يقال يثاب المرء رغم انفه وايضا يقال رب صدفه خير من الف ميعاد وازيد في الطنبور نغمه حيث قالوا ايضا رب ضارة نافعه مثل هكذا امثلة تضرب لمن لايملك زمام قيادة اموره ويترك سفينته تتقاذفها الأمواج وهو ما اجده حاضرا بأبهى صوره في واقعنا السياسي المحلي حيث وجدت من حدثين وقعا بتوافق لايملك اي احد من السياسين مهما بلغ به الأدعاء والتباهي ان ينسبهما لنفسه سواء كان شخصا رأى في نفسه قائدا رمزا او حركة سياسية وجدت نفسها تتغول فجأة لتصبح محركة للأحداث ومتصدية لها .
هذان الحدثان جعلا العملية الديمقراطيه في العراق تقف على قدميها بعد الكساح والعقم الذي عانت منه على مدى سنوات عمرها العشره التي اعقبت التغيير الذي تلا سقوط نظام الحكم السابق اول هذان الحدثان هو مظاهرات المناطق الغربيه خصوصا محافظة الأنبار وثانيهما هي عملية اقرار الموازنه الأتحادية والذي كان شكل اقرارها هذه المرة علامة فارقة رغم الحجم المتميز لتخصيصاتها الترليونيه الذي لايعني شيئا ازاء طريقة التصويت عليها .
في المظاهرات ظهرت قوة المعارضه وفعاليتها وفي تصويت الموازنه برزت الموالاة وسطوتها
وبالرغم من الدور الواضح لبعض القوى السياسيه وبالخصوص بعض الأطراف من القائمة العراقيه التي ساهمت بفعالية مشهود لها في اثارت تظاهرات المناطق الغربيه الا ان خلو وفاض هذه القوى من اي مشروع سياسي واضح المعالم تطرحه للشارع تبرر به تحشيده واثارته جعلها تفقد بسرعة السيطرة على حراك هذا الشارع لأنها بالأساس لم تكن مخلصه ولامعنيه بحاجات هذا الشارع وانما ارادت استغلاله لمساومة السلطة بطريقة ابتزازيه خدمة لمصالحها هي لاخدمة لمصالح جمهورها رغم انها شريك مهم لهذه السلطة الا ان هذا لايمنع من القول من ان هذه التظاهرات لعبت دورا مركبا فهي من جهة استطاعت ان تثبت للسلطة ثقل الشارع وقيمته سياسيا حيث كشفت المعالجات التي جاءت من قبلها كنوع من الأستجابة للمطالبات الشعبيه الكثير من الممارسات المخطوئه للأجهزة التنفيذيه خصوصا الأمنيه منها وثانيا النفس الطويل والصبور و المعالجة الماهرة من قبل السلطة لهذه التظاهرات والتي اثبتت فيها تبنيا وانحيازا للأسلوب الديمقراطي جاء في بعض الأحيان بشكل طبيعي وفي احيان اخرى متكلفا تحت وطأت ضغط الأحداث الا ان ذلك لايمنع من ان هذا التعامل ساهم في تجذير السلوك الديمقراطي في محيط اقليمي يفتقر تماما لهكذا تعامل مع مثل هذه التظاهرات .
كانت القائمه العراقيه تعد اكثر القوائم اسهما في مجلس النواب حيث تجاوز عدد اعضاءها المائة عضو بعد عدد من التحالفات رغم بعض الأنسحابات مما جعل هذه القائمه تلعب دورا محوريا لايقل عن دور التحالف الوطني الذي يقود السلطة التنفيذيه الا ان تظاهرات المناطق الغربيه اثبتت ان نواب هذه القائمه لاقيمة لهم وسط شارعهم بحيث تسيد قيادة هذه التظاهرات عدد من القوى المتقاطعه فمن السلفيه التي ترتبط بالقاعده والتمويل الخليجي الى بعض القوى الوطنيه المتبنيه للهموم التي يعاني منها شارعها والتي لاتربطها بالقائمة العراقيه اي رابطه اضافة للدور العشائري الذي اثبت انه دور مفصلي ومهم حيث عكس هذا الدور فداحة ضمور النمو الأجتماعي في العراق فهو يعد بحق احد ابرز المفارقات الملفته للنظر ونحن نتكلم عن الممارسة الديمقراطية التي تعتبر اخر ابتكارات العقل البشري في تداول الحكم بينما العشيرة او القبيلة التي تعد احدى التشكيلات البدائيه للظهور الأجتماعي لاتزال تملك نفس القوة والتأثير في عصر العولمة والديمقراطية وثورة المعلومات .
لقد جاء اقرار الموازنه ليبعث رسالة ثانيه الى قوة سياسية اخرى لاتقل حضورا وتأثيرا في المشهد السياسي المحلي عن القائمة العراقية الا وهو التحالف الكردستاني الذي كان يلعب كما يقولون دور بيضة القبان في التجاذبات السياسية والذي كان يراهن كثيرا على هذا الدور في انتزاع اكثر من اربعة مليارات دولار من الموازنه لتغطية نفقات الشركات النفطية الأجنبيه العاملة في مناطق الأقليم على اساس المشاركة دون اي مقابل حقيقي للدولة الأتحاديه وانحسار دور هذا الأتحاد بهذه الدراماتيكيه سينعكس سريعا على بنائه السياسي الذي كان يراهن اساسا على حاجة التحالف الوطني الماسه اليه في تمرير بعض القوانين بينما جاء اقرار الموازنه ليثبت لهذا التحالف عن انتفاء الحاجة اليه وانه لم يعد بتلك الأهميه ومثل هذا الأمر سينعكس بالتأكيد على الوضع في الأقليم فمثل هكذا اوضاع ستحجم بدورها قيادة الأقليم لكي لا تذهب بعيدا في تعاطيها مع المركز لكي يكون هذا التعاطي موافقا للدستور .
كما ان اقرار الموازنه عن طريق الأغلبيه اسقط للأبد وبالضربة القاضية عملية التوافقات والمحاصصه الطائفيه والسياسية وبالتالي سيجبر كل الفرقاء السياسين بعد اليوم الى اعادة ترتيب اوراقهم ومراجعة برامجهم لكي تتوائم مع الواقع الذي افرزه تصويت الموازنه والذي أحيا الآمل من جديد بتجربة العراق الديمقراطية ليس بالنسبة للعراقيين وحدهم فقط بل لبقية شعوب المنطقة التي انطلقت في ربيعها العارم الذي هز المنطقة من اقصاها الى اقصاها وعينها ترنو لديمقراطية العراق التي لم يسعف نموذجها المتعثر والمتلكأ تلك الثورات بل انه كان مساهما اساسيا في نكوص ثورات الربيع العربي ومصادرتها من قبل القوى الرجعيه والسلفيه لأن التقزم الذي افرزته المحاصصة والتوافقات الحق بالتجربه العراقيه ضررا فاداحا ولم يرقى بالديمقراطية العراقيه لمستوى ان تكون قدوه يحتذى بها .
بعد اليوم سيشهد المشهد السياسي تحولات ضخمه في تركيب القوى السياسيه ومشاريعها رغم علو نبرة الصراخ الطائفي الذي حاول البعض الوصول به الى ابعد مدى داعما صراخه هذا ببعض العمليات الأرهابيه الدمويه ليأتي التصويت على الموزنه عاكسا اصطفافا سياسي فعالا يملك من الثبات والأستمرار سيكون قادرا بكل تأكيد على الحيلولة بأن يكمل المتطرفون مشروعهم الهادف الى ايقاد الحريق الطائفي الذي لو قدر لهم وتمكنوا من ايقاده هذه المرة فإنه لن يبقي ولايذر فذكريات التراشق الطائفي الدموي في اواسط العقد الماضي لاتزال حيه في الأذهان وما نراه حاصلا الآن في المشهد السوري يشكل نموذجا يساهم هو الأخر في إحياء تلك الذكريات الأليمه وليساهم في تعويق هؤلاء الصارخون ويحول بينهم وبين الوصول الى مايبتغون فالجميع ايقن ان اي اقتتال طائفي أخر لن يخرج اي فريق منه ظافرا وستلحق الخساره بالجميع ولعل بقاء الوضع على ماهو من سوء هو اهون الشرين .
لقد كان التصويت على الموازنه اشبه بالمعجزه ولااغالي ان شبهتها بعصا موسى فإفرازات هذا التصويت ستنعكس على عموم الوضع السياسي العراقي وكما نوهت فهي المرة الأولى التي تستطيع فيه الديمقراطية العراقية ان تقف على قدميها ولكي يكون هذا الوقوف مستمرا ودائما ولايكون لمرة واحده وأخيره فإن على المتصدين في قمرة صناعة القرار ان يحسنوا الأمساك بهذه العصا فإنها الفرصة الأخيرة لإعادة عربة الديمقراطية العراقية الى السكه وبدون هذه الديمقراطية فلاضمان لأي قوة سياسية مهما كان موقعها الحالي في هرم السلطه .