19 ديسمبر، 2024 5:44 ص

نهـاية العـراق .. والتـورط الأميـركي فـي حرب لا نهـاية لهـا

نهـاية العـراق .. والتـورط الأميـركي فـي حرب لا نهـاية لهـا

 الكتـاب الذي نحن بصدد مراجعته أثار ردود فعل متباينة في أوساط المحللين والباحثين الاميركان المعنييـن بالشؤون العراقية وقضايا الشرق الأوسط وإستراتيجية الإدارة الأميركية في المنطقـة . ويأتي هذا الاهتمام الكبير بالكتـاب ليس لأنه يعالج موضوعاً بالغ الجدية فقط وهو حرب إسقاط نظام صدام حسين وإنما أيضا لكون المؤلف يعتبر من بين أكثر أصحـاب الخبرة والمعرفة في الشأن العراقي داخل الإدارة الأميركيـة ، إذ انه يتمتع بخبرة فائقة اكتسبها من موقعه كسفير سابق وخبير في الشؤون الإستراتيجية والدفاعيـة مما سمح له بالاطلاع من حيث موقعه على الكثير من التقارير والوثائق السرية التي كانت تقدم للكونغرس ولا تذاع أو تعرض على الرأي العام . فالمؤلف حين كان يعمل لدى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي مع اندلاع الحرب بين العراق وإيـران ، وخلال السنوات التي أمضاها مع اللجنة قـام بعدد من الزيارات إلى العراق وعمل في التشريعات المتعلقة به . ففـي عام 1988 ، ترأس بعثة قامت بتوثيق استخدام العراق للأسلحة الكيمـاوية مما دفع مجلس الشيوخ إلى الموافقة بالإجماع على فرض عقوبات شاملـة .
  وكـان موجوداً في العراق حيث قام بتغطية حرب تحرير الكويت وانتفاضه 1991 ، حيث ساهمت تغطيته التلفزيونيـة والمكتوبة للكارثة التي أصابت الأكراد في جعل الولايات المتحدة تنشئ منطقة الملاذ الآمن في كردستـان العراق . كما كان المؤلف بين عامي 1998 و 2003 ، عضواً في هيئة ( INDICT ) المنظمة غير الحكومية في لنـدن والتي كانت تهدف إلى رفع قضايا جنائية ضد صدام حسين وغيره من كبار القادة العراقييـن .
  وقـد قام المؤلف منذ الإطاحة بـ صدام حسين بزيارات متكررة إلى العراق بصفته خبير في القانون الدولي لشبكة ( ABC News ) خلال أسابيع الفوضى التي تبعث انهيار النظـام .
  لقـد بذل المؤلف جهداً ملموساً لإثبات أن هناك روابط بيـن حرب العام 2003 وحرب تحرير الكويت في العـام 1991 ، متناولاً في السياق الحرب العراقية – الإيرانية . ففي رأي المؤلف ، أن الولايات المتحدة شجعت صدام حسين على غزو الكويت فـي العام 1990 ، كي تتذرع بذلك لاحقاً لضرب قدرات العراق الاقتصاديـة والعسكرية بعدما وجدت انه اكتسب بفعل الحرب مع إيران قوة وخبرة عسكرية تشكل خطراً فـي المستقبل على مصالحها الإستراتيجيـة .
  كتـب المؤلف عن العراق من الداخل ، كشف حساب للتورط الأمريكي في هذا البلد . رسم صورة قاتمة عن مستقبـله ، قدم في كتابه سرداً محدداً لمبادرة سياسية أميركية فاشلة أسفرت عن تفكك العراق وعن شرق أوسط أكثر خطورة . حيـث أن السياسة الأميركية جعلت العراق ينجرف لنزف دماء لا يتوقف ليفتح الطـريق أمام احتمال اندلاع حرب أهلية لا يشهد العالم لها مثيلاً من قبـل .
  وحـاول المؤلف أن يبرهن وجهة نظرة في أن العراق الموحد ذهب إلى غير رجعة بعد أن كتب الأمريكان شهادة وفاتـه . ويبقى عليهم الآن الاعتراف بخطيئتهم الكبرى واستخراج شهادات الميلاد الخاصة بدويلات المذهبيـة والاقوامية . ففـي شماله ، كردستان ، وهـي شبه دولة ذات استقلال مزيف بكل المعايير باستثناء اسمها ، مواليه للغرب ولإسرائيل . وفـي الجنوب قامت الأحزاب الدينية الشيعية بتكوين دولة أسلامية موالية لإيران تدار بعض أجزائها بصراحة تذكر بنظام طالبان فـي أفغانستان . أمـا الوسط السني من العراق فيعانـي من الفراغ السياسي وتعمه الفوضى ، تحدد هويته فيما بعـد ، فحيثما توجد آية سلطة محلية فهي فـي أيدي شيوخ العشائر والعبثيين السابقين وتنظيم القاعـدة .
  ويـذكر المؤلف : إذا كـان ثمن توحد العراق وجود ديكتاتورية أخرى فان هذا سيكون ثمناً باهضاً فاحش الغلاء ، ويقول بهذا الصدد : إن الأمريكان خاضوا في العراق حرباً مفتوحة يمكن أن تستمر مئـة عام ، وان سياساتهم التي أعقبت غزوهم واحتلالهم لهذا البلد قد فرقته أربا وانه لم يعد بمقدور الأمريكان ولا غيرهم إعادة تجميعه ، وان حرباً أهلية مدمرة ستكون عنونا للسنوات المقبلة حتى تستقر عملية التقسيم ويتم الانتهاء من ترسيم حدود هذه الدويلات وكتابة شهادات ميلاد العراق الجديـد .
  ويـؤكد المؤلف : إن الولايات المتحدة التي غزت واحتلت العراق بهدف معلن هو تحويله لبلد ديمقراطي كنموذج يمكن تعميمه في الشرق الأوسط قد دمرته تمامـاً . فيستقريء المؤلف معالم ما اسماه بالجريمة الكاملة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق وكيف أن إستراتيجيتها فشلت في الحفاظ على نسيج الوحدة فـي البلاد كون أعدادها وتنفيذها جاء من قبل سياسيين بعضهم غير متمرس وبعضهم فاسد أسندت إليـه المهمة فقط لولائه لصقور بوش من المحافظين الجـدد .
  ويـطالب المؤلف الإدارة الأمريكية بان تعترف بخطيئتها وتسلم بان لاشيء  سيعيد توحيد العراق وينتهي سريعاً من ترسيم الحدود الجديدة وتحديد الذي سيحكم طبيعة العلاقات بين هذه الدويـلات .
  ويشـير المؤلف ، إلى أن معالم الدولة فـي العراق قد تلاشت رويداً رويداً منذ الغزو ليس بسبب الإطاحـة بنظام صدام حسين ولكن بتفتيت جميع مؤسسات الدولة ، وان التقسيم هو المخرج الوحيد لأميركا من العـراق . ويقول : علينا تصحيح إستراتيجيتنا الحاليـة ، لان محاولة بناء مؤسسات وطنية فـي بلد دمرنا فيه كل أسس ومقومات الدولة ليس سوى جهد ضائع ولا يؤدي إلى أي شيء سوى الإبقاء على الولايات المتحدة في حرب بلا نهايـة .
  واتهم المؤلف أدارة بوش الابن بجر الولايات المتحدة للحرب من اجل الحرب حيث كانت لديها رغبة محمومة لتكرار تجربة أفغانستان ، وكان الدور على العراق كهـدف قـالت لها نفسها ، انه سهل غاية السهـولة .
  ويـضيف المؤلف : إن نواباً كثيرين ديمقراطيين وجمهوريين يرون ـ وهذه هـي الحقيقة ـ أن الولايات المتحدة فعلت كل شيء دون جدوى ، وان شيئاً لم يعد بمقدورها عمله ، وانه لابد من الاعتراف بالفشـل ، وحسنا فعلنا  جمعنا قواتنا ورحلنا ، وتـركنا العراقيين يخوضون معركتهم مع الحد الأدنى من تدخلنا . ويتفق كثيـرون ـ والكلام مازال للمؤلف ـ على أن كل ما فعلناه في العراق محاولات لا طائل منها سوى تحقيق ما لا يمكن  عمليا تحقيقه أو ربما الآن أو في مرحلة مقبلة ، البقاء فقط لحفظ ماء الوجه منذ سقوط صدام حسيـن .
  واتـهم المؤلف أدارة بوش بارتكاب أخطاء قاتلة في عراق ما بعد صدام ، وتبنـى استراتيجيات تؤكد عدم إدراكا لطبيعة العـراق كبلد متعدد الطوائف والأعراق ، وكذلك العوامل التي تحكم العلاقات بين هذه الطـوائف ، وان هـذه الأخطاء تحول دون نجاح عمليات الأعمار أو إقامة حكومة مركزية قوية في المستقبـل .
  ويقـول المؤلف : إن المأزق الذي وضعت الادارة الامريكية فيـه ، هو دفعها للأمور في طريق يمكن أن يطـالب فيه بعضهم بإقامة ديكتاتورية لاستعـادة الأمن والدولة الموحدة . ويـؤكد المؤلف مخاوفه من أن يؤدي المنحنى الخطير الذي تتخذ الإحداث إلى هـذا المسار . ويضيف : انه منذ غزو العراق سقط الآلاف من العراقيين بين قتلى وجرحى نتيجة انتشـار أعمال العنف الدموي في العراق بعد فشل سياسات الاحتلال الأمنية ، كمـا سقطت إعداد كبيرة من الجنود الأمريكان ما بين قتلى وجرحى أيضا بسبب هذه السياسات التي لا توفر أي نوع من الأمن للأمريكان ولا لشركائهم في التحالف ولا للعراقييـن .
  إن الصـورة الآن ـ الكلام لمؤلف ـ تؤكد أن الولايات المتحدة  لا تعرف ما تفعله فـي العراق وكذلك لا تعرف ما ستفعله فيما بعـد ، وتبدو عاجزة لا حيلة لها في مواجهة الأوضاع هنـاك .. أنـنا ذهبنا إلى العراق بقناعة متغطرسة بأننا قادرون على إعادة تكوين بلد وفق ما نريـده ، ولقـد فشلنا فشلاً ذريعاً ، وعلينا الآن أن نفعل ما كان علينا أن نفعله منذ البداية ، أن ننزل عند أرادة مكونات العـراق فهي التي وصلت إلى أن بلداً واحداً ليس ممكناً سوى بالاسم ، ولقد توصل العراقيـون ـ والكلام ما زال للمؤلف ـ إلى حل يتمثل في الواقع بثلاث دول وافـق عليه 89% من الشعـب . صحيح أن العرب السنّة لم يقبـلوا الدستور ولكن ما البديل ؟ فالدستور الذي يقبله العرب السنّة كان سيرفضه 80% من سكان البـلاد .
  يـصف المنتقدون الكثيرون (الدستور) بأنه وصفة لتقسيم العراق ولكن الحقيقة هي انه ربما يكون الفرصة الأخيرة للحفاظ على وحدته . صحيح أن الأكراد لا يريدون البقاء ضمن العراق الذي يكرهه معظمهم ألا إنهم يدركون أن السعي وراء الاستقلال الرسمي مشوب بالمخاطر وربما سيجعلهم ذلك راضيين عن استمرار استقلالهم من حيـث الواقع الذي يتيحه لهم الدستور . أما الضغوط الخارجية لعراق أكثر اتحاداً فلـن تحقق سوى تعميق المطالبة بالاستقلال كمـا ظهر في مغامرة بريمر الفاشلة في مجال بناء الدولة . وليـس على احد أن يوهم نفسه في شأن المدى الطويل إذ فـي اللحظة التي يتيح فيها المناخ الدولـي فرصة قيـام كردستان مستقلة فسوف يعلن عنها الأكـراد .
  لقـد حدد المؤلف بدايات مشاكل الولايات المتحدة في العراق بحل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية وكيفيـة تعاملها مع مؤسسات الدولة معتبراً أن تسريح الضباط والجنود كان أكثر القرارات خطورة وأكبرها ضرراً للمشروع الأميركي نفسـه ، كونه البداية في عملية تدمير مؤسسات الدولة وكيانهـا العام ، وقد تلته سلسلة أخرى من الأخطـاء القاتلة ، وفـي مقدمتها رفض تشكيل حكومة عراقية مستقلة ، والارتباك فـي تشكيل الإدارات الانتقالية ، والإضرار على تهميش دور القوى العراقية الداخلية التـي كانت تؤيد إسقاط النظـام ، وإناطة مهمة حكم العراق بمجموعة من البيروقراطيين الاميركان والبريطانيين والدول الأخرى المشاركة فـي التحالف الذين يجهلون طبيعة وتقاليـد ونفسية الشعب والمجتمع العراقـي .
  وحـول الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة في العـراق ، أشار المؤلف بأنه لا يكون مستعصياً تماماً ، فالدين لم يبلغ أبدا درجة الأهمية السياسية التي بلغها الآن … وربما تتراجع أهميته مع مرور الزمـن .
  كمـا إن النخبة العراقية من المهنيين ورجال الإعمال والبيروقراطيين مازالت منذ أمد بعيد علمانية . وهم مذهولون إزاء التركيز فـي العراق اليوم على ما أن كان المرء شيعياً أم سنياً ، لم تكن أبدا هذه الاعتبارات مهمة فـي نظرهم وهم يلاقون صعوبة في فهم أهميتها لدى طبقـة . لا يعرفونها من العراقييـن .
  لقـد أطلقت الديمقراطية المشاعر فـي العراق بمـا فيها التعصب الديني لدى الشيعة وما زال أمامها متسع قبل أن تتلاشى وربمـا لن تتلاشـى .
  يعـتبر تقسيم العراق ـ وفق رؤيـة المؤلف ـ حلاً سياسياً لكل من كردستان والجنوب الشيعي والوسط العربي السني لكونه يحول ما تم بالفعل إلى وضع رسمـي ، فالتقسيم هو الذي جعل كردستان مستقرة وحقق نسبياً الشيء ذاته فـي الجنوب ، وهـو حل عراقي مدون في الدستور وليس حلاً مفروضاً ، أما العكس المتمثل في الجهود الأميركية لبناء دولة موحدة ذات جيش وشرطة لا مكان فيهما للطائفية والعنصرية فلم يحقق هذه النتيجة بل ولم يتقدم كثيراً نحو تحقيقها ولو بذلت الولايات المتحدة جهوداً جادة فلن تنجح إلا فـي زعزعه الاستقرار فـي مناطق العراق الآمنة اليـوم . فالأكراد سيقاومون بكل عنف أي مسعى لجعلهم عراقييـن بدرجة تتجاوز مجرد التسمية كما أن تكون وحدات سنية / شيعية مختلطة في الجيش والشرطة فـي ظل واقع الحرب الأهليـة فيعتبـر وصفة لتفويض الفعالية ولاندلاع عنف محتمل داخـل هذه الوحـدات .
  يمثـل القول بالتقسيم وسيلة لإخراج معظم قوات التحالف من العـراق بسرعة ولكنه لا يحـل مشكلة بغـداد نتيجـة غياب أي حل مناسب لهـا .
  لا يوجـد حل جيد للوضع الرديء فـي العراق ، فلقد تفكك البلد وبات يخوض حرباً شبه أهلية خفية وليس فـي وسع الولايات المتحدة أن تعيد تركيب البـلاد كما أنها غير قادرة على إيقاف الفوضى ولكنها لو قلصت من طموحاتها سيكون فـي مقدورها بسط الاستقرار فـي بعض إرجائها واحتواء الحرب الأهلية . إلا انه يتوجب عليها أن تسارع فـي الأمر فطالما بقيت الولايات المتحدة في العراق وهـي تطارد غايات مستحيلة لن يمكنها توفير القيـادة والموارد اللازمة لمواجهة التحديات الأكثر خطورة على الأمن الأميركي بمـا فيها سعي إيران الحثيث وراء الأسلحة النوويـة والتهديد المتواصل المتمثل في تنظيم القاعـدة .
  فمـع فرضيات اندلاع الحرب الأهلية الان او بالمستقبل باتت الهوف بين شيعة العراق وسنته تزداد اتساعاً ، فالنظام العراقـي المتمثل في فدرالية رخوة يتيح لكل من مكوناته تطويـر مؤسساته السياسية والاجتماعية في أمان ودون الحاجة إلى تهديـد بعضهما البعض مما يعني أن الشيعة في وسعهم تكوين جمهورية أسلامية على النمط الإيرانـي بينما يواجه قادة سنة العراق مهمة الحكم الصعبة بالمقارنة مع المسار السهل المتمثل فـي المقاومة . والحكومة العربية السنية سواء كانت من البعثيين الجدد والإسلاميين ستكون لديها حوافز قوية للقضاء على المتمرديـن .
  الحـرب الأهلية في العراق ـ كما يرى المؤلف ـ هـي النهاية غير المرتبة لبلد لم ينجح أبدا كاتحاد طوعي وتسبب  فـي ألحاق التعاسة بمعظم سكانه وفي معظم الأحيـان . ومـن خلال قيامها بغزو العراق وبسـوء أدارته لاحقاً عجلت الـولايات المتحدة من انهيار العراق كدولة موحدة ألا إنها لم تسببه . أما التقسيم ـ أي الحل العـراقي ـ فلقـد حقق الاستقرار فـي معظم أرجاء البلد ويجب القبول بـه لهذا السبب ، وليس فـي وسع الولايات المتحدة . فـي بغداد وفي غيرها من المناطق السنية / الشيعية المختلطة أن تساهم في حل ، فليس هناك في المستقبل المتطور على الأقل ، إنها مأساة وليس ساراً أن يعترف المرء بعدم وجود سوى القليل لمعالجتهـا . ولـكن هذا هو الواقع ولن تحقق أية غاية من خلال إطالة أمد الوجـود الأميركي في أي جزء من العراق العربـي .
  كـان مهندسو الحرب يعتقدون أنهم قـادرون على تغيير الشرق الأوسط وهو ما حققوه فعـلاً .
  الحـروب الأهلية الحديثة حين تندلع تستمر بقـوة دافعة خاصة بها ومن شأن الفضائع أن تؤدي إلى فضائع جديـدة دون أثارة الاشمئزاز اللازم إلا فيما ندر لوضع حد لهـا . من المؤكد أن غالبية الناس لا تريد الحـرب الأهلية ولا توافق على القتل الطائفـي ، إلا أن الحرب الأهلية تقوي أكثر العناصر تطرفاً ومع مرور الزمن يـزداد عدد الناس الذي ينتمون إلى المتطرفين فـي هذا الجانب أو ذاك .
  وعـلى هذا الأمر يستوجب على الولايات المتحدة الآن أن تسعـى إلى أنجاح الترتيبات السياسيـة الجديدة في العراق بدلاً عن بذل الجهود العقيمة لإلغائهـا ، وهذا يعنـي مساعدة الأقاليم العراقية على تطوير حكوماتهـا وقواتها الأمنية ومؤسساتها العسكرية . وهـذا يصب في مصالح الولايات المتحدة أن تسحب قواتهـا بالكامل . وإذا كـان واحد أو أكثر من مكونات العراق يريد الانسحاب فعلينا أن نسهل عملية طـلاق ودي ، فالحـرب الأهلية ليست نتيجة حتمية لانقسام الدول .
  مـن شـأن العراق وفق رؤية المؤلف المكون من ثلاث دويلات أن ينحل ولن يكون هناك ما يدعوه إلى الحزن إزاء زوالـه ، فالعـراق لم يوفر سوى التعاسة شبـه المتواصلة لمكونات غير السنية التي تبلغ نسبتها 80% من مجموع سكان البـلاد .
  إن وحـدة العراق لم تكن ممكنة ألا بالقوة ومن شبه المؤكـد أن استقلال كردستان هو مجـرد مسألة وقـت ، وإذا أراد شيعة العـراق أن يديروا شؤونهم بأنفسهم أو حتى أن تكون لهم دولة خاصة بهم ما هو المبـدأ الديمقراطي الذي سيحرمهم من ذلك وإذا كـان ثمن العراق الواحد الموحد هو ظهور دكتاتورية جديـدة فهو ثمن باهظ لا يستحق الدفـع .
  المسـؤولون الأميركيون ملتزمون بطريقة رد الفعل بوحدة العراق والرد المألوف لدى التباحث حول تفكيـك العراق هو التأكيد بأنه سيزعزع الاستقرار ولكن هذه قراءة خاطئة لتاريخ العراق الحديث ، فالحفاظ على وحـدة العراق بالقوة هو الذي يزعزع استقراره مما أدى إلى جيوش كبـيرة وحكومات قمعية وموارد نفطية مبـددة وإبادة جماعية في المداخل وعدوان فـي الخارج . واليوم فلقد أسفر فشل الجهود الأميركية فـي بناء عراق موحد ديمقراطي عن توليد تمرد شرس ودولة خاضعة لحكم رجال الديـن .
   لقد أورد المـؤلف مجموعة من النتائج التـي أفرزتها حرب تحرير العراق متمثلة في :
• انتقـال الحكم من الأقلية السنية إلى الغالبية الشيعية وهو أمر يحصل لأول مرة في تاريخ العالم العربـي منذ 1300 عـام .
• اندلاع صراع طائفي مذهبي واكتسابه طابعاً دموياً اتسم بالتصفيات الجسرية وارتكاب مجازر على الهويـة وتطهير عرقي وتهجير طائفي وتفجيرات عشوائية دمويـة .
• تحـول الصراع والنزاع الطائفي إلى حرب أهلية جعل العراق نهراً من الدماء بحيث تم استكمال مشروع صدام حسين التدميري للمجتمع والدولة العراقية الذي بدأ بحربيه ضد إيران ومن ثم احتلاله الكويـت .
• تحـول العراق إلى مستورد للجماعات الإرهابية ومركز للإرهاب الدولي ومُصدر له من خلال استقطابه الجماعات الجهادية والتكفيرية الأصولية التي اعتبرت الوجود العسكري والمدني الأجنبي والسيطرة الشيعية هدفاً مشروعاً للجهاد الإسلامـي .
• تكـرس منطقة كردستان كإقليم مستقل وهو ما يفتح الأبواب أمام ظهور صراع جديد بين الكرد والشيعة على الموارد النفطيـة .
• أثـارة الجار التركي المتوجس من تنامي الإقليم الكردي وتأثيره في الحياة السياسية والاقتصادية وانعكاسات ذلك على الميول الانفصالية للأقلية الكردية في البـلاد .
• تـحول الجنوب الشيعي إلى ما يشبه الكيان المستقل للشيعة مدعوماً ومسيطراً عليه من إيران فضلان عن مخططان وطموحات قوى شيعية إسلامية لتشكيل كيان مستقل عن الدولـة .
• تنـامي مشاعر المهانة والإذلال لدى السنة لزوال هيمنتهم على البـلاد .
• تشـكل بغداد ومناطق الوسط كمدى جغرافي لسيطرة السنة في المستقبـل .
• يعيـش العراق عملياً الآن تقسيماً حقيقياً تبدو فيه الدولة الموحدة من المستحيلات .
• ظهـور إيران كدولة مستفيدة بالمطلق راهناً ومستقبلاً من الحرب ، إذ يقع العراق ضمن نفوذها المباشر من خلال أدواتها السياسية المحلية ووجود أجهزتها الاستخبارية فـي كل هيئات ومؤسسات الدولة والمجتمع العراقـي .
• تحـول القوات الأميركية والحليفة في العراق إلى رهينة لدى النظام الإيراني الذي يخوض حرباً على الولايات المتحدة في أراضٍ بديله عن إيـران .
• تحـول إسقاط صدام حسين من إنذار لإيران إلى قوة إيرانية تهدد الجيش الأميركي كل يوم وتلحق بـه أفدح الخسائر البشريـة .
يخـلص المؤلف إلى أن إسقاط صدام حسين كان سهلاً وحدث في ثلاثة أسابيع فقط ، لكن وخلافاً لما تصورته الإدارة الأميركية كنموذج للديمقراطية والتنمية في العالم العربي أصبح العراق ساحة يقتل فيـها الجنود الأميركيون يومياً إلى درجة أن ذلك تحول إلى هم وهاجس يقوض وحدة الشعب الأميركي على خلفية البقاء أو الانسحاب من العراق وقتل يومي ومذابح وحشية في حق المدنيين والنساء والأطفال العراقيين وبالتالـي تبدد قيمة ومفهوم نشر الديمقراطية في هذه المنطقة التي عملت أنظمتها الدكتاتورية كل ما يمكن أن تفعله لإظهار إن الديمقراطية لا تحمل للشعوب ألا الدمار والقتل والنزاعات العرقية والمذهبيـة . والعـراق أصبح بفضل الإدارة الأميركية وتدخلات جيرانه السلبية أفضل مثـال ونموذج على فشل مشروع بوش لنشر الديمقراطية والحرية في هذه المنطقة من العالم التي يبـدو أنها ستشهد لسنوات طويلة عدم الاستقرار والفوضى والنزاعات الأهليـة .
  لقـد عرض المؤلف الطريقة التـي أدت بها خطط الغزو التي وضعتها أدارة بوش إلى هــذه النتائج ، فهو يظهر كيف قامت الولايات المتحدة بغزو العراق ، وهـي مقتنعة بإمكانية بتر رأس النظام ليخرج الناس إلى إعمالهم في اليوم التالـي . كمـا يظهر الكتاب  كيف كأن النموذج العراقي يقصـد منه ترويح دول مارقة أخرى بمن فيها إيران وكوريا الشمالية وسوريه ، كـي تتخلى عن برامج أسلحتها للدمار الشامل وعن دعم المتطرفين . غيـر أن التجربة الأميركية في العراق نجحت بشكل واضح في تشجيع إيران وكوريا الشمالية الاستمرار والتمادي في سياساتها وبرامجها التسليحية وليس فـي ترويعها . والذيـن  وضعوا  هذه الإستراتيجية لم يأخذوا في الاعتبار النتائج المترتبة عن عدم مضي الغزو وفق المخطط له ، أي فـي حال انهيار المجتمع العراقي وفـي حال أخفقت صناعة النفط فـي تحقيق ما يكفي من إيرادات وفي حال تفكك العراق وفي حال قيام عناصر من النظام القديم بشن حرب عصابات ناجحة … لـم ينتظروا تداعيات الفشل ولم تكن لديهم خطة بديلة .
  إن الكتـاب لم يهدف إلى أعادة الخوض في الجدل حول أن كان على الولايات المتحدة أن تغزو العراق فـي عام 2003 . إن مـا يريد طرحه هو أن السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ إسقاط صدام حسين خاطئة في بلورتها وفي تنفيذهـا . فالغـاية التي يتوخاها مؤلف الكتاب تتمثل في الحث على تبنـي سياسة تمكّن الولايات المتحدة من أخراج نفسها من فوضى العراق ومن افتراضات الحرب الأهلية المتصاعـدة … ولابـد لهذه الإستراتيجية أن تستند إلى المصالح الأميركية وان تعكس حقيقة كون العراق قد تفتت ولم يبق منه سوى الاسـم … كما يريد الكتاب أن يعرض انه يترتب على الولايـات المتحدة احترام مسار التنافر الذي اختارته مكونات العراق بأنفسهـا .
  فـالخطأ الرئيسي الذي اقترفته الإدارة الأميركية يتمثل في النظر إلى العراق ليس كما هو وإنما كما كـانت هذه الإدارة تتمنى أن يكـون . ولقـد أدى ذلك إلى تمسك غير واقعي وغير مجدٍ من قبلها بالحفـاظ على وحدة دولة لم تظهر أبدا كنتيجة طوعية لرغبات شعبها ولم يدم تماسكها ألا بالقـوة .

* الكتـاب : نهـاية العراق ، كيـف تسبب القصور الأميركي فــي إشعال حرب لا نهاية لها ، تأليـــف – بيتر دبليو . غالبريت ، ترجمــــة – أياد احمد ، ط1 ، الـدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ،2007 ، 278 صفحة .
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات