الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى القرن العشرين

الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى القرن العشرين

من هو الآخر على نطاق المجتمعات؟ هل هو الآخر الديني، اي اتباع الديانات الاخرى، ام هو الآخر الاثني والعرقي؟ وما هي المعايير التي تحدد الانا والآخر، هل هي معايير دينية ام ثقافية ام اثنية؟ ثم هل تنتزع الذات نحو رفض الآخر او احتوائه والتعاون معه ام تميل الى التبعية اليه؟وما هي الشروط التي تهيء لكل حالة؟.
 ان اي واحد مختلف دينياً او عرقياً او ثقافياً، يمكن ان يكون الآخر بل هو في الواقع آخر بكل ما يعنيه الاصطلاح وبالتالي يمكنه ان يؤثر ويفعل ويلعب دوراً فيمكنه ان يكون صديقاً او عدواً مناقضاً او مماثلاً قابلاً للنفي والقبول… وفي ضوء هذا، اتخذت اديان وايديولوجيات ومجتمعات وتجمعات ثقافية او قومية او غيرها، موقفاً مختلفاً من الآخر، بعضها رآه خيراً مطلقاً وبعضها الآخر اعتبره شراً مطلقاً، وذلك حسب درجات الوعي الفردي والجماعي والمصالح والمكان والزمان.
 الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، عرض صورة الشعوب الاخرى والديانات الاخرى، كما رآها العرب خلال اربعة عشر قرناً، وكما ارتسمت في ثقافتهم ودخلت وجدانهم واثرت في مواقفهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاخلاقية تجاه هذه الشعوب وكيف اثروا او تأثروا بها.
 واعطى الكتاب بعض الاهتمام لصورة الشعوب الاوربية في الثقافة العربية، كيف بدأ تكونها، وكيف تطورت، الى ان اصبحت صورة عظيمة لدى العرب في الوقت الذي اصبحت فيه صورة العرب عظيمة ايضا في الثقافات الاوربية وما تبع ذلك من مواقف او ما بُني عليه من علاقات ما زالت قائمة حتى عصرنا الحاضر.
 حاول الكتاب ايضاً، ان يحيط برؤية العرب للشعوب الاخرى بل برؤية العرب للآخرمنذ القرن السادس الميلادي، حتى القرن العشرين، منذ ان كان العرب قبائل في جزيرتهم التي كان محيط عالمهم، وفضاؤها فضاء العالم بالنسبة اليهم، الى ان تسنى لهم بناء امبراطورية واسعة، تمتد من الهند الى شمال افريقيا وجنوب غرب اوروبا، وتدين لها عشرات الشعوب والاديان، في آسيا وافريقيا واوروبا ايضاً.
 وعرض الكتاب، مرجعية مواقفهم من الآخر، وتغير هذه المواقف تجاه الشعوب والاديان، والمرحلة التاريخية ومصالح الطبقات الحاكمة وما رافق ذلك وتلاه من خلافات وصراعات.
 بين الذات والآخر، علاقة جدلية لا ينبغي الغاؤها او تجاهلها والسكوت عنها. فعلاقة كل منهما بالآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحضارات… يُعد كل شطر منها شرطاً لوجود الآخر وفهمه ووعيه والاعتراف به.
 وجدلية الذات والآخر تعني في الحالات كلها، انه يستحيل وجود الواحد منها من دون وجود الآخر او معرفة الواحد منها من دون معرفة الآخر، حتى اصبح كل من هذه الثنائية عاملاً لمعرفة الآخر، فهما ذاتان منفصلتان في الوقت نفسه، مفترقتان ومتحدتان، وغدت العلاقة الجدلية بينهما جزءاً من كل منهما، وشرطاً لوجوده واستمراره.
 لا تكون الذات الا بوجود الآخر، وهذه بديهية، ويصعب بالتالي الاستدلال على الذات من دون معرفة حقيقية وشاملة بالآخر. ولذلك نلاحظ دائماً ان الذات تسعى وتطمح الى معرفة الآخر من خلال الدخول اليه وتلمس بنيته وتركيبه ومواصفاته وماهيته، لان ذلك من المقدمات التي لا بد منها، والحاجات التي لا يُستغنى عنها لمعرفة الذات ذاتها ووعيها بها. فلا تستقيم الحياة الانسانية دون الوعي، والوعي من غير الاختيار الحي يجعل الانسان منفصلاً عن واقعه ومعتزلاً عما حوله. وعي لقدرة الذات على التعامل مع السياق الذي تتحرك فيه واكتشاف عناصره ومكوناته، اي الآخر بالمعنى الواسع لمفهوم الآخر. فالقدرة على الخروج من دوائر الذات الى ما هو خارجها تعني الثقة بالذات من جانب وتعني قدرتها على ان تمتحن بما تمتلك من رؤى وافكار من جانب آخر.
 من البديهي ان الوعي هو المحدد الرئيس للآخر، والقادر على تصوره او تلمسه، ومن دون الوعي يستحيل اقرار وجود الآخر ومعرفته. ولان عملية الوعي، مركبة، فردية، جماعية، قبلية، قومية، دينية، اثنية، فان ماهية الآخر ومواصفاته وفهمه واساليب التعامل معه، تحدد في ضوء هذا الوعي والمرحلة التي يمر بها. ذلك ان صورة الآخر ليست هي الآخر نفسه بل مفهومه، وانعكاسه في الذات، وهذا يرتبط بالشرط التاريخي، اضافة الى الوعي الفردي وصورة الآخر، وان كانت مجردة شكلاً، فهي في الواقع حصيلة شروط مادية، ونتيجة شروط خارجية لا ذاتية، رغم تكونها في الذات، والآخر هو اكتشاف الوعي وحصيلة الوعي، ولذلك يرى البعض حتمية وجود الآخر عند العقلاء وغيابه عند غيرهم.
 اذن، لانه لا يمكن فهم الذات بدون فهم الآخر، فينبغي الاعتراف بوجود علاقة شرطية وجدلية بين الذات والآخر، حيث يصبح الآخر شرطاً لتحرر الذات من ذاتيتها ولا تتحقق الذات في الواقع الا بالتفاعل مع الآخر. ولكن هذه العلاقة الجدلية بين الانا والآخر والتفاعل بينهما، ليسا امراً تلقائياً بل هما امر صعب. وهناك من يقول انه لا توجد علاقة بالآخر الا على قاعدة غالب ومغلوب. ولذلك، فان جدل الحضارات او الثقافات ينتج وعياً بالذات والآخر، ولا يستقيم هذا الوعي اذا اكتفى بالذات من دون الآخر.
 لم تشكل صورة الآخر في الثقافة العربية صدفة او عرضاً او في وقت قصير، فقد اسهم الرحالة العرب والجغرافيون والمؤرخون والتجار في تكوينها، كما اسهم التواصل التجاري والاقتصادي والاجتماعي والحروب وغيرها… في رسم الصورة وتثبيتها. ولا شك في ان التواصل الثقافي والحضاري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق بين العرب والشعوب الاخرى.، انتج تأثيراً متبادلاً كما كان له دور كبير في تكوين الثقافة العربية الاسلامية، وثقافات الشعوب الاخرى، وفي المجالات كلها كانت المرجعية الدينية الاسلامية هي المقياس الذي تقاس بموجبه النظرة الى الشعوب الاخرى والديانات الاخرى، كما كانت تعاليم الاسلام وسلوك المسلمين هما النافذة التي رأى الغرب من خلالها تلك الشعوب. وكانوا يفترضون ان غير المسلمين وغير الكتابيين من هذه الشعوب لا يمكن ان يكونوا يعرفون المساواة والعدل حتى انهم اذا وجدوا عندهم مثل هذه القيم كانوا يستغربون كيف ان اقواماً تحكم بالعدل وتعترف بالمساواة مع انها غير مسلمة.
 ان تمثل الآخر في الثقافة العربية، ليس معطى من معطيات بنية العقل العربي بل هو انتاج اجتماعي عندما كان المجتمع العربي في قوته، وكانت ثقافته في مداها غير مهتزة، لم يكن الآخر مشكلة وكان حقل الآخرين متسعاً والآخر متعدداً.
 لقد تطورت صورة الآخر في نظر الثقافة العربية وفي نظر العرب عموماً بين مرحلتي ما قبل ظهور الاسلام وما بعده، وما ان اتسعت الفتوحات وبدأ العرب المسلمون تكوين العالم وانفتحوا عليه، وكان ينبغي عليهم بالضرورة ان ينشئوا صورة الآخر، ويضعوا معاييرها ويصفوها ويعرّفوه، ثم يحددوا اساليب التعامل معه. وقد كان هذا الآخر قبل الاسلام محدود العدد، قليل التأثير على النظام القبلي العربي في مختلف المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى النظام السياسي الذي كان سائداً ولم يكن هذا الآخر من الناحية الدينية، يتجاوز اليهود والنصارى وجزئياً المجوس والصابئة، ومن الناحية الأثنية بعض المعارف والعلاقات مع الفرس والروم والاحباش، وبعض المعلومات عن كل منهم. لكن الامر انقلب بعد الاسلام رأساً على عقب، فتعدد الآخر الديني واضيفت اليه ديانات شرقية، اخرى لم يكن يعرفها (الديانات الهندية والصينية والفارسية…) كما تعدد الآخر الاثني، حيث تواصل العرب المسلمون بعد توسع امبراطوريتهم مع الهنود والصينيين والترك على مختلف اثنياتهم والصقالبة والفرنجة والافارقة، ولا شك ان تعددية الآخر هذه ادهشتهم، ولكنها في الوقت نفسه فرضت عليهم ضرورة اتخاذ موقف منه وتكوين صورة عنه واجتهاد مواقف قيمية واخلاقية واجتماعية، واخيراً قانونية للتعامل معه.
 وبسبب هذا او استيعاباً لهذا، تنوعت معايير تحديد الآخر وتعريفه، واغتنت، لكن المعايير التي كان معمولاً بها قبل الاسلام بقيت هي نفسها حيث بقي التمايز الديني هو التمايز الاساسي الحاسم في توجيه النظرة الى الآخر وتقويم اوضاعه، وبقيت المعايير الدينية والاثنية والاجتماعية (الغني والفقير) بل والقبلية، معمولاً بها الا ان مضمونها تغير كما تغير التعامل مع هذا الآخر حسب مصالح الامة او الحاكم او الدولة او المسلمين عامة.
 ان اكتشاف الآخر، عملية ممتدة في الزمان ولا تتوقف ابداً، وذلك بسبب التفاعل الانساني بين الامم والشعوب والثقافات في اوقات السلم والحرب على السواء، وغير ان ذلك لا ينفي ان هناك لحظات تاريخية فاصلة تشتد فيها الحاجة الى الاكتشاف المكثف للآخر ونحن نمر في الوقت الراهن على المستوى العالمي بلحظة تاريخية مثيرة نحاول فيها عرباً ومسلمين وغربيين ان نكتشف الآخر.
الغربيون معنيون عناية شديدة باكتشاف الاسلام كدين واستكناه طبيعة المسلمين كبشر واستطلاع ماهية الثقافة الاسلامية وسماتها البارزة وتحليل دوافع البشر الذين يسلكون في ضوء قيمها وتوجهاتها.
والمسلمون المعاصرون معنيون ايضاً بحكم المعارك الضالعين فيها باكتشاف الآخر الغربي وتحليل طبيعة الايديولوجيات التي يتبناها ودوافع السلوك التي تصوغ الاستراتيجية الغربية ازاء العالم الاسلامي.
ان الصراع العربي الاسلامي مع اوروبا خلال الالف سنة الماضية اخذ اشكالاً متعددة، وكانت له اهدافاً متغيرة. وقد ترك هذا الصراع مع التواصل المستمر العربي الاوروبي تأثيراً متعددالجوانب في قرونه الخمسة الاولى كان التأثير عربياً اسلامياً على اوروبا، وكانت هذه تتشبه بالعرب والمسلمين وتقلدهم وتنقل علومهم وحضارتهم، اما في القرون الخمسة الثانية فقد انقلب الأمر واصبحت اوروبا هي المثل والمعلم، وقد ادى هذا التوصل والصراع والمصالح وغيرها الى تشكيل صورة نمطية لدى كل من الطرفين عن الطرف الآخر، وهي صورة سلبية مشوهة مؤذية لكل منهما، ومهما كانت اسباب تشكلها او جوانب صحتها ودقتها، ولها مرتكزات واقعية وتاريخية وموضوعية، فقد بقيت هذه الصورة قائمة ولا شك في انها تحتاج الى بذل جهود جدية من كلا الطرفين لتغييرها ورسم صورة عصرية واقعية وموضوعية وصحيحة بدلاً منها.
ان نظرة الآخر تبقى دائماً مصدراً للريبة لذلك فان ما نراه سرعان ما يتحول الى شيء متطرف في ايجابيته او سلبيته، ويجري التعامل معه على هذا الاساس، وهذه الريبة هي التي حالت دون ادراج هذه النظرة في خطاب نقدي للذات.
لقد سببت مواقف اتباع الخطاب الديني المتطرف بشكل رئيس قيام الحروب الدينية والمتذرعة بالدين خلال التاريخ. وبرغم ان الحروب الحديثة في الواقع هي خلافات سياسية او صراعات على مصالح اقتصادية او مالية او مناطق نفوذ او لحل نزاعات على مختلف اسبابها، فقد كانت تجري عادة تحت مظلة دينية وشرعية دينية. وكان التطرف دائماً يصيب اتباعه بالعمى المعرفي والاخلاقي، وعمى المحاكمة والرؤية الواقعية، بحيث لا يعترفون بالآخر ويصرون على الجهل به وتجاهله، ويرونه مارقاً او كافراً لا يمكن الوصول معه الى اتفاق او تسوية او قبوله او التعايش معه، ولا تستقيم الامور الا بابادته. وقد ابليت بعض الفرق الاسلامية بمثل هذا الخطاب المتطرف، ورفضت الحوار مع الآخر او سماع رأيه او تفهم هذا الرأي.
وقد امتدت حرب الآخر لتشمل صراعات قومية من خلال خطاب التطرف القومي، صراعات بين العرب والفرس، وبين العرب والترك، برغم انهم جميعاً يدينون بالاسلام، ورعايادولة واحدة، وساعد على ذلك تضخم الذات العربية التي يرى البعض انها ذات صبغة تضخمية لا تقبل الاستعلاء عليها بل لا تقبل شبهة الاستعلاء.
ولا يختلف  الامر كثيراً تجاه الآخر الكتابي (اليهودي/ المسيحي) الذي حدد القرآن الموقف منه باستفاضة ووضوح، لكن طبيعة التطور ومصالح الدولة واراء الحكام والسلاطين والتخلف وتطرف الخطاب الديني والثقافة الموروثة من مرحلة ما قبل الاسلام ادت الى اضطهاد اهل الكتاب هؤلاء، واتهامهم بالكفر والمروق ومعاداة الاسلام وفرض عليهم احياناً نمط سلوك وقيم واساليب عيش غير ما قرره القرآن وأتى به الاسلام وحسب، رغبات واراء هذا الحاكم او ذاك من دون شرعية قرآنية او دينية في وقائع متعدة.
ان الخطاب الديني المتعصب يرى الآخر من خلال المطلقات المسبقة التي جاء بها رجال الدين، بعد ان اصبحت ثواب يقاس بها الآخر، ويتحدد الموقف منه، فالآخر حسب هذا الخطاب شر مطلق وما من رؤية وسط او تقويم وسط يُعتد بهما، لان مرجعية هذا الخطاب هي النص المقدس او العمل المقدس.
ويفسر النص المقدس غالباً تفسيراً ظاهرياً، ويخضع تأويله لجملة شروط وظروف ومصالح من دون الاهتمام بظروفه وزمانه او بالاهداف التي جاء من اجلها، ولذلك يكون هذا الخطاب وحيد الاتجاه عموماً يميل الى تجاهل الحوار والتفاعل، ويرفض العلاقة المتبادلة، وفي النهاية لا يعرف الآخر معرفة جدية وشاملة وعميقة، بل غالباً ما يتصوره، لان لا يحاوره ولا يسأله ليعرف رأيه بل يسأل نفسه ويجيب في آن واحد، ويفسر النص المقدس كما يفهمه هو او كما يريد ان يفهمه في حدود وعيه، وفي اطار معارفه فقط دون ان يطّلع على معارف الآخرين ورؤاهم وتفاسيرهم ودون ان يفهمها او يعترف بها. ويصبح الآخر بالنسبة الى الخطاب الديني المتعصب هو العدو الذي يتحفز للانقضاض عليه ويعتبر ان الآخر يستحق التدمير، ولذلك يخوض معه حرباً ابدية، ويركز على الذات تركيزاً مطلقاً واعمى.
لم يكن هذا الكتاب كتاباً تاريخياً، ولكنه عرض تاريخي لصورة الشعوب الاخرى في الثقافة العربية، وقد حاول المؤلف ان يعرض هذه الصورة كما رآها العرب، وكما ترسخت في وجدانهم وعمق ثقافتهم، وفي ضوء ما وصفها او نقلها او اشار اليها مؤرخوهم ورحالتهم… ولم يحاول المؤلف اجراء دراسة نقدية لاسباب تكوّن الصورة في كل عصر او لتطور الموقف منها تطوراً مختلفاً، او للنصوص المتعلقة بها او استخلاص رأي او موقف فلسفي حول ذلك، لانه من المهم تلمس شكل الصورة ومضمونها والاحاطة بها تمهيداً لوضع الاساس التاريخي لاجراء الدراسات النقدية لها وعليها الوصول الى معرفة الشرط الموضوعي السياسي والاقتصادي والتاريخي والاجتماعي الذي ساهم في تحديدها في كل عصر وتجاه كل شعب.
• الكتاب- الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى القرن العشرين، تأليف- حسين العودات، ط1، دار الساقي، بيروت، 2010، 316 صفحة.