرقات قناصل الدول الكبرى والمنقبين والرحالة المغامرين .
المهم تأسست الناصرية وتحدثت كثيرا عن خواطر التأسيس وتأثير الفرات وانكساره المؤثر في حياة المدينة والذي يسمى ابو جداحة حيث النقطة الذي تغرق منها المدينة في موسم الفيضان ، والواقعة الان في منطقة الموحية.
منذ مولدها وحتى اليوم المدينة تتسع بعشوائية رزق اهلها والقادمين اليها ،ومعظم الأحياء الجديدة اتت من توسعت الرفاه الاقتصادي او العطش او حلم العرفاء المطوعين من اهالي الريف بالحصول على عقاري وقطعة ارض ليبنوا لهم بيتا في الناصرية فولد من اجلهم حي العسكري ، حتى غزو الكويت كان له تأثيرا في جغرافية المدينة ومعها توسع وولد حي اريدو . وشهداء الحروب ايضا اسسوا لهم حيا .
وهكذا تتسع المدينة بأيقاع قدرها مع الحدث السياسي والعسكري والاقتصادي ،وربما الناصرية وكل مدن العراق تنمو بفعل المتغيرات المتعددة ،وحتما تنوع واختلاف طبيعة تلك المتغيرات قد لا تنشئ مجتمعا عمرانا وخدميا جيدا ،فيما كل مدن اوربا ينشئها العامل الاقتصادي فقط بعد ان اختارت حاضنتها التاريخية منذ عهود بعيد.
صورة الناصرية في تقديري هي صورة من يلد فيها وعليها ، وهو شرط انتماء الانسان في احقية الكتابة عنها واليها ، واليكم ما يقوله ابن بطوطة في المدن :انها يراها لأبنائها فقط وهو ليس سوى مجرد عابر ،يكتب عن الذي يراه ويسمعه .
أما المذهل الايطالي إيطاليو كالفينو فيقول عن المدن :انها مثل صيرورات الروح ننتمي اليها قبل ان تنتمي اليها لحظة المطارحة بين الاباء لنولد نحن.
هذا يعني ان المدن مسكونة بروح الولادة الغيبة وعليك انت ان توقد في بهجتها ما يجعلها تتفاخر ان تكون مدينة ،ويتم هذا من خلال صيانة ذكريات الماضي بتجميل الحاضر ، تعبد شوارعها وتؤسس حدائقا لها ،تبني مدارس ومشافي وملاعب اطفال ، واشياء كثيرة ،ومن بعضها ان تحافظ على ما كان موجدا ،وكلما تراه وتعود اليه تشعرك روحك بحماس الانتماء اليها.
أشعر ان الناصرية تختلف عن المدن كلها ، ثمة لغز يختبئ في طيات عباءات نسائها ،وتفسيره لا يتم إلا بمعرفة اسرار تلك البحات المجنونة في نحيب امهاتنا ومطربينا وقراء احزان عاشورنا ، وهذه الخفايا هي من تجدد في المدينة هذا التنوع الابداعي على مستوى الحلم والواقع .
الناصرية ومن يلد عليها ، خاطرة لمساحة التذكير ومعرفة المدينة ان كنت تعيش فيها أو بعيدا عنها ،وحتما الغربة والحنين يتساوى في قيمة الحضور مع من يعيش فيها الى اليوم وهذا يحصل حين تغمض اجفانك انت ويغمض اجفانه هو.