23 ديسمبر، 2024 5:50 م

المسيحيون العراقيون : جراح في مهب المتغيرات

المسيحيون العراقيون : جراح في مهب المتغيرات

عند سقوط النظام السابق ،وككلّ مكوّنات المجتمع العراقي، استبشر مسيحيو العراق خيرا، بدخولهم مرحلة جديدة من حضورهم المتواصل عبر أزمنة شهدت الكثير من الأحداث العاصفة ، وفصولاً يتداخل فيها التاريخي بالسياسي ، والإجتماعي بالديني، وصولا إلى الحاضر وبما يتبعه من مستقبل مشرّع على احتمالات شتى ، من بينها مستقبل مستقر يضمن احترام حقوقهم في دستور تسري بنوده على الجميع ، من دون امتياز لأحد أو ظلم لآخر.
 هذا الاعتبار ، كان جوهريا عند المسيحيين خاصة، نظرا للإشكاليات التاريخية التي حكمت علاقتهم بالنظم السياسية للمنطقة منذ الأزمنة الأولى للإسلام، فعلى رغم إن النبي محمد أعطى عهده المعروف تاريخيا إلى مسيحيي نجران والذي يشمل بمفاعيله كافة المسيحيين في المنطقة، بما شكّله من وثيقة قانونية ضمنت حقوقهم كمواطنين في الدولة الإسلامية، إلا أن مسارالاحداث اللاحقة ، شهد الكثير من المتغيرات التي أملتها اعتبارات عديدة، بعضها سياسي ، وبعضها معتقدي أو ظرفي، وكانت النتيجة إن عاش مسيحيو العراق  أوضاعاً مغايرة لما كان عليه أمرهم، خاصة بعد انتقال مركز الخلافة إلى بغداد، وما رافق ذلك من متغيرات طاولت المجتمع العراقي عموما .
لقد ظلّ الاعتراف بشرعية الديانة المسيحية قائماً، لكنه اقترن بشروط وتفسيرات أملتها طبيعة المرحلة ومدى قبول الحكام ورؤيتهم الشخصية، وهكذا كانت أحوال المسيحيين تسير بين يسر وحرية حيناً، وعسر وتضييق أحيانا أخرى .

دخول المسيحية الى العراق:
دخلت المسيحية ارض الرافدين ، ابتداء من الرعيل الأول لرسل السيد المسيح ، الذين طافوا بعده في العالم اجمع للتبشير بما انزل عليه.
أما عن كيفية دخول المسيحية إلى العراق والظروف التاريخية والاجتماعية التي ساعدت على ذلك الدخول ومن ثم الإنتشار، فتذكر بعض المصادر التاريخية أنّ التبشير بالمسيحية في العراق بدأ عقب سقوط القدس بيد تيطس عام 70م مباشرة، فيما تشير مصادر أخرى إلى تاريخ أقدم من ذلك بأكثر من عشر سنوات، حيث كانت المسيحية قد دخلت عام 59 م، مدينة اربل أو  اربعل  وتعني الآلهة الأربعة، وايّاً تكن الروايات المعتمدة في دخول المسيحية إلى العراق، فقد اختلف المؤرخون حول المساهمين الأوائل في التبشير وكيفية حصوله على ما تحقق من نتائج، فمنهم من اعتبر انّ “مار توما الرسول” احد التلامذة ألاثني عشر للمسيح، كان اوّل المبشرّين بالمسيحية في العراق، فيما ينسب آخرون ذلك إلى تلميذه “ادي السليح”، احد الحواريين السبعين للسيد المسيح الذي أرسله “مار توما الرسول” إلى الشرق، ثم تبعه تلميذه ماري، وبهذا تتفق الروايات على أن حدياب وعاصمتها اربيل كانت القاعدة الأولى لإعلان المسيحية في العراق، ومنها امتدت إلى باقي ربوعه شمالاً وجنوباً، أما المبشرون الأوائل فهم: مار توما، ومار أدي ، ومار ماري.
كما يذهب بعض المسيحيين إلى أن التبشير بالمسيحية إنما يعود في بدايته إلى المجوس الذين انطلقوا من العراق، أو من البلاد الفارسية، إلى بيت لحم مهتدين بنجم دلّهم على مكان ولادة المسيح، ومن ثم بشّروا بهذا الحدث الفريد لدى عودتهم إلى أوطانهم، بعد أن تزوّدوا ببعض قطع من قماط يسوع الطفل لليُمن والتبرّك. وقد أصبحت حكاية تبشير المجوس بالمسيحية، في العراق، تقليدا متداولا في الكنيسة، استناداً إلى ما ورد في الإصحاح الثاني من (إنجيل متى).
يقول التقليد الديني لدى المسيحيين: (إن  المجوس  الذين  قدموا  من  المشرق يقودهم نجم ليسجدوا للمسيح المولود في بيت لحم، كانوا منجّمين، قدموا من بلاد الكلدانيين، أو بلاد فارس، لان  بلد  الكلدانيين  القدماء  كان قد وقع تحت حكم الفرس  منذ  الفتح  الكورشي، فهولاء  المنجمون  نقلوا  البشرى  السارة  إلى مواطنيهم من بلاد ما بين النهرين وفارس).
هذه الروايات وغيرها تشير بوضوح إلى أن الوجود الأول للمسيحية في بلاد الرافدين، قد تمّ بفعل حركة تبشيرية هادئة، بعيدا عن فتوحات الروم البيزنطيين. لكن في الوقت عينه، يمكن القول: إن الخلافات الرومانية الساسانية، قد لعبت دوراً كبيراً في نشوء واختلاف المذاهب المسيحية، كالنسطورية واليعقوبية، فقد شجع الساسانيون المذهب النسطوري على الانتشار في بلاد المشرق  نظرا لرفضه من قبل الرومان الذين شجعوا بدورهم المذهب اليعقوبي، وعليه فقد استفاد المسيحيون العراقيون من أجواء السلم والحرب بين الفرس والرومان على السواء، ففي السلم يتقدّم الرومان لحمايتهم كشرط من شروط المهادنة، وفي الحرب يدفعهم الساسانيون إلى المزيد من الخلاف المذهبي مع الكنيسة البيزنطية، مقابل تسهيلات دينية .
ارتبطت المسيحية بمختلف أقوام العراق القديمة، من سريان وكلدان وآشوريين وعرب، باستثناء الأكراد الذين كان اغلبهم من أتباع الديانة الزرادشتية، اعتنق السريان والكلدان والآشوريون المسيحية، بعد سقوط الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، وقد كان من الطبيعي إن العبادات الوثنية لهاتين الإمبراطوريتين بمعابدها الضخمة وطقوسها الرسمية الباهرة، هي صاحبة السيادة والكلمة الفصل بين الأقوام التابعة لهما. لكن سقوطهما واحدة اثر الأخرى، لم يبق ما يضمن وجود واستمرار تلك العبادات، وهكذا أزيلت مع تماثيل آلهتها وعروش ملوكها، وبالتالي لم تجد المسيحية محلاً أكثر خصباً من المجتمع السرياني والكلداني والآشوري للتبشير بدعوتها، رغم أنّ الصابئة المندائية واليهودية كانتا قد سبقتاها إلى التواجد في العراق ، إلا أن طبيعة هاتين الديانتين الخاصة التي لا تعتمد التبشير إلا في حدود ضيقة، ساعد المسيحية على التوسع و الانتشار.
أما العرب، فقد اعتنقت الكثير من قبائلهم المسيحية، مثل قبيلة  “تغلب” التي ظلّ بعضها على المسيحية  حتى بعد الإسلام، كشاعرها الكبير “الأخطل”،وطي مع كريمها حاتم الطائي ، إضافة إلى المناذرة اللخميين، وهم على المذهب النسطوري، وقد أسسوا إمارتهم في الحيرة جنوبي العراق، أما الغساسنة، خصوم المناذرة ، وهم على المذهب اليعقوبي، فقد أقاموا إمارتهم في شمال العراق وسوريا، حيث تحالفوا مع البيزنطيين بوجه الفرس، كما اعتنق المسيحية عدد من الشخصيات العربية المرموقة مثل “ورقة بن نوفل” و”عدي بن حاتم الطائي” .
وبصورة عامّة، فانّ مدوّنات تاريخ المسيحية في العراق تخبرنا عن طبيعة ذلك التنوع والاختلاف الكنسي للمسيحية هناك، علما انّ الصورة الحالية ليست متطابقة تماما مع الصورة التاريخية، إذ دخلت عليها الكثير من المستجدات في الوضع المسيحي، فالطوائف المسيحية العراقية اليوم، يمكن تصنيفها حسب إثنياتها، إي بين السريان والآشوريين والكلدان والأرمن، وهؤلاء هاجروا إلى العراق وغيره من البلاد العربية بعد الأحداث التركية مطلع القرن العشرين كما هو معروف. 
أما كنسياً ، فينقسم المسيحيون بين الكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية، والكاثوليكية الغربية، وهذا الإنقسام يعود إلى بدايات المسيحية، بعد تأسيس كنيسة روما، التي سعى بعض المسيحيين إلى توحيد الكنائس تحت رايتها، في حين رفضها البعض الآخر.
المسيحيون في الدولة الإسلامية:
مع دخول الإسلام إلى العراق، فتح الوضع المسيحي صفحة جديدة من تاريخه، فبالرغم من تقلص الوجود المسيحي بفعل الدعوة الإسلامية، إلا انه حافظ على تواجد ملموس داخل المجتمع العراقي، وتؤكد المصادر التاريخية، إن المسيحيين في العراق، نظروا لقدوم العرب بارتياح، فقد وصف احد رجال الكنيسة الوضع الذي كانوا عليه في العهد الساساني، بقوله: (ولا عجب إذا اتسم موقف المسيحيين بارتياح لمجيء العرب، ذلك أن المسيحيين ملّوا من الظلم الذي تعرضوا له في فترات عديدة من العهود الفارسية، فلعلّ الفاتحين الجدد يكونون أكثر إنسانية ورحمة تجاههم) وقيل: انّ قائد الجيوش العربية في الموصل خاطب المسيحيين هناك قائلا: انتم منّا فما الذي يربطكم بالرومان؟” .
هذه هي طبيعة العلاقة التي ربطت المسيحيين وغيرهم من الأديان مع الدولة الإسلامية، وقد تجسّدت تلك العلاقة من خلال ما اصطلح على تسميته تاريخياً وفقهيا بـ “عقد الذمة”، الذي شهد أولى تطبيقاته من خلال عهد النبي محمد معهم، وقد حدد الرسول حقوق أهل الذمّة بقوله: “فإذا قبلوا عقد الذمّة، فأعلمهم انّ لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين”.
شكّل هذا العقد ، الأساس القانوني للتعامل مع غير المسلمين الذي اعتمده الحكام  ، بدءا بالعهد الراشدي مرورا بالعهد الأموي ثم العباسي وانتهاء بالعهد العثماني، ورغم التزام  بنود هذا العقد بصورة عامة من قبل الخلفاء والولاة في العصور اللاحقة، الإ إنها لم تخل من فترات عصيبة وخروقات في هذه الحقبة أو تلك .
المسيحيون في العراق المعاصر
لما كان لمسيحيي العراق إطلاعهم الوثيق على منجزات الحضارة الأوروبية المتصاعدة آنذاك، بحكم علاقات متعددة المستويات، لذا ساهموا بفاعلية في تحديث المجتمع العراقي ونقل أهم تلك المنجزات إليه ، وذلك ابتداء من القرن التاسع عشر وما تبعه ، فقد افتتح الآباء الدومنكيين المطبعة الحروفية الأولى في مدينة الموصل عام 1859 وبقيت تعمل لأكثر من خمسين عاما حيث برزت بإعتبارها عاملاً حيوياً من عوامل النهضة الأدبية في العراق، قبل أن تصادرها السلطات العثمانية عند نشوب الحرب العالمية الأولى، كذلك فان أولى المدارس الحديثة التي أنشئت في العراق، إنما قامت على يد الآباء الدومنكيين عام 1861 وفتحت أبوابها أمام التلاميذ من كل الطوائف والأديان، ثم لم تمض بضع سنوات، حتى ظهرت أول مسرحية في العراق عام 1880 ، وذلك حين نشر الأب حنا حبش الموصلي، كتابا يحوي ثلاث مسرحيات كوميدية هي على التوالي – آدم وحواء – يوسف الحسن – وطوبيا – و من ثم توالى بعدها ظهور المسرحيات وتمثيلها .
بعد عام 1917، دخل العراق مرحلة جديدة من تاريخه وهي ما سيطلق عليه لاحقا “العراق الحديث” ففي السنة المذكورة، دخلت القوات الإنكليزية إلى بغداد منهية قرونا طويلة من الحكم العثماني، ولم يجد المحتلون الجدد، أرضاً مستقرة وشعبا ساكناً، إذ اندلعت بوجههم سلسلة من الثورات المسلحة، ورغم أن الوقائع الميدانية لم تسجل مشاركة تذكر للمسيحيين في المعارك الدائرة يومها، الإ أن أحداً لم يشكك بوطنيتهم وانتمائهم، وقد اختير عشرة مندوبين لتمثيلهم في اللجنة التي كانت ستقوم بالتصويت على نوع الحكم وطبيعة العلاقة مع البريطانيين مقابل أربعين مندوبا للمسلمين (شيعة وسنة) وعشرين لليهود، وعند تشكيل أول حكومة عراقية، أوكل لوزير مسيحي “يوسف غنيمة” وزارة المالية، وقد كان للمثقفين المسيحيين العراقيين دور بارز في تشكيل المشهد الثقافي والأدبي والفني العراقي، حيث لمع منهم العديد من الشخصيات البارزة، يذكر منها: اللغوي والأديب المعروف الأب “انستاس الكرملي” صاحب مجلة (لسان العرب)، والصحفي البارز ثابت عبد النور والمحاميان الديمقراطيان خدوري وكامل قزانجي، ومن الأدباء يعقوب سركيس ويعقوب مسكوني وغيرهم، ومن الآثاريين المتميزين بشير فرنسيس وفؤاد سفر، ومن العلماء مجيد خدوري ومتي خدوري والدكتور منير بني، ومن الصحفيين المعروفين توفيق السمعاني وجبران ملكون وروفائيل بطي وغيرهم. وكمؤشر على المساهمة السياسية الفعّالة للمسيحيين العراقيين في الحياة السياسية العراقية، نذكر إن مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي هما مسيحيان آشوريان: يوسف سلمان (فهد) وبيتر باسيل.
أما علاقة المسيحيين العراقيين بالسلطات المتعاقبة في العراق، فقد شهدت مراحل مدّ وجزر، مع العلم أننا لا نستطيع من الناحية المنهجية أن ننظر إلى المسيحيين العراقيين ككتلة واحدة متجانسة تحكمها آراء وتطلعات مشتركة، فالمسيحيون العراقيون ، موزعون عرقياً وكنسياً بين كلدان  كاثوليك يشكلون النسبة الأعلى بين الكتلة المسيحية  ، وتنشط بينهم أحزاب عديدة كالمجلس القومي الكلداني والإتحاد الديمقراطي الكلداني وسواها ، ثم الآشوريون ويتبعون العقيدة النسطورية ، تقترب أعدادهم من سبعين ألف نسمة ، أشهر أحزابهم ، الحزب الوطني الآشوري والحزب الآشوري – وأخيراً السريان والأرمن ، وينقسمون  بدورهم إلى كاثوليك وأرثوذكس ، وإضافة إلى اللغة العربية ، مازالت اللغة الآرامية السريانية تستخدم بينهم بكثافة خاصة في المناسبات الدينية .
الدارس للتاريخ السياسي العراقي الحديث، سيكتشف إن التشكيلات الحزبية والسياسية للمسيحيين العراقيين ، إنما قامت على أسس ومسميات عرقية وليست دينية، مما يدفعنا للقول: إن المشكلة هي بالأساس قومية عرقية وليست دينية طائفية، هذا مع ملاحظة ان الكثير من المسيحيين العراقيين من العلمانيين الذين يمارسون العمل السياسي من هذا المنظور.
وتعتبر حركة الآشوريين المسلحة عام 1933 التي قمعت بقسوة بالغة، من أكثر فصول العنف الدموي التي شهدتها العلاقة مع السلطات المتعاقبة على حكم العراق، بالإضافة الى ما شهدته فترة حكم البعث من القمع الذي طال مختلف فئات الشعب العراقي، ما دفع إعداداً كبيرة من المسيحيين للهجرة خارج العراق، حيث واصلوا نضالهم مع باقي مواطنيهم على الخلاص من الإستبداد.
 يتراوح إجمالي عدد المسيحيين في العراق اليوم ، مابين)800) ألف ، إلى(مليون ) نسمة إي حوالي 3% من سكان العراق ،يعيشون على نحو خاص في بغداد ( الدورة – الفضل – بغداد الجديدة – البتاويين – الكرادة –  شارع فلسطين – المشتل – جميلة – كمب سارة) و في الموصل والبصرة، كما ان لهم حضوراً في اربيل والسليمانية ودهوك وكركوك ، وهم ممثلون في الحكومة والمجلس النيابي والوظائف العامة وان بنسبة لا تتلاءم ومكانتهم في الحياة العراقية.
الخلاصة ان كل مكونات الشعب العراقي تجمع، على أن الوجود المسيحي هنا، هو أصيل وأساسي ، حضارياً وإنسانيا ووطنيا ، وان هذا الجزء الحيوي من القلب العراقي النابض ، تتوجب حمايته والمحافظة على فاعليته ونشاطاته ،التي طالما نشرت أيادي بيضاء على مجمل التطور الحضاري الذي شهده العراق على اختلاف الأزمنة والعصور، لكن المشكلة ، ورغم كل النوايا الطيبة ، فإن العراق يكاد يفقد مسيحييه ، فهم يتعرضون الى هجمة شرسة من قبل القوى التكفيرية التي تضعهم أمام خيارات ثلاثة : اعتناق الإسلام – على الطريقة التكفيرية حصراً – أو الموت ، أو مغادرة بيوتهم ، وقد سلكت الأغلبية منهم الخيار الثالث انتظارا لتحسن الأحوال   .