نواصل مناقشة الحكمة الإلهية:
وقبل تناول هذا الموضوع، أردت أن أقول، إن أي دين يشتمل على مقولات تتنافى مع حكمة الله سبحانه بشكل واضح، لا بد أن يكون ذلك مبررا لعدم تصديقنا به. أما فيما يتعلق الأمر بحكمة الأحكام أو الحكمة التشريعية، فيجب بحث الموضوع من ثلاث زوايا. من زاوية ثبوث صدور الأحكام من الله، ومن زاوية ثبوت ثبات هذه الأحكام وعدم نسبيتها، وبالتالي تغيرها حسب تغير الزمان والمكان، والاقتصار على ثبات مبادئ الأحكام كمبدأ العدل، ومن زاوية إدراك الحكمة أو الشك فيها. فإذا ثبت لنا صدور الأحكام من الله لا بد لنا – أي لمن آمن أنها صادرة من الله دون إلزام غيره بالإكراه – من التعبد بها والتسليم لها. وأما إذا ثبت لنا عدم الثبات، بل ثبات المبادئ فقط، فتكون المسألة محلولة، كون تقدير الحكمة، وكذلك العدل، يكون متروكا للإنسان، وبالتالي يكون نسبيا ومتغيرا، إلا ما ثبت ثباته بحكم العقل. نعم يمكن أن نطرح تساؤلات عن ماهية الحكمة التي تكمن وراء العديد من الأمور، ومنها على سبيل المثال، ما هي الحكمة من إرسال رسل وأنبياء واختيار أوصياء وأئمة، في الوقت الذي نجد رغم كل الرسل والأنبياء والأوصياء والأولياء والأئمة والقديسين، أمامنا عددا يكاد لا يُحصى من الكيفيات لفهم كل دين من الأديان، بما في ذلك الإسلام، حيث يكون التعارض بين فهم وآخر بدرجة حادة من التقاطع والتنافر يقترب من التناقض. فإذا كان الاجتهاد متروكا للإنسان، فيُسمَح أن يُطرَح سؤال، لماذا لم يترك تنوع الاجتهاد، من غير أن يُنسَب للدين، حيث يُكفِّر البعضُ البعضَ الآخر، ويدعي كل فريق احتكار الحق والشرعية والأصالة والاستقامة واستحقاق دخول جنة الخلد. هذا وغيره تبقى أسئلة قد نجد إجابات عليها، ولكنها لن تكون إجابات وافية ومقنعة تمام الإقناع. نعم عندما أعلم علم القطع واليقين، لا علم الظن والتخمين ولو على نحو الترجيح، بأن هذا يمثل دين ورسالة ووحي الله، عندها سأسلم أمري لأمره تعالى، وأقول ما قالته الملائكة «سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحكيمُ». ولكن ما ذنب الذي لا يبلغ اليقين، دون أن يكون راغبا في الشك، بل يجد الشك مفروضا عليه لاإراديا. فاليقين لا يملكه في تقديري إلا المُدَّعون به ظاهرا، والشاكّون باطنا، وبسطاء المتدينين، وسُذج المقلدين، والمتعصبون المتطرفون، وإلا فكل المؤمنين العقلاء، إنما يؤمنون، أو هكذا ينبغي، على نحو الظن في كل ما هو ظني، وعلى نحو القطع حصرا فيما هو قطعي. ولكن أرجع وأقول إن عدم إدراك تمام الحكمة لا يبرر التسرع بالرفض دون فحص سائر الأدلة. لكن لا بد من استباق ما سيأتي من بحوث في طرح سؤال مشروع، وهو أي حكمة تكمن يا ترى في بعث دين يختلف المؤمنون به بهذا القدر من الاختلاف، وتكون نصوص الوحي الإلهي فيه متعددة المعنى إلى هذه الدرجة الحادة، أي أن تكون في أغلبها من المتشابهات حسب التعبير القرآني نفسه؟ فحكمة الله ولطفه يوجبان وضوح الخطاب الإلهي، وسد الباب أمام سعة التعدد أفقيا ودرجة الاختلاف عموديا في تأويلات نفس النص، إلى ما يكاد يكون أحيانا غير محدود.