19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

الزيارة الأربعينية …تحليل وتقويم

الزيارة الأربعينية …تحليل وتقويم

زحف مليوني كبير كل عام نحو كربلاء المقدسة من كافة أنحاء العراق والعالم العربي والإسلامي , يقدر بعشرة مليون زائر , يبدأ في الخامس من شهر صفر وينتهي في العشرين منه , ذكرى أربعينية سيد الشهداء الإمام الحسين ( ع) .. رغم البرد القارص والإمطار في فصل الشتاء والشمس الحارقة والحر الشديد في فصل الصيف بدعم حكومي واضح من خلال صرف الوقود كالنفط الأبيض وغاز الطبخ (400مليون لتر مشتقات نفطية و 700 ألف أسطوانة غاز ) لمدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف فقط , وتأمين سيارات النقل للزائرين , إضافة للحماية الأمنية بتحشيد أكثر من (100) إلف عسكري ومتطوع , مع تقديم الخدمات الطبية المتمثلة بالمستشفيات الميدانية والمفارز الطبية المدعومة من إيران أيضا , التي أرسلت 900 سيارة إسعاف برفقة تسعة ألاف من الكوادر الطبية لخدمة الزوار, مع كميات من المواد الغذائية المتنوعة.
أضف إلى ذلك تبرعات العراقيين الطوعية بمئات الملايين من الدنانير والمواد العينية , حيث تقدر المبالغ المصروفة على تلك الزيارة بأكثر من ملـــــــيار دولار سنوياً , حتى أعمال التنظيف يتطوع لها عراقيون وأجانب كعمال نظافة , بما فيهم (محمود أحمدي نجاة ) رئيس جمهورية إيران الأسبق الذي يتطوع سنوياً كعامل نظافة في مدينة كربلاء المقدسة إثناء فترة زيارة الأربعين مع بقية المتطوعين الإيرانيين .
مع قيام بلديات المحافظات بتوفر الآليات المطلوبة .إن الجميع هنا الغني منهم والفقير المتعلم والأمي تراهم في – طريق المشاية – كما يسمى شعبياً , يحملون أدواة التنظيف بكل تواضع خدمةً للزوار وإيماناً منهم برسالة الإمام الحسين الخالدة في التضحية والفداء , هذه التظاهرة العالمية السلمية ضد التطرف وضد العنف تشاهد فيها العطاء الخيالي وتستلهم دروسا في الضيافة والكرم من الأهالي البسطاء الذين لا يتوانون ولو للحظة واحده في تقديم كل ما يمكنهم للزوار دون النظر إلى قيمته وحجمـــــه , و هناك من يقف وسط الطريق ليقدم لك قناني الماء والمناديل أو يرش عليك العطور وماء الورد , إضافة إلى من يقف ويساعدك بكلماته على المشي والتذكير بالثواب, حتى خدمات الانترنت متوفرة في سرادق الأكل والمنام لغرض الاتصال بالأهل والأصدقاء , الأمر ذاته حينما تدخل النساء إحدى مخيمات الاستراحة تستقبلها سيدات وفتيات من اللواتي وهبن أوقاتهن لخدمة الزائرات أسوة بالرجال… تساءلت مرةً لماذا هذه الضيافة المفرطة والصرف الهائل ؟ رغم توقف تصدير الطماطة إلى العراق من قبل إيران وارتفاع أسعارها في السوق العراقية , وانخفاض واضح في العملة الإيرانية مقابل الدولار بسبب العقوبات الصارمة والمتعددة التي تفرضها أمريكا على إيران والتي قد لا تسمح للكثير من الإيرانيين من القدوم إلى العراق هذا العام , رغم التسهيلات التي تقدمها الحكومة العراقية للزوار الإيرانيين من خلال تخفيض مبلغ الضريبة من عشرة دولارات إلى دولار واحد ,وتأشيرة الدخول ( الفيزة) خفضت إلى ( 235) تومان أيراني , بعد أن كانت (380) تومان , بالإضافة إلى الأكل والنقل والمبيت المجاني الذي يقدمه الشعب العراقي للزائرين كافة دون تمييز بين دولة و أخرى ,أو شعب وأخر وهذا ما لا نجده في جمهورية إيران الإسلامية أثناء زيارتنا للمراقد المقدسة فيها سواء في مشهد أو قم وغيرها من مدن إيران , فالجميع يتعامل معك بأسلوب تجاري يعتمد الربح والخسارة ,حتى الدخول إلى المنتجعات السياحية , هناك تسعيرة دخول للمواطن الإيراني تختلف عن الأجنبي, مثلا الدخول إلى حديقة الزهور(باغ كَلها ) في مدينة أصفهان , يدفع الإيراني ( 4) تومان بينما السائح الأجنبي ومنهم أنا ( 20) تومان , كذلك حديقة الطيور ( باغ برندكَان) الإيراني يدفع ( 8) تومان والسائح (24) تومان, والشخص الواقف في الباب يعرفك من ملامح وجهك أن كنت إيراني أو أجنبي أذا حاولت الاحتيال عليه , كما وقع معي عندما قلت له أنا من مدينة الأهواز , حينها سألني سؤال باللغة الفارسية لم أفهمه, ضحك وقال أذهب وغير البطاقة . وهذه واحدة من ثقافات المجتمعات التي تعتمد في علاقتها الاقتصادية مع الآخرين على هذا النفس الاقتصادي – الوطني إضافة إلى تعرض الكثير من العراقيين للنصب والاحتيال و جرائم القتل والسرقة المتعمدة من قبل بعض ضعاف النفوس داخل إيران وفي وضح النهار, بسبب ثقتهم المفرطة بالطرف الأخر, فقد ذكرت أحدى الإحصاءات بأن عدد العراقيين الذين دخلوا إيران خلال النصف الأول من عام 2018 وصل إلى مليون ونصف المليون سائح, وهذه واحدة من مؤشرات أرتفاع الدخل للمواطن العراقي رغم التقشف الحكومـي. أسئلة كثيرة دارت بمخيلتي وتمنيت لو يجيبني عليها أحد من المختصين بالشؤون الاقتصادية والدينية فتذكرت فترة الحصار التي عاشها العراق أيام التسعينيات من القرن الماضي بعد احتلال دولة الكويت من قبل النظام السابق, كيف كان العراقيون يطبخون الطعام ويوزعوه على البيوت والمارة من الناس رغم عسر الحال وانخفاض قيمة الدينار آنذاك , و منَع الناس من زيارة الإمام الحسين ( ع ) سيراً على الإقدام .. وأتساءل دائماً أليس الفقــــــــراء أولى بهذه الخدمات ونحن أغنى بلد في العالم لولا السياسات الطائشة للحاكمين .. أليست (وفي أموالكم حق للسائل والمحروم ) هي الفريضة التي أوجبها الله على المسلمين , ومن الأجدى بنا إن نتفانى في خدمة المحتاجين والفقراء…. ويأتي الجواب بأن المحتاجين والفقراء يأكلون ويشربون طيلة أربعين يوماً من هذه السفرة الممدودة من جنوب العراق ووسطه وشماله إلى كربلاء المقدسة يتبارى فيها النشامى أبناء العراق الاصلاء سليلي الضيافة العربية الأصيلة والأخلاق الحميدة لتقديم المأكولات والمشروبات لهؤلاء الرجال والنسوة والأطفال – السائرون نحو المجد – بطريقتهم التقليدية المتوارثة من الأجداد ثم الإباء والأبناء .. أتمنى فعلا إن تكون هناك مشاركة مجتمعية من الأهالي والحكومة فقط وليست مشاركة سياسية يستغلها بعض رجالات الحكومة والبرلمان وأحزابه المتأسلمة في خدمة الزوار, وأن تكون هكذا مناسبة بعيدة عن السياسيين الفاسدين الذين يستغلون المناسبات الدينية لإبراز وجوههم الكالحة وأيديهم وجيوبهم الملطخة بالفساد وسرقة المال العام لكي يبرزوا كرمهم المفعم بالسحت الحرام لإغراض انتخابية ليس غير , أتمنى مرة أخرى أن تكون خير فرصة لتغير صورتنا التي بدأت تتلوث بسواد العنف والتعصب الطائفي المقيت الموروث من عفن التاريخ , وفرصة لتطهير النفس الأمارة بالسوء ومحاربة الفساد الإداري والمالي بشكل جدي الذي تذكرنا بمساوئه المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف كل خطبة جمعة .. بعد رحلتي المتواضعة على – طريق المشاية – المسمى محلياً ( طريق الموت ) بين ميسان وكربلاء , لا أتردد في القول مرة أخرى للفاسدين , بان لا مكان لكم اليوم إمام ما رأيناه من عطاء وكرم وأخلاق لخدمة زوار الإمام الحسين ( ع ) وهم الفقراء إلى الله وليس لمن انتخبوهم وخانوا الأمانة التي حملها البعض فكان ظلوماً جهولا , وبدلاً من أن يسير رجالات السلطة هؤلاء نحو المجد الذي سار عليه الإمام الشهيد وصحبه الإبرار سار البعض منهم نحو الفساد والرذيلة .