22 نوفمبر، 2024 4:55 م
Search
Close this search box.

الإحساس بالجمال والتحسس منه

الإحساس بالجمال والتحسس منه

من منا لم تجذبه وردة لشم عطرها؟
ومن منا لاتستلطفه ضحكة بريئة أو ابتسامة شفافة على شفتين خجولتين؟
وهل فينا من لا تستهويه ألحاظ فاتكة أو قوام أهيف أو قد مياس؟
ولعل أروع مايكون، اجتماع صفتين من هذي الصفات في آن واحد وآنية واحدة، وقد قال شاعرنا الرصافي في هذا:
واستضحكت وهي تجني الورد قائلة
ما أحسن الورد قلت الورد خداك
فالحسن يفتن والألحاظ فاتكة
واحيرتي بين فتان وفتاك
نعم، لقد حار الرصافي بين حسنين، فالحسنان أحست بهما نفسه، ذاك أن نفسه نقية نظيفة تهوى الجمال، وقد قيل في النفوس النقية من قبل: “النفس هي الشباك الذي ترى من خلاله العالم”.
وعلى هذا فمن تكن نفسه شفافة، يرى الأشياء بحلة جميلة زاهية باهرة، ومن تخالط نفسه شوائب وأدران وأوساخ، فمن الطبيعي أن رؤيته للأشياء لن تكون إلا شائبة وغير نقية.
ويبقى حديثي عن الجمال والحسن، وما أوسعهما من مفرداتين، وقطعا هو حديث لايجدي نفعا إن لم يرافقه إحساس حي بهما، إذ ما قيمة العرض بغياب الطلب؟
العينان.. هاتان الملهمتان، كم شاعر تغنى بهما! وكم شادٍ صدح بجمالهما! ولعل أول حاضر منهم السياب برائعته: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر… فالرجل، أوقفته العينان وأذهله جمالهما، وأحس ببريقهما، وما ذاك إلا لأن نفسه جميلة وتحب الجمال.
جرير.. هو الآخر ألهمته العيون حد الجنون فقال فيها:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
ولن أغادر العينين ومن أحس بجمالهما في سطوري هذه، فهما اللتان قال فيهما الشاعر محمد خلف الحجي:
عيناك مملكة ما نالها ملك
وجيش رمشك بالعشاق قد فتكوا
وعاضد الثغر سحر العين واجتمعا
فكلكم في دماء الخلق مشترك
ولشاعر العتابة ولع بالعيون، وسحر حديثه في ألوانها ذو أشجان وفنون، فهو يرى العيون بعيون نفسه المحبة للجمال، يقول عتّاب من الشام:
عيون الخضر كل الدنيا… بتاساع
على حضن الحبيب الغرّ… بيت ساع
بعد منهم ضربت اثمان… بتاساع
طلعلي فال أسود كالغرااااااب
ولم يكن لتداخلات التكنولوجيا وأدوات التحضر أي تاثير على الجمال بطبيعته، فالنفوس الهاوية له لاتعكر نظرتها إليه عوائق، ففي عتابة شامية أخرى يقول ناظمها:
بعيونها شفت عم توضع… عدستين
ودمع العين عم يدلف… ع دستين
قلبي صار متوحوح… عدستين
من النهود النافرة من الثيااااب
وفي العينين أيضا، تولع عاشقون من جنوب العراق، فالصدق وما غير الصدق رأوه فيهما، وقد وصفهما شاعر الأبوذية ببيته:
عيونه گبل شفته… شتمني
وعگلي الچان عندي… شت مني
انهجم بيتچ ياروحي… شالتمني
اتمنين الذي يصعب عليه
ولعبود المنصوري مع العيون علاقة لاتنقطع، فهو متمسك بهما لإحساسه المرهف بجمالهما، وهنا أيضا تستوقفنا النفس ومدى انعكاس نقائها فيما تراه، يقول المنصوري:
وحگ من دور عيونك وفرها
روحي الشوگ دوخها وفرها
السمه لو من جمر يصبح وفرها
ماعوفك لون تنطبگ بيه
إلى هنا ينقطع بي المقال في مقامي هذا، غير أن الجمال لاينقطع على مر الزمان وتعدد الأماكن، فهو أبدي البقاء أزلي الوجود.
ومما يحدث في العراق، لاسيما العراق الجديد الذي يزعمون أنه ديمقراطي، أرى أن النفوس فيه على شاكلتين: نفوس تحس بالجمال، وأخرى تتحسس منه، وما يؤسف أن الأخيرة هذه تسنمت مراكز الحكم والقيادة في البلاد، وصار الحاكمون يتفننون بعدائهم للجمال، تارة بحكم الدين الذي استحدثوه على أيديهم، وتارة أخرى بحكم الأعراف، وقد حرفوها لتبرير مايفعلون، وتارة ثالثة لغاية في نفس يعقوب.
وبين التارة الأولى والتارة الثانية والتارة الثالثة.. زهقت روح “تارة فارس شمعون” وقد سبقتها “رشا الحسن” وسبقتهما “رفيف الياسري”. وأحمد الله أني لست جميلا لحد يكفي أن يضع أعداء الجمال في عراقنا الجديد، رصاصة في رأسي، وفقا لدينهم وديدنهم.

أحدث المقالات