كانت ألارض الطيّبه التي يملكها العم ” دحام” وعائلته منبعاً للخير والعطاء على مدى سنواتٍ طويلة تغذي السوق المحلية بمنتوج غزير ليس له حدود.أراضٍ شاسعة تمتد على مرمى البصر. تقع ألارض في منطقة الضلوعية التي تبعد عن بغداد حوالي مائة كيلو متر شمالاً. لم أضع في الحسبان يوماً ما أن تكون هذه ألأرض موضوعاً للعمل الذي أمارسه مع إحدى الشبكات ألأعلامية العالمية. صدر ألامر لي وللطاقم الذي يرافقني بالذهاب الى تلك ألأرض وأجراء مسح شامل للواقع الزراعي هناك. لقد وقع ألأختيار على أرض العم دحام دون تخطيط مسبق. حينما وصلنا الى هناك بحثنا عن عدد كبير من الفلاحين الذين كانوا قد تركوا أرضهم ولجؤا الى السكن في المدينة بعد أن تحولت أرضهم الى صحاري قاحلة تعصف فيها الرياح ليلاً ونهاراً. توجهنا الى بيت العم دحام كي ننسق معه كيفية بدء العمل. لم نجد العم دحام في البيت. وجدنا عجوزاً مرهقه تجر أذيال الحاجةِ والفاقةِ والعوز لكل شيء. كان أحد أبناء القريةِ يرافقنا . إستقبلتنا العجوز بكرمٍ ضيافي ليس له مثيل. بلا مقدمات راحت تتحدث عن مرضها المزمن وكيف أن الطبيب قطع أحد ” ثدييها” ، وكيف أن الطريق طويل ومتعب للذهاب الى الموصل لأتمام العلاج الدوري الذي وصفه لها الطبيب المختص. كانت تتحدث إلينا بعفوية مطلقه دون وجل أو خوف. إعتقدت أننا منظمة إنسانية جاءت تنقب هنا للبحث عن المحرومين. حينما شرحتُ لها المهمة التي جئنا من أجلها ، إرتسمت على وجهها صورة حزينة تنم عن فقدان أمل كانت تحلم به طيلة فترة مرضها. دون تفكير وضعت يدي في جيبي ,اعطيتها مبلغاً بسيطا في نظري إلا إنها إعتبرته كبيراً جداً. فجأةً أشرق وجهها بنور غريب وأرتسمت بسمه كبيرة على شفتيها وراحت تدعوا لي بالخير والرزق الوفير. سألتها عن ألأرض وأبديتُ رغبتي في الذهاب الى هناك . وافقت على الذهاب معنا على أن ترسل في طلب زوجها الذي كان يعمل في ” دكانٍ” بسيط جدا عند ناصية الشارع الوحيد الذي يخترق مدينة الضلوعية.
جاء العم دحام – خمسة وستون عاماً – يجر قدميه بتثاقل ملحوظ. بعد المجاملات وتجاوز مراسيم الضيافة الجيدة التي أظهرها لنا ، عرف الموضوع. أطلق زفرة كبيرة وراح يتحدث عن ألارض المنسية والدموع تترقرق في عينيه كأنه يستذكر أيامأً ذهبية ضاعت في لهيب الزمن الدامي . كان لديه فتى يافع وحيد – خمسة عشر عاماً – وعدد كبير من ألأطفال الصغار. العم دحام متزوج من إمرأتين. هذه العجوز التي شاركته رحلة عمره الطويل وزوجة أخرى كانت قد جاءت بناءاً على طلب الزوجة ألأولى لأنها لم تعد قادرة على القيام بأعباء المنزل وتلبية الحاجة الزوجية التي ينشدها العم دحام على حد قولها الصريح. طلب العم دحام من ولده اليافع أن يهيء ” البيك أب” إلا أن الولد الوحيد أجابه بحسره ملحوظة من أن السيارة خالية من الوقود. أعطيته مبلغاً من المال يكفي لتزويده بالوقود ذهاباً وإياباً. فرح الغلام وركض الى خارج البيت. بعد مدة من الزمن كانت السيارة جاهزة للأنطلاق نحو ألأرض العطشى. طلب بعض ألأطفال الذهاب مع العجوز ووالدهم كي يشاهدوا ألارض لأنهم لم يذهبوا الى هناك منذ عدة سنوات. كانوا فرحين جداً لهذه الفرصة التي إعتبروها بمثابة نزهه . أستقل العم دحام وزوجته العجوز والشخص الذي كان يرافقنا من أبناء القرية وبقية ألأطفال في السيارة التي جئنا بها من بغداد ، في حين جلستُ أنا ومساعد المصور في الفضاء المفتوح لسيارة البيك أب و جلس المصور قرب السائق كي يستطيع تسجيل الطريق الطويل الممتد من القرية الى ألأرض.
كان الفتى اليافع يقود البيك أب بسرعة جنونية وسط الطريق المتعرج فرحاً بهذا الحدث غير المتوقع بالنسبة له، أو أنه كان يريد أن يبين لنا بأنه سائق من الطراز ألأول. إضطر المصور أن يصرخ به بغضب طالباً منه التمهل في قيادة العجلة. كانت كامرتي الصغيرة تسجل أي لقطة أستطيع من خلالها توثيق هذه اللحظات التي نمر بها في هذه ألأرض. خلال الطريق الطويل وقعت عيناي على أراضٍ محرومة من المزروعات ومن كل شيء ينتمي الى ألأنتاج الزراعي. لماذا هذا الجفاف؟ لماذا هذه ألارض البور؟ لماذا هذه الشحه في المحاصيل الزراعية ؟ ألا يوجد إنسان يُحيل هذه الصحراء الى أرض غنية؟ ألا يوجد ماء؟ ألا يوجد من يهتم بهذه ألارض الخصبة؟ أسئلة كثيرة تدور في ذاكرتي وأنا أحاول مقاومة الريح القوية التي كانت تعصف بوجهي أثناء جلوسي في الفضاء المفتوح لسيارة البيك أب.
وصلت قافلتنا المكونة من سيارتين ألأرض الحزينة. سار العم دحام وعائلته وسط ألأرض منكسرين يلفهم حزن دفين. لم أجد هناك أي شيء سوى عدد ضئيل من بقايا أشجار مزقها العطش . شعرت أن ألأرض الطيبة تصرخ ، تستنجد الفئات البشرية لأنقاذها من هذا الحرمان الذي ليس له حدود. يوماً ما كانت هذه ألارض مصدراً لرزقٍ وفير تعتاش عليه فئات وشرائح مختلفة من المجتمع ألأنساني وعلى مدى سنواتٍ طويلة. راح العم دحام وزوجته العجوز يجوبان ألارض بصمت مطبق كأنهما حضرا لمعاينة قبور منسية على مدى التاريخ. دخلت العجوز إحدى الغرف الطينية التي كانت غرفتها يوما ما فوجدت فيها بقايا قنابل وصواريخ لمجاميع مسلحة إتخذت منها مقراً لها. شاهدتُ الدهشة والخوف يرتسمان على وجهها التي عصفت به السنوات المرة . سبب لي المصور إحراجاُ كبيراً في البداية. أراد أن يُظهر لي ولهم مدى عبقريته في خلق البرامج التوثيقية. رفض التصوير لأنه كان يعتقد أن ألارض قاحلة لاتحتوي على شيء يُذكر يمكن أن يكون مادة قصصية. حاولت أن أشرح له في البداية أن هدفنا هو هذه ألأرض الجرداء وعدم وجود المزروعات. رفض رفضا قاطعا. أخبرته بأنه سوف يتحمل كل المسؤولية إن لم يطع ألامر الذي أصدرته له. قبل أن يتحمل كل المسؤولية. إتصلت بالمدير العراقي في بغداد وأخبرته برفض المصور. أصدر له ألامر أن يصور كل شيء وأن هذا الموضوع هو الذي نبحث عنه. لو كان ألأمر بيدي لأخرجته من فريق العمل الى ألأبد.
تركتنا العجوز وجلست قرب إحدى أشجار النخيل تلتقط أنفاسها . شاهدتُ دموعا تنهار من مقلتيها وكأنها تنتحب عزيزاً ضاع منها الى ألأبد. إقتربتُ منها تاركا المصور ومساعده يسجلان صوراً مختلفة لتلك ألأرض الجرداء. حاولتُ أن أكون مرحاً كي أستدرج العجوز للحوار الصريح. ” لماذا تركتِ هذه ألأرض الجميلة ؟ ألم يكن من الممكن زراعتها من جديد؟” بادرتها قائلاً. نظرت إليّ بحسره وكأنها تستغرب سذاجتي أو هذا ما كنت قد تصورتهُ. شعرتُ أن كلامي قد فتح قريحتها للكلام أو أنها كانت تنتظر من يستفزها للشروع بقول كل ما كانت تريد قوله ” إسمع يا ولدي. هل تتصور أنني سعيدة بالعيش بعيداً عن هذه ألأرض؟. في أعوام الثمانينات و منتصف التسعينات كنت أعيش في هذه ألأرض مع زوجي وعائلتي الصغيرة. كنت أفضل من جميع ألأميرات على هذا الكوكب بالرغم من الحياة القاسية هنا. هل ترى هذه ألأرض الممتدة على مرأى البصر؟ “. وراحت تشير بيدها الى جهات مختلفة بعيدة. ” كانت هذه ألأرض قطعة من الجنة. تحتوي كل أشجار الفاكهه التي تخطر على ذهن أي إنسان. محاصيل زراعية لاتعد ولاتحصى. كانت لدي عاملات كثيرات جدا يعملن ليلاً ونهاراً ولايستطعن السيطرة على ماتنتجه هذه ألأرض. زوجي ” دحام” كان في الحرب ولايأتي إلا كل ثلاثون يوماً. كنتُ أدير كل شيء هنا لوحدي. إرسال سيارات الحمل الى بغداد لبيع المحاصيل. لاتستطيع سيارات الحمل تسويق كل الفواكه التي كانت تنتجها ألأرض. بعض المحاصيل كانت تفسد هنا على ألأرض. هل شاهدت تلك الغرف الطينية البسيطة؟ كانت البيت الذي نسكنه ولكنني كنت من أسعد الناس بوجودي هنا. كنت أكدس ألأموال في صندوق خشبي كبير. بنيتُ البيت الذي شاهدته هذا الصباح ولكنني لم أذهب اليه لأنني لاأستطيع ترك هذه ألأرض يوماً واحدا. كان كل شيء متوفر في ذلك الزمن. وقود الماكنة المائية برخص التراب. الماء يتفجر كشلال ثائر. عوائل كثيرة كانت تعتاش على هذه ألأرض. إذا أردت أن أعيد زراعة هذه ألأرض ألأن أحتاج الى أطنان من الدولارات. ساعة عمل واحدة ألأن لتعديل ألأرض بالشفل أحتاج الى ستون الف ديناراً عراقياً، مع العلم أنني أحتاج الى مئات الساعات لتعديل ألأرض فقط وقطع بقايا هذه ألأشجار العديمة الفائدة.” سكتت قليلاً ثم عادت تتحدث بأنفاس متقطعة من التعب والتأثر في نفس الوقت. ” أحتاج الى ماكنة تعديل ألأرض ، شفل للأعمال الضخمة ، سيارة حمل جديدة, ماكنة ماء جديدة لسحب الماء من نهر العظيم أو دجلة, عمال كثيرون للقيام بأعباء العمل المضني لأنني لم أعد شابه كما كنت أفعل كل شيء بنفسي في الزمن الماضي. حسناً إذا أردت أن أعمل بالممكن فأنني على ألأقل أحتاج الى ماكنة ماء في الوقت الحاضر ولنفرض أنني حصلت عليها كفرضية لايمكن أن تتحقق. ستكون هناك مشكلة الوقود. أحتاج الى برميل واحد على ألأقل في اليوم الواحد. سعر البرميل في السوق السوداء ألأن 125 الف دينار عراقي وعليك أن تحسب كمية النقود في الشهر الواحد. مبلغ خيالي أليس كذلك ؟ أنا ألان لاأملك خمسة ألاف دينار فقط لشراء الدواء المستمر لصدري.”.
لم أعد أستطيع مواصلة ومتابعة حديثها إبتعدتُ قليلاً الى الوراء كي أوقد سيكارة أستطيع من خلالها التنفيس عن الحالة النفسية التي عصفت بي. جلستُ على ألأرض نظرتُ الى ألأفق البعيد أتخيل أخضرار ألارض مرةً أخرى وكيف ستكون عليه الحال لو جاء مستثمر وأعاد إحياء هذه ألأرض ولبى ندائها الملح. سألتها سؤالاً ساذجاً ” ألا تستطيعين إقتراض المبلغ الكافي لأعادة ألارض وتسديده فيما بعد؟”. قالت مندفعه ” من أين أقترض؟ من يقرضني كل هذا المبلغ الخيالي؟ وإذا لم تنجح المحاولة، كيف سأعيد المبلغ؟”. ” هل شاهدت الطريق الترابي الطويل حينما جئنا؟ كان هذا الطريق لاينقطع لحظة واحدة من تواجد سيارات الحمل العملاقة التي تنقل الرقي الى أماكن مختلفة من العراق. هدير محركات الشاحنات لايتوقف لحظة واحدة. كنا ننتج هنا أفضل أنواع الرقي في العالم. ألان تحول الطريق الى مكان مقفر مرعب لايصلح إلا الى قطاع الطرق والعصابات المسلحة.”. سكتت مرة أخرى. راحت تسعل بصوتٍ مسموع كأنها شارفت على الهلاك.
منحتها فرصة لألتقاط أنفاسها. كان هناك صوتاً داخل حنايا روحي يهدر صارخاً بعنف ” ألا يوجد منقذ لهذه ألأرض؟ ألاتوجد دائرة معينه في هذا الوطن الكبير تلتفت لهذه العجوز ولهذه ألارض الممزقة بسبب العطش والجفاف وشحة الماء؟ ألايوجد لدينا ماء؟ من خلال مسحي الشامل لبعد الماء عن هذه ألأرض وجدت أن نهر دجلة لايبعد إلا مسافة قليلة لاتكلف الدولة إلا الشيء اليسير لو حاولت جاهده لتلبية نداء ألأرض. نظرت اليّ وكأنها كانت تريد أن ترى ماذا أقول؟ حينما وجدتني صامتاً نهضت بتثاقل وهي تقول ” سأذهب قليلاً الى هناك أريد أن أتجول لوحدي ، سوف أجيب على أي سؤال تريد طرحه”. ذهبت الى الجهة ألأخرى من ألأرض دون أن تلتفت الى الوراء حيثُ كنت جالساً. عرفتُ أنها كانت تريد ألأختلاء بنفسها وربما كانت تريد أن تبكي لوحدها. كانت تسير هنا وهناك كأنها قد فقدت صوابها . كأنها كانت تلطم حظثها العاثر. من بعيد بدت وكأنها شبح هائم بين أنقاض أطلالٍ مزقته سنوات التاريخ القديم. تشبه صورة والدتي حينما كنا يوما ما نسكن قريةٍ صغيرة على ضفاف الفرات. كانت عيناي تراقبانها بقلقٍ طفولي. لأول مرة أشعر أن شيئاً ما يشدني الى هذه العجوز. جاء المصور يسألني عن شيء أخر أو فكرةٍ ما قد تلوح لي. طلبتُ منه أن يتركني أتأمل هذه الصورة ألأنسانية الحية التي تحدثُ أمامي. من بعيد شاهدتها تجلس بحزنٍ شديد قرب هيكل طيني لتنور أكل الدهر عليه وشرب. ركضت نحوها. جلستُ قربها وأنا أقول” هل أنتِ بخير؟”.دون تردد سألتها بعفوية ” لماذ جلستِ هنا؟ هل يمثل لك هذا المكان شيئاً ما؟”. مسحت عينيها وهي تقول بحزنٍ تام ” إنظر الى هذا التنور. هذا يمثل كل تاريخ حياتي. كنت شابه. عند المساء بعد إرسال الشاحنات المحملة بالفواكه الى بغداد أُسرع الى هذا التنور أخبز فيه الخبز الحار. يجب أن أنهي الخبز قبل حلول الظلام. زوجي لايتعشى إلا إذا كان هناك خبز حار. بعد العشاء مباشرة ننام كي ننهض باكراً. لايوجد لدي شيء إسمه فراغ. يومي كله عمل. حياة مرهقه جدا لكنها ألذ من حلاوة العسل. أريد أن أبيع ألأرض ألأن لكن أحداً لايشتريها بسبب قلة الماء. هل يُعقل لدي كل هذه ألأرض وأشتري خضراوات مستوردة من سوريا.إن هذا لشيء عجيب. أرضي فقط تكفي لأطعام كل العراق وقسم من الدول العربية. أين الحكومة؟ إنهم لايريدوننا.”.
جاء المصور يطلب أن نذهب الى نهر العظيم . لقد تحدث مع العم دحام وأخبره أن نهر العظيم قد جف وإمتلأ بألأحراش وإعادة تأهيله يتطلب جهد قليل من الحكومة لأعادة تدفق الماء الى ألأراضي القاحلة. سألتها عن نهر العظيم فيما إذا كانت تعرفه. إبتسمت وهي تنهض ” هيا نذهب اليه طالما دحام يريد الذهاب الى هناك”. كان الطرق الى نهر العظيم مخيفاً . صحراء قاحلة على إمتداد البصر. علمتُ من الفتى الذي كان يقود البيك اب أننا نحتاج الى ساعة للوصول الى ألأراضي ألأيرانية. كانت القاعدة تسيطر على كل هذه ألأراضي. لاأحد يستطيع الوصول الى هنا. أوجستُ خيفة. من يدري قد يخرج لنا شخصاً مسلحاً أو عصابة تتخذ لها موقعا خلف التلال الممتده هنا وهناك. ستكون النتيجة وخيمة. لم أقل ذلك لأحد ولكنني وضعت ذلك في الحسبان. كلما تقدمنا كان قلقي يزداد بسبب وعورة ألأرض وعدم تواجد ألأنسان فيها. كان الفتى الذي يقود سيارة البيك التي أنا فيها لايعير أدنى إهتمام لوعورة ألارض والمطبات المنتشرة في كل مكان. كان الغبار المتصاعد يلفني بشكل مهلك لدرجة أنني شعرتُ بألأختناق. حاولتُ عدة مرات أن أطلب منه التمهل في قيادة السيارة إلا أنه كان يضحك بشكل طفولي وكأنه فرح لهذه اللعبة المميته. كنتُ أتصور أن نهر العظيم يشبه نهر دجلة أو الفرات حينما سمعتُ به لأول مرة. خاب ظني حينما وقفت قربه. مجرد شق في ألأرض تغطيه ألأعشاب البرية المرتفعة وقليل من الماء في قعره يتدفق بحياء ملحوظ لهذه الظاهرة التي تمر فيه في هذا الوقت من زمن العولمة وعصر ألأتصالات ألأليكترونية. وقف العم دحام وأبنائه الصغار ينظرون بحسرة الى هذا النهر الذي كان العنصر الوحيد لأرواء ألأرض التي كانت بركاناً متفجر لأخراج المحاصيل على إختلاف أنواعها. هل هذا هو النهر الذي يتحدثون عنه؟ هو ليس بشيء يُذكر. هو مجرد مجموعة من قصب البردي التي تغطي ألأرض من كل الجهات. قال العم دحام ” نحتاج الى بوكلن واحد فقط لأعادة تأهيل هذا النهر” . في البداية لم أعرف ماذا يقصد بكلمة ” بوكلن”. تبين أنه أله كبيرة لتنظيف النهر من ألأحراش وقصب البردي. ألا تملك وزارة الزراعة ” بوكلن” واحد فقط؟ . تقدم العم دحام نحو الجهة ألأخرى وهو يتحث اليّ بحسرة ” إنظر هذه هي ماكنتي التي تركتها هنا معطلة لاتصلح لشيء. لقد تركتها هنا منذُ سنوات قابعة في هذه ألأرض التي تصرخ كل يوم طالبة مني أن أعود لأعادة الحياة اليها.الوقود أصبحت نادرة ، 125 الف دينارا عراقيا للبرميل الواحد في السوق السوداء. كيف أستطيع تدبير المبلغ؟ أصبحت الماكنة خارجة عن الزمن، لايمكن تصليحها. ونهر العظيم توقف تدفق الماء فيه. المسالة بسيطة ولكنها معقدة. الدولة لاتهتم لنا. أعطني ماءاً للأرض أعطيك محاصيل زراعية تغطي الوطن العربي وليس العراق فقط.”.
عدنا نخترق ألأراضي القاحلة. أرض ليس لها حدود ولكن ماالفائدة.وأنا جالس في الجانب المفتوح من سيارة البيك اب، أنظر الى أبعد مسافة يمكن أن يصل اليها نظري.قلت لنفسي ” لو تم ألأستغناء عن عشرة أعضاء من البرلمان وأُعطيت رواتبهم لهذه ألأرض شهريا لتمكن كل الفلاحين هنا من زراعة كل هذه ألأراضي . لتوفرت محاصيل زراعية في السوق العراقية تكفي لتمويل كل أقطار البلدان العربية. لكن إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من الذهب”. عند العودة كان مساعد المصور جالسا قربي في البيك أب ينظر بحسرة هو ألأخر لهذه المساحات الممتده من ألأرض بلافائدة. كانت العجوز في السيارة ألأخرى قد أسندت رأسها الى نافذة السيارة وغطت وجهها بعبائتها وكأنها أرادت أن لا ترى مايدور حولها من جفاف ألأرض . كانت تنظر أحياناً الى الوراء، نحو ألأرض التي قضت فيها كل شبابها. كأنها كانت تودع كل ذكرى من ذكريات سعادتها وحبها الى ألأرض التي تناديها في صحوتها ومنامها. حينما وصلنا الى بيتها إستأذنتها بالعودة وشكرتها على كل شيء، لكنها أقسمت أن تذبح لنا دجاجتين من دجاجاتها . حاولت ألأعتذار. قالت ” لازلتُ أستطيع إكرام الضيف ” وراحت تأمر أبنائها على تنفيذ عملية ذبح الدجاجتين. في طريق العودة الى بغداد كنا جميعاً صامتين نحاول أيجاد تفسير منطقي لعميلة نسيان الدولة لهذه ألأرض المعطاء . لماذا لايتم ألأهتمام بكل ألأراضي العطشى في بلدي ؟ لدينا كنوز تغطي العالم ولكننا منشغلين بأشياء أخرى لاتجلب لنا سوى التأخر والتخلف والضياع. زمن ذهبي ينساب من بين أناملنا لايمكن أن يعود أبدا. وتبقى ألأرض المعطاء هناك ثكلى بجراحها تنتظر الفارس الذي ينبذ المحسوبية ويتخلى عن حب الذات ويهرع لتلبية نداء ألأرض.