العولمة هي اتباع سلوكيات واحدة و الاعتقاد بمعتقدات واحدة من قبل كل البشر , أو على الأقل العولمة هي تشابه السلوكيات و المعتقدات بين جميع البشر. نظن عادة ً أن العولمة قد جعلت العالم بأسره مجرد قرية صغيرة. لكن العولمة التي وُعِدنا بها أمست عولمة افتراضية لأننا افتتحنا عصر السوبرعولمة. ثمة فرق كبير بين العولمة و السوبرعولمة. فبينما العولمة هي تشابه أو تطابق سلوكيات و معتقدات البشر في الواقع المعاش , السوبرعولمة هي تشابه أو تطابق سلوكيات و معتقدات البشر في العالم الافتراضي المتمثل في وسائل التواصل المعاصرة كالأنترنت و القنوات التلفزيونية الفضائية. السوبرعولمة هي زوال العولمة و غيابها عن الواقع المعاش و تحوّلها إلى مجرد عولمة افتراضية. فالعولمة موجودة فقط فيما نرى على التلفزيونات الفضائية و نقرأ على شاشات الأنترنت. ففي هذه الوسائل الاعلامية المعلومات ذاتها متاحة لجميع البشر ما يجعل الجميع متساوين في امتلاك أو إمكانية امتلاك المعلومات نفسها فامتلاك أو إمكانية امتلاك المعتقدات و السلوكيات ذاتها فتتحقق بذلك العولمة الافتراضية. هكذا العولمة الافتراضية أي السوبر عولمة المتحققة في وسائل التواصل المعاصرة جعلت الناس جميعاً كائناً إنسانياً واحداً ذات هوية واحدة تماماً كما لو أن العولمة قد نجحت. لكن هذه الذات أو الهوية المشتركة بين البشر ليست سوى هوية افتراضية بسبب أنه تم اكتسابها من خلال عوالم افتراضية قائمة في التواصل الافتراضي عبر الأنترنت و التلفزيون الفضائي. من هنا , زال العالم الواقعي و تحوّل إلى عالم افتراضي. فنحن اليوم لا نحيا في عالم تحكمه العولمة الواقعية و المعاشة , بل نحيا في عوالم افتراضية تحكمها عولمة افتراضية.
من جهة معينة , يبدو أن العولمة قد زالت. و هذا يفسِّر استمرارية إنغلاق الجماعات على نفسها و تعصبها لسلوكياتها و معتقداتها و معاداتها لسلوكيات و معتقدات الجماعات الأخرى. فلو أنه توجد عولمة واقعية بالفعل لزالت الخلافات بين الشعوب و الجماعات , و هذا ما لم يحدث. فمن المفترض أن العولمة ستوحِّد البشر في إنسانية واحدة , لكن ما زالت البشرية منقسمة بين مفاهيم و نظريات مختلفة في الإنسانية و الحضارة. هكذا يبدو أن العولمة غير موجودة فعلياً. لكن من جهة أخرى , يبدو أيضاً أن العولمة موجودة و فاعلة. فلو أنها غير موجودة ما تمكن البشر من التواصل و التفاهم و التعامل فيما بينهم و كأنهم يحيون في قرية صغيرة. على هذا الأساس , يبدو أنه لا توجد عولمة كما يبدو أنه توجد عولمة. لكن عدم وجود العولمة يناقض وجودها. من هنا , لا بد من حل هذه الإشكالية , و يتم ذلك من خلال السوبر عولمة. فبالنسبة إلى السوبر عولمة , العولمة موجودة لكونها عولمة افتراضية موجودة على شاشات التلفزيون و الأنترنت , و في الوقت نفسه العولمة غير موجودة بسبب أن الواقع المعاش خال ٍ منها. هكذا تحل السوبر عولمة الإشكالية المعرفية السابقة فتكتسب مصداقيتها. و بما أن العولمة موجودة في العالم الافتراضي فقط و غائبة عن الواقع المعاش , إذن من الطبيعي أن يشعر الإنسان و يظن أنه ينتمي إلى الإنسانية كلها و في الوقت نفسه يشعر و يظن أنه منتم ٍ إلى قبيلته و جماعته و طائفته فقط بدلا ً من أن يكون منتمياً للبشرية جمعاء. هكذا كرّست السوبر عولمة المتمثلة في العولمة الافتراضية انقسام الذات الإنسانية على نفسها فتحوّل الصراع بين العولمة و اللاعولمة إلى صراع داخل كل ذات إنسانية بدلا ً من أن يكون مجرد صراع بين مشروعين متنافسين.
من المنطلق ذاته , تتمثل السوبر عولمة في انفتاح الأسواق التجارية و انغلاقها في آن. فمعظم الأسواق التجارية منفتحة حول العالم بحيث من الممكن الاستثمار فيها و نقل البضائع منها و إليها ما يشير بقوة إلى حضور العولمة. لكن هذا الانفتاح ليس سوى انفتاح افتراضي يصاحبه انغلاق الأسواق المتصفة بالحرية , و السبب في ذلك هو أن المنتجات يتم تعديلها و تغييرها لتناسب هذا السوق المحلي أو ذاك فالشركات نفسها تتخذ أشكالاً و مضامين مختلفة لتنسجم مع الأسواق المحلية المختلفة ما يشير إلى اللا عولمة. هكذا العولمة تصاحب اللا عولمة بشكل دائم ما يؤكد على صدق موقف السوبر عولمة القائل بوجود العولمة و عدم وجودها في آن لكونها مجرد عولمة افتراضية. و من منطلق هذا النموذج الفكري أيضاً , الديمقراطية نفسها أمست ديمقراطية افتراضية. فمثلا ً , حرية التعبير أصبحت حرية تعبير افتراضي ؛ فنحن أحرار فقط في التعبير على شاشات الواقع الافتراضي أي على صفحات الأنترنت. من هنا , انتقلت الحرية من حرية معاشة إلى حرية مفترضة و افتراضية , و السبب في ذلك هو أننا أمسينا نعتمد كلياً على وسائل التواصل الافتراضية كالأنترنت. فبدلا ً من أن نجتمع في الواقع لنناقش هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك أصبحنا نجتمع افتراضياً على شاشة الأنترنت. و بدلا ً من أن نعبِّر عن آرائنا وسط الناس في الواقع المعاش أمسينا نعبِّر عن آرائنا افتراضياً من خلال عرضها على شبكات الأنترنت. هكذا الديمقراطية أمست ديمقراطية افتراضية تماماً كما أصبحت حياتنا حياة افتراضية.
بالإضافة إلى ذلك , كلما إزدادت العولمة و انتشرت أكثر كلما إزدادت الانعزالية و سيطرت على الأفراد و الشعوب. فمثلا ً , بما أن العولمة متمثلة في تبني السلوكيات نفسها من قبل الأفراد و الشعوب كافة , إذن من الطبيعي أن تدفع العولمة كل طائفة و مدينة و عائلة إلى امتلاك قناة فضائية تقليداً لسلوك الدول التي كانت وحدها تملك القنوات التلفزيونية. هنا العولمة هي السبب الحقيقي وراء انتشار ظاهرة امتلاك القنوات الفضائية من قبل كل مذهب و طائفة , و بتنا نشهد امتلاك هذه المدينة أو تلك لقناتها الفضائية الخاصة ما يبشّر بأن في المستقبل القريب ستملك كل مدينة تلفزيونها الخاص و من ثم ستمسي كل عائلة مالكة لقناة فضائية خاصة. و ليست هذه الظاهرة سوى عملية تقليد و تبني للسلوكيات ذاتها. لكن العولمة متمثلة في تقليد و تبني السلوكيات نفسها. بذلك ظاهرة انتشار القنوات التلفزيونية ليست سوى فرع من فروع العولمة. لكن امتلاك كل طائفة و مدينة و عائلة لقناة تلفزيونية خاصة بها يؤدي إلى عزل الطوائف و المدن و العائلات , و بذلك مع تطور العولمة و انتشارها بشكل أوسع تتطور الانعزالية و تسيطر على الأفراد و الشعوب. من هنا , العولمة التي وعدنا بها ليست سوى عولمة افتراضية تحمل في جوهرها نقيضها المتمثل في عزل الشعوب و الأفراد عن بعضهم البعض. لم يصبح العالم قرية صغيرة بل أمسى قرى صغيرة منعزلة. هكذا العولمة التي كانت من المفترض أن توحّدنا أمست آلية تفريق و عزل. لكن لماذا انتشار امتلاك القنوات التلفزيونية يؤدي إلى عزل الأفراد و الشعوب؟ عندما تملك طائفة أو مدينة أو عائلة معينة قناتها التلفزيونية الخاصة حينئذٍ ستبث معتقداتها الخاصة و تدافع عنها فتجد نفسها تقاتل معتقدات الآخرين ما يؤدي إلى تحقق هذا القتال في الواقع. هكذا كل قناة وظيفتها الأساسية كامنة في نشر عقيدة مالكيها و محاربة العقائد المنافسة لعقيدتها. لذا انتشار القنوات التلفزيونية و الفضائية يساهم بقوة في عزل الناس عن بعضهم البعض و نشر الصراعات الطائفية و المذهبية و المناطقية. مثل تطبيقي على عمليات العزل الاعلامي هو أن أتباع كل طائفة يشاهدون فقط القنوات التلفزيونية الخاصة بطوائفهم و بذلك ينعزلون عن المنابر الاعلامية الخاصة بالطوائف الأخرى ما يكرّس الانشقاق الطائفي و الجهل بالآخر. هكذا العولمة أيضاً تدفع إلى المزيد من الطائفية.
ليس للعولمة ماهية محدَّدة سلفاً , بل يعتمد تشكل العولمة على كيفية استخدامنا لها. و نحن اليوم نستخدم العولمة من أجل خلق المزيد من الجهل بالآخر و تمكين القتال و الصراع مع الآخرين. كل هذا يفسّر لماذا لم نتمكن نحن العرب من التطور رغم اعتمادنا على التكنولوجيات المعاصرة. فالتكنولوجيا غير محدَّدة الماهية و بذلك قد نستغلها للجهل و التجهيل كما قد نستخدمها للعلم و التعليم. لكننا اخترنا اليوم في عالمنا العربي و الاسلامي استغلال التكنولوجيات المعاصرة كالأنترنت و القنوات التلفزيونية و الفضائية كي نجهل و نقاتل بعضنا البعض لأننا قبلنا التكنولوجيا و استخدامها من دون أن نقبل العلم الكامن وراء تكوينها. فبمجرد أن رفضنا العلم رفضنا التفكير الموضوعي و المنطقي و بذلك رفضنا الآخرين. اليوم تحوّلت العولمة إلى لاعولمة بسبب أن العولمة الآن تدفع إلى المزيد من الانعزالية. و خير دليل على ذلك هو أن العولمة لم تقض ِ على النزاعات و الحروب بين الشعوب و ضمن الشعب الواحد. بل على النقيض من ذلك تشارك العولمة بقوة في تغذية الصراعات و الحروب من جراء صياغة الانعزالية الجديدة و تدعيم قواها و انتشارها و استمراريتها. كان من المفترض على العولمة أن تحل الصراعات و تقضي على الحروب لأنه كان من المفترض أنها ستخلق سلوكيات و معتقدات مشتركة بين الناس جميعاً. لكننا وجدناها اليوم تتحوّل إلى آلية خلق للطائفية و المذهبية و المناطقية و تهدف إلى بناء المزيد من الانقسام و العزل و الغربة.
في عصر العولمة المفروضة و المفترضة أمست المعلومات متاحة للجميع و من صناعة الجميع في آن. فمثلا ً, المعلومات في الأنترنت يشارك في صياغتها الجميع , و من الممكن لكل فرد أن يشارك في إنتاج معلومات متاحة للجميع من خلال عرضها في مواقع الأنترنت. و بذلك الأنترنت مثل واضح على ظاهرة العولمة الافتراضية و يكشف عن كيفية صناعة المعلومات. و بما أنه يشارك الجميع في صياغة المعلومات أو تقديمها و عرضها على شاشات الأنترنت , إذن من المتوقع أن تختلف المعلومات و تتعارض و تناقض بعضها البعض من جراء اختلاف و تعارض الأفراد الذين يصوغون المعلومات أو يعرضونها. من هنا , في زمن العولمة الافتراضية لم تعد المعلومات معبِّرة عن الحقائق الواقعية بل أصبحت مجرد تفاسير و تأويلات لحقائق افتراضية ما يجعل كل فرد يختار حقائقه الخاصة المعارضة للحقائق التي يختارها الآخرون. و بذلك يزداد الانقسام بين الناس و يتطور الانعزال بينهم و تتحقق أقصى أنواع غربة الإنسان عن الإنسان. هكذا أمست العولمة تفرِّق بدلا ً من أن توحِّد فأصبحت بذلك العولمة لا عولمة. مثل ذلك أنك لا تجد تاريخاً موحَّداً للعالم العربي-الاسلامي على شاشات التواصل المعاصرة فلا نعلم مثلا ً ما إذا كان يزيد خليفة المسلمين صالحاً أم كافراً و قاتلا ً ؛ فثمة قراءات مختلفة و متعارضة لهذا التاريخ ما أدى إلى غياب الحقائق و ضياعها و استبدالها بحقائق افتراضية من المستحيل الحكم على كذبها أو صدقها لأنها هي ” الحقائق ” الوحيدة المتاحة لنا. مثل آخر على آلية العولمة المعاصرة المتمثلة في تحوّل العولمة إلى لا عولمة هو أن الديمقراطية ذاتها التي وعدتنا بها العولمة أمست مالكة لمعان ٍ و دلالات متعددة و متعارضة ما حتم ضياع مفهوم الديمقراطية و قتله. فالديمقراطية كما تقدَّم في شبكات الأنترنت و الصحف و الفضائيات العربية أصبحت حكم الأكثرية بينما الديمقراطية في الغرب هي نقيض حكم الأكثرية لأن الأكثرية قد تتفق على ضلال أو اضطهاد الأقليات. كما أن الديمقراطية المشرقية عموماً هي حكم حقوق الجماعات و الشعوب كحقها في الاستقلال عن دول الغرب بينما الديمقراطية الغربية هي حكم حقوق الأفراد في استقلالهم عن بعضهم البعض. هكذا تم تفريغ مضمون الديمقراطية و محتواها , و حوّلت العولمة الافتراضية الديمقراطية إلى نظرية بلا معنى و بلا دلالة. لكن هذا لا يعني أنه يجب قتال الديمقراطية و معاداتها بل يعني أنه يجب صياغتها من جديد. فالديمقراطية مشروع إنساني يحتاج إلى فلاسفة و علماء جدد قادرين على بنائه و الكشف عن مضامينه.
تاريخ العولمة هو تاريخ اللاعولمة ؛ فمن خلال العولمة تطورت الانعزالية و تكرست انقسامات الشعوب و اقتتالها , أي بإسم العولمة تحققت اللاعولمة. و بإسم العلم و حرية صياغته و تقديمه زال العلم و سيطرت المعلومات الافتراضية المتصارعة من جراء تناقضها. تاريخ الإنسانية تاريخ صراع الإنسان مع اللا إنسانية.