المتتبع لتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ أن خرج على شاشات التلفاز إبّان حملته الانتخابية، يجد أن غالبيتها ينصب على المملكة العربية السعودية التي حظت على الأولوية في خطابات ترامب المثيرة، ووصفت غالبيتها “بغير الدبلوماسية” كونها هاجمت المملكة ووصفتها بشتى الأوصاف والأسماء الغريبة، وحملت معظمها منطلقاً واحداً وهو الاقتصاد، الذي تنبثق منه شخصية رجل الأعمال ترامب الساعي إلى الإبحار ببلده نحو الاستقرار الاقتصادي والتقليل من البطالة وتوفير فرص العمل على وفق ما طرحه في حملته الانتخابية قبل تسلمه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأول وصف طرحه ترامب خلال ترشيحه عام (2016) حول السعودية هو “البقرة الحلوب التي تدر ذهباً ودولارات”، والذي دعا فيه “النظام السعودي إلى دفع ثلاثة أرباع ثروته بدل الحماية التي تقدمها القوات الأمريكية لآل سعود داخلياً وخارجياً”.
لم يكف ترامب عن تصريحاته تلك التي تكررت بعد وصوله الى البيت الأبيض، وإنما جددها في مواقف عدة الى ان تداركت المملكة السعودية ذلك بتقديمها صكاً بقيمة “450” مليار دولار أمريكي، بعد أول زيارة للرئيس ترامب الى الرياض في العشرين من ايار 2017، ومنحت تلك الأموال تحت إطار “الاستثمارات”، كما وصفتها وسائل الإعلام السعودية الرسمية “بالصفقة التاريخية”.
كما كان للتسليح العسكري الحظوة الكبرى في تلك الصفقة، ولاسيما ان السعودية تخوض حرباً في اليمن، خلال دعمها لحكومة عبد ربه منصور هادي، دخلت عامها الرابع، كما شملت قضايا أخرى من ضمنها: “أمن الحدود ومكافحة الإرهاب، والأمن البحري والساحلي، وتحديث القوات الجوية، والدفاع الجوي والصاروخي، وتحديث الأمن السيبراني وأمن الاتصالات” بحسب ما أدلت به التصريحات الرسمية لطرفي الاتفاق.
وان تعددت مسميات تلك الأموال وتوصيفاتها، إلا إنها لا تخرج عن دائرة الاستنزاف الأمريكي للرياض، الذي لم يخجل منه ترامب وتحدّث به بكل صراحة أمام وسائل الاعلام الرأي العام الدولي، وتقبلته الرياض برحابة الصدر كونها على يقين تام ان إثارة غضب الملياردير المهووس في المال، سوف يجعلها تدفع ثمناً غالياً، وقد يسهم بفتح الملفات القديمة التي تعود الى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، المتعلقة بدعم المملكة للتنظيمات الإرهابية، ودورها في تنشئة القاعدة ورفدها بالمال والسلاح والفتاوى الدينية، منذ ان ظهر باني حجرها الأساس عبد الله عزام، الاستاذ في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وصانع اسامة بن لادن، وقائد القاعدة في أفغانستان إبان المواجهة ضد الاتحاد السوفيتي، انتهاءً بأحداث 11 سبتمبر وتفجير برجي التجارة العالمي الذي تمتلك واشنطن الأدلة الدامغة والبراهين والوثائق التي تدين من خلالها الرياض وتثبت وقوفها وراء تلك الهجمات، وهي بمثابة عصا التوبيخ التي تلوّح بها واشنطن بين الحين والأخر، كلما أرادت ان تمتص المال السعودي، ولاسيما بعد إقرار قانون “جاستا”، الكابوس الجاثم على صدر الرياض منذ إقراره في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما، الذي وجد فيه ترامب ضالته “لحلب السعودية”.
أطباق الذهب التي قدمتها المملكة الى الملياردير الأمريكي والهدايا المقدمة الى زوجته وابنته لم تشبع جشعه الرامي من خلاله الى تحقيق حلمه بتطبيق ما تعهد به خلال حملته الانتخابية من تعهدات لكي يحظى بثقة الرأي العام الامريكي ويثبت وجوده بتحقيق ما لم يحققه من سبقه من رؤساء، كل ذلك دفع ترامب الى معاودة دعواته مجدداً بابتزاز السعودية، ولاسيما خلال الأسبوع الجاري بعد ما كشف عن مكالمته المثيرة للجدل مع الملك سلمان حيث افصح عنها في بداية الامر، قائلاً خلال تجمع انتخابي في ولاية فرجينيا: “انا أحب السعودية وقد أجريت مع الملك سلمان هذه الصباح حديثا مطولا، وقلت له إنك تمتلك تريليونات من الدولارات، والله وحده يعلم ماذا سيحدث للمملكة في حالة تعرضت لهجوم”.
هذا التصريح لم يكن الأخير على الرغم من قساوته وفضيحته، وإنما جدده ترامب في تجمع انتخابي أخر في المسيسيبي، حيث قال: ان “الملك لا يستطيع الحفاظ على مملكته لأكثر من أسبوعين من دوننا”.
“المصيبة” تكمن في الموقف السعودي الرسمي الذي التزم الصمت حيال تلك التصريحات، والأبعد من ذلك إن أمراء في المملكة راحوا يبررون لترامب عبر موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” موقفه عندما أكدوا إن “من حقه أن يتحدث بما يحلو له في الانتخابات !”.
تلك التجاوزات التي وصفت “بالمهينة” دفعت ناشطين سعوديين إلى مطالبة الملك بالخروج عن صمته ورد ترامب، لكنها لم تلق آذانا مصغية من قبل أصحاب الشأن في المملكة ، ما يكشف أن الرياض تتخوف حتى من الرد، لأنها تدرك أن العصا الأمريكية ستلوح بالأفق مجدداً، إن تجرأت بكلمة واحدة خلاف ما تشتهيه إدارة البيت الأبيض.
نفخت تلك المواقف على “نار” المملكة التي تبينت إنها مجرد “رماد” على الرغم من محاولاتها التسيّد على الموقف العربي، وفرض سطوتها على دول عدة من بينها قطر واليمن، عبر فرض العقوبات على الأولى، ومحاصرة الثانية اقتصادياً وعسكرياً وشنها التحالف العربي منذ اذار عام 2015 الى اليوم، وصرف الأموال الطائلة لإدامة الصراع في المنطقة وحشر نفسها بالقضايا الداخلية التي تدور في العالم، تلك النار التي تحوّلت إلى رماد أمام سطوة ترامب وعصاه التي بيّنت ضعف المملكة حتى من الرد على تجاوزات واشنطن بحقها.
والسؤال الذي يتبادر الى أذهان الجميع، لعله يكمن في ما يلي: ما قيمة السعودية التي لا تستطيع الصمود من دون أمريكا لأكثر من أسبوعين ؟ ولو رفعت واشنطن يدها، هل تعود مجدداً لتحتل البلدان وتحوك الفوضى في المنطقة، أم إنها ستضمحل بين ليلة وضحاها ؟ ربما أدركت الرياض حجمها الحقيقي لذلك هي لا تفكر ولا مرة واحدة أن تخالف “إلهها” ترامب وحتماً ستنصاع لعصاه، وتدفع المليارات لكسب رضاه.