الكل هذه الأيام يتحدث عن الطائفية, فرئيس الوزراء العراقي يتحدث أن الحرب الطائفية التي إذا اشتعلت فسوف لن ينجو منها أحد, أما شيوخ الدين فأنهم صاروا يستخدمون مصطلح السنة والشيعة بشكل علني, وبلا حذر, حتى بائعة القيمر اليوم تتحدث عن الطائفية وعن السنة والشيعة. لم أكن أعرف طائفة معظم أصدقائي القدامى وذلك لأن الموضوع لم يكن مهما ً بالنسبة لي ولهم, أما اليوم فصرت أبحث عن عناوينهم وأسمائهم وتعليقاتهم على الفيسبوك أن كانت هناك دلالة على أن فلان هو سني أم شيعي وذلك لمساعدتي بفهم مواقفهم السياسية, ربما أصابني داء الطائفية! حاولت مرارا ً أن أحذف كل صديق ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات وعبارات فيها نفس طائفي لكني لم أفلح لأنهم أكثر حتى من قائمة أصدقائي, فداء الطائفية متجذر فينا ومتمكن منا وذلك عندما يشغل حيزا ً في رؤوسنا نصنف فيه الناس حسب دينهم وطائفتهم. كلما رأيت منشورا ً طائفيا ً تطيرت من شره محاولا ً بيأس حذفه ومدركا ً في نفس الوقت بأننا قد وقعنا في الفخ, بأننا ماضون في طريق لانعرف نهايته بملء إرادتنا, تيقنت بأن المأزق الذي حاولنا الفرار منه مرارا ً وتكرارا ً قد وقعنا فيه. لا أؤمن بنظرية المؤامرة التي تقول أن هناك من نصب هذا الفخ, بل نحن الذين نصبنا الفخ لأنفسنا ونحن الذين سنقع فيه.
أليكم المشهد, حكومة تدعي بأنها تمثل كل العراقيين وتعمل لمصلحتهم لكنها فشلت بأن توفر لهم أبسط الخدمات التي تتمتع فيها دول فقيرة, ينظر قسم من الشيعة للحكومة على أنها حكومة شيعية فاسدة, لكنها تدافع عن هويتهم الطائفية فهي أحسن السيئين, من جهة أخرى ينظر قسم من السنة للحكومة على أنها شيعية صفوية تنفذ أجندات إيرانية في العراق فهم يحملون سيوفهم ويتحالفون مع الشيطان من أجل إسقاط تلك الحكومة التي لم تستجب لمطالبهم, إذ يرفعون شعار جئناك يابغداد ومشروع الأقليم السني في جيوبهم, فهم ليسوا بعيدين عن مشروع أقليمي يلوح في الأفق, ولهذا فأنهم يؤسسون لجيوش خارج أطار الدولة, نعم, أنهم أسرى عقدة تاريخية للصراع القديم بين الفرس والعرب, أما الولايات المتحدة فهي تنظر بعين الريبة وتتدخل في الوقت الذي تتضرر فيه مصالحها, أما القاعدة فهي تستغل الفرصة لتفجير في جنوب العراق من أجل أثارة الشيعة وتفجير آخر في العامرية أو الفلوجة لأثارة السنة, أنها توقع بنا بسهولة, فنحن الذين نسمح لها بفعل ذلك بسبب هواجسنا الطائفية التي تجعلنا نصدق أي شيئ وكل شيئ يقوله لنا أعدائنا.
الكل يكذب, فلكل حادثة ذات بعد طائفي تجد فيها روايات متعددة, فللحكومة رواية وللمتظاهرين رواية أخرى مختلفة تماما ً, أما الفضائيات فأنها تغير الحقائق حسب أجندتها الطائفية لتدعم طرف ضد طرف آخر بعيدا ً عن الموضوعية والإحترافية. أما نحن, المساكين من الغالبية العظمى فقد صرنا أسرى لتلك الخطابات الطائفية, فشيخ هنا يهدد بالويل والثبور وشيخ هناك يهدد بالصراخ والعويل, ولما لا فالشيوخ وبكل المستويات يتصدرون المشهد السياسي, ولما لا, فنحن دولة ليست علمانية, ليس فقط شيوخ الدين بل شيوخ العشائر أيضا ً, ولما لا, فنحن دولة عشائرية. كلما أطلعت على فريق للتفاوض من الحكومة ومن المتظاهرين أصاب باليأس والأحباط, حيث لايوجد غير شيوخ الدين وشيوخ العشائر وبعض المراهقين السياسيين الذين يتحكمون بمقاليد الأمور. الكل حاظر في تلك المشاهد إلا القانون, نعم, لقد غاب القانون مع الأسف, أو قل قتلناه بأيدينا لأننا لم نعترف به في يوم من الأيام. لقد علمونا في الصغير أن هناك دائما ً قانونان, قانون وضعي وقانون إلهي, أما إذا تعارض الإثنان فبالتأكيد سنتبع القانون الألهي الذي يفهمه فقط رجال الدين وتنفذه فقط الميليشيات المرتبطة بهم.
سأقول لكم شيئا ً, عندما يتصدر الطائفيون المشهد سوف لن يختفي القانون وحده فحسب, بل يختفي المثقفون وخمسة وتسعون بالمئة من الناس لأنهم صامتون. تلك الأغلبية الصامتة التي ليس لها لاناقة ولا جمل في كل مايحصل, تختفي من على وجه الخريطة برمشة عين. لقد جاء الطائفيون وهم يحملون معهم مشاريع أقليمية لاتمت للوطن بصلة, ولما لا وهم لايعترفون بالقانون الوضعي! تقاسموا المناصب السياسية, ثم تقاسموا الأموال, تقاسموا المحافظات والمقاطعات, بعدها تقاسموا الشعارات التي يكسبون فيها الأموال, تقاسموا المناسبات الوطنية, تقاسموا بعدها المناسبات الدينية, تقاسموا الصحابة والأئمة فتنازعوا على الأضرحة, فهذا أمام شيعي وذلك أمام سني, تقسموا الشوارع ليحشدوا فيها للمناسبات الدينية وظلوا يبحثون في التاريخ عن مناسبات تدعم دعواهم, وأخيرا ً, وليس آخرا ً بالطبع, بدؤوا يتقاسموننا نحن المساكين, الأغلبية الصامتة, فهذا سني وذلك شيعي, وهكذا.
أي بؤس نعيش فيه ونحن في القرن الواحد والعشرين نجتر الماضي, نعم, نبحث في الماضي كالتاجر الذي خسر كل شيئ فظل يبحث في دفتر الديون عله يجد من يدين له بالمال. أن أروع كلمة أصف فيها وضعنا الحالي هو أننا مفلسون ثقافيا ً وفكريا ً وحتى عقائديا ً أذ نتبجح بشعارات دينية ندعي بأنها من الله ورسوله وهي طائفية بحتة. عندما نفلس على جميع المستويات يضيع المستقبل ويختفي الأمل, حينها نعود للتاريخ عودة المهزومين علنا نجد شيئا ً نعيد فيه ماء الوجه. ولما لا! فلو لم نكن مفلسين ماتحكم بنا شيوخ الدين, وماسيطر علينا الجهل والفقر, وما تسلط علينا كل مرة جاهل ليصبح دكتاتورا ً. عندما نكون مفلسين ثقافيا ً وفكريا ً وعقائديا ً تختفي منا الرغبة في الحياة ونحاول يائسين بالإدعاء زورا ً وبهتانا ً بأن لنا وطن واحد, وطن نرسم له خريطة جميلة, على الورق فقط, نرفع فيه علم فيه كل ألوان الطيف الشمسي, نصوت في البرلمان على نشيده الوطني, ندعي بأن لنا جيش وقانون ودستور. كلنا نحمي ونفدي هذا الوطن, ونصيح بأعلى أصواتنا, نموت ويحيا الوطن! لكن, ومع الأسف الشديد, أصبحنا نموت لوطن لاوجود له إلا في رؤوس بعض الطائفيين الذين يعرفون الوطن بهذا الشكل. لاوجود لهذا الوطن المزيف, أننا في الحقيقة نعيش أزمة حقيقية, أنها أزمة وطن!
وطني…..
ماكنت في يوم من الأيام خريطة
ماكنت رصاصة لامدفع
ماكنت نشيدا ً يتلوه صغار عند الصبح
ماكنت “بدلة” زيتوني لا مرود
ماكنت في يوم من الأيام علم من ألوان
ماكنت شعارا ً يحمله الثوار،
وتدوسه أقدام عند القسمة
ما أنت النفط يشتعل حتى الصبح،
يحرق أهداب الصبية وهم جوعى
وطني……
هل أنت صغير للحد الذي يختزلك كل زعيم أهوج؟
……………….
كلا…….
وطني النهرين،
وطني أمي، شقوق الطين بوجه الأرض
وطني عرس يمتد طويلاً حتى الصبح
وطني الأزهار تتناثر عند ضفاف أبي نؤاس
وطني أغنية لاتنضب ألحانا، لاتسكت إلا عند صلاة الفجر
وطني قبب صفراء, مآذن وصلبان
وطني أمنية تتناثر أمطارا ً،
تبلل أثواب الصبية، تسد طرقات الأرض, تطوف بها أحلام من فرط السيل
وطني العشق بعينه حين ينام العشاق
وطني قصيدة، لم يكتبها أحد
تكتبنا كلمات تملأ أرصفة الطرقات
وطني عصفور، يحلق مسرورا ً،
يسلم على كل بعيد، كل غريب يلتحف الهجرة ويشكو البعد
وطني أنت، أنا، هو وهي، نحن وهم
وطني…..يا أنت!
ما أروعك، تموت بموت الإنسان,
لاتحيا ويموت الإنسان!