إذا ثبت لمن ثبت له منا وجود الله، يأتي السؤال: هل هناك بالضرورة شيء اسمه دين؟ أي هل أنزل الله فعلا وحيا من السماء، وكلف أفرادا من نوع الإنسان لتبليغ هذا الوحي وهذه الرسالة إلى بقية الناس، فجعل ذلك ملزما لهم اعتقادا وسلوكا؟ بتعبير آخر، إذا ثبتت لدينا حقيقتان؛ حقيقة وجود الله (التوحيد)، وحقيقة الحياة الأخرى (المعاد) حسب المصطلح الديني، فهل تثبت (النبوة)، وبالتالي يثبت الدين كلازم لهما أو لإحداهما، فتكون واجبة عقلية كوجوبهما، أم تبقى ممكنا من ممكنات العقل، وخاضعة لاختبار صدق التحقق؟ هذا ما يجب دراسته دراسة فلسفية محضة، فالفلسفة ميدانها الحقيقي، وليس ميدانها العلوم الدينية ولا العلوم الطبيعية، نعم يمكن ضم علم التاريخ كميدان ثان ومعضد للفلسفة، سواء تعضيدا للإثبات أو تعضيدا للنفي، كما تكون العلوم الطبيعية معيارا عندما نجد في مقولات الدين ما يتعارض بشكل واضح مع الحقائق العلمية. أو قد ينتهي البحث الفلسفي إلى تساوي إمكان التحقق وعدمه، فيستعان بالبحث التاريخي للحكم بالإثبات أو النفي. علاوة على فحص تفاصيل كل من عقائد وشرائع الدين المدعى صدوره من الله على ضوء مبادئ العقلية والعقلانية، ومثل الإنسانية والأخلاق والعدل الإلهي.
نرجع إلى سؤالنا السابق. إذا ما فرغنا أو فرغ بعضنا من حقيقة وجود الله ووجود الحياة الثانية، وما يترتب عليها من جزاء، وبالتالي من كون الإنسان مسؤولا، فيما هو مسؤول أمام ربه، وقبلها وبعدها وأثناءها أمام ضميره، في تلك الحياة، فيما قدم وأخر في هذه الحياة، بحيث يمكن أن ننعت هذه الحياة – فيما هي وليس حصرا – بالحياة الامتحانية مجاراة للرؤية الدينية، والثانية بالحياة الجزائية، وكون هذه الحياة امتحانية لا ينفي الأغراض الأخرى منها لتكون حياة تكامل وبناء وإبداع وتسخير مُطرد لملكات العقل المتنامي عبر التجربة والتأملات، ولمفردات الكون وقوانين الطبيعة، وكما إنها حياة استمتاع دونما ظلم للآخر. لكن ألا يمكن أن يكون هذا كافيا، بحيث يُجزى كل إنسان بما قامت عليه من حجة من عقله، مأخوذا بنظر الاعتبار كل ما ساهم في صنع شخصيته وسلوكه من عناصر، تنقسم على النحو العام إلى ما هو مسؤول عنه، من حيث وقوعه في دائرة اختياره، وما هو غير مسؤول عنه، من حيث وقوعه خارج دائرة اختياره، فيجزى على ما هو مختار فيه، ويُعذر عما هو غير مختار فيه، ولا حاجة لنُبوّات ولا أديان ولا شرائع مُنزَلة، بل يكفي العقل، وكل من تحسينه وتقبيحه، والفطرة، والتجربة، والفرص، والظروف، لتصنع شخصية الإنسان، وتضعه أمام مسؤوليته، وتحدد استحقاقه من الجزاء الإلهي ثوابا أو عقابا.